قال الاحتفالي: أنا الذي رأيت وحكيت ما رأيت (7)

قال الاحتفالي: أنا الذي رأيت وحكيت ما رأيت (7)
 
الحقيقة ليست وجهة نظر
 
 
د. عبد الكريم برشيد
 
   إن من طبيعة ذلك الاحتفالي الذي يسكننا ونسكنه، أنه هو الواحد المتعدد، وأنه القديم المتجدد، وأنه الأول المتمدد، وأنه الكاتب الذي يحترق بجمر الكتابة، والذي يموت ويحيا بالكتابة وفيها، والذي يسعى لأن يدرك درجة الحضور المتجدد بالكتابة العلمية والشعرية، هذا الكاتب الاحتفالي يمكن أن يكتب في كل المواضيع، سواء صغر شأنها أو كبر شأنها، لا يهم، لأن الأساس هو روح هذه الكتابة، وبذلك، فبإمكان هذا الكاتب أن يحيا بصدق، وأن يبدع كتابة حيوية صادقة، وأن يكتب عن كل شيء، وعن كل الناس في الحياة، وهو بهذا لا يختار ولا ينتقي ولا يستبعد، وهو في حياته وحياة كتابته لا ينحاز إلى جهة من الجهات، وهو بهذا مواطن كوني من أهل كوكب الأرض، فلا هو يميني مع اليمينيين ولا هو يساري مع اليساريين، ولا هو تقدمي مع التقدميين، ولا هو رجعي مع الرجعيين، وقد يكون أماميا، نسبة إلى الأمام، أو يكون وجوديا، نسبة إلى الوجود، في معناه الشامل، وليس إلى الفلسفة الوجودية تحديدا.
   وما يميز هذا الاحتفالي، الوجودي والكوني، هو أنه مقتنع بأن الحقيقة، في معناها الحقيقي، هي أكبر وأخطر من أن تكون مجرد وجهة نظر، أو أن تكون رؤية خاصة من زاوية معينة، أو تكون شعار فئة أو شعار جهة أو شعار مرحلة عابرة او شعار جيل عابر، وهو يكتب عن القبح، تماما كما يكتب عن الجمال، ليس حبا في هذا القبح، والذي تؤكد الاحتفالية دائما على أنه واقعي وليس حقيقي، وعلى أنه مجرد عطب عابر، وذلك في مسيرة الأيام والأعوام وفي سيارة الإنسان المسافر في طريق هذه الأيام والأعوام، وهي تكتب فيه وعنه، بحثا عن الجمال المختبئ فيه، ولعل أهم ما يميز هذا الكاتب الاحتفالي هو أنه يتعامل مع العالم كما هو هذا العالم، بدون إسقاطات، وبدون خلفيات، وبدون أحكام مسبقة، وبدون حسابات سياسية أو عقائدية، وبدون حساسيات عشائرية أو مذهبية، وهو مؤمن بأن كل الأشياء لها وجه ظاهر وباطن خفي، وأنها كلها تحمل في ذاتها ما يخالفها وما يناقضها، وبأن ما قد يطفو على سطح البحر هي الطحالب وهي الزبال دائما، أما الجواهر الثمينة فهي أعمق أعماق الماء، وهي بالتأكيد لا تحتاج إلى صيادين، ولكنها تحتاج إلى غواصين، وأغلب النقد الذي عاش على تصيد أخطاء الاحتفالية والاحتفاليين قد ارتكبه صيادون وقناصون، ولم يقم به غواصون في العلم والفن والفكر وفي الصناعات الأدبية والفنية، إن الأشياء، في أغلب الأحيان، تحمل عناوين كاذبة، والعنوان الأبرز في نقد الاحتفالية هو الفرح، وهل الحياة فرح فقط؟ وما هو توأم هذا الفرح؟ وما هو وجهه الخفي؟ ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي في تقديمه لاحتفالية ( المقامة البهلوانية) يقول، موجها كلامه لكل من يهمه أن يحيا الحياة الصادقة بصدق، لقد قال:
(كن متفائلا لحد التشاؤم، وكن متشائما لحد التفاؤل
واضحك لحد البكاء، وابك لحد الضحك
وادفع بكل الحالات إلى أقصاها وأعلاها
وفي أقصى أية حالة لا يمكن أن تجد إلا ما يخالفها وما يناقضها)
 
   ونحن في مسرحية الحياة نبحث عن الفرح دائما، لأنه غائب أو مغيب، ولو كان حاضرا ما بحثنا عنه، ونحن نبحث عن العيد، لأنه نادر وبعيد جدا، وانه غائب او مغيب في أغلب الحالات، وذلك في حياة الناس اليومية، والتي تؤثثها الأيام العادية والمتشابهةلحد الملل، ونحن نعشق العيد ونسعى إليه، لأنه، ليست كل الأيام هي أيام العيد، وبحسب قانون العرض والطلب، فإن طلاب الفرح أكثر بكثير من حالات الفرح المعروضة في حياتنا اليومية، وبهذا فقد كان الفرح غاليا جدا، وكانت السعادة ـ في هذا البؤس الواقعي ـ هي أعز ما يطلب، وهذا ما يفسر أن يكون للمشروع الاحتفالي في الوجود كل هذه القيمة الغالية وهذه القامة العالية، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في كتابه (أنا الذي رأيت):
(لقد اقتنعت بأن أجمل الأشياء، هي الموجودة في العيون الجميلة، وليس في الصور الجميلة أو المجملة، واقتنعت أيضا، بأن أصدق كل المعاني هي الموجودة في الصدور الصادقة والعاشقة ، وليس في السطور البراقة)، هكذا تحدث الاحتفالي في كتاب (أنا الذي رأيت).
 
الرؤية الاحتفالية ليست فرجة
   وإنني أنا الذي رأيت، في حياتي وفي حياة أفكاري، لم أقف عند حد الرؤية البصرية من بعيد، او من أعلى، ولقد اعتبرت دائما، بأنه لا يليق بالاحتفالي، عاشق الحياة والأحياء، أن يكون متفرجا، وأن يطل على هذا العالم من النافذة، أو من الشرفة، أو من أي برج من الأبراج العاجية في السماء العالية، أو أن ينظر إلى هذا العالم الواسع والرحب من ثقب المفتاح الصغير والضيق، تماما كما فعل صديقي ابن الرومي في مسرحية (ابن الرومي في مدن الصفيح) وإنني، أنا الاحتفالي، أشهد على نفسي، على أن كل ذلك رأيته، من مشاهدات صادقة حية، قد رأيته في اليقظة والمنام، ورأيه في حال الصحو، وتمثلته في حال السكر الصوفي، ورأيته في عالمي الخارجي، كما عشته في عالمي الباطني، ولقد رأيته أيضا بعيون شيوخي وأساتذتي قي الفكر والعلم والفن، والذين تعلمت منهم كيف أرى هذا العالم، في علمه وسحره ، وفي جماله وقبحه، وفي كائنه وممكنه، وفي واقعه ووقائعه، وفي حقيقته الغائبة والمغيبة
نعم، أنا الذي رأيت؛ هكذا قلت وكتبت دائما، وهكذا سميت كتابا من كتبي، والذي هو كتاب (أنا الذي رأيت) وإنني أعترف، بأن كل ما رأيته وعشته، من حالات ومقامات ومشاهدات، لم يكن ممتعا ولا مقنعا دائما، ولقد كان فيه شيء كثير من الخوف ومن القلق ومن الاندهاش ومن التعجب ومن الشك ومن الحيرة ومن الملل ومن السأم ومن الضجر ومن الغضب في أحيان كثيرة جدا، ولكن نسبة التفاؤل في نفسي وعقلي، كانت هي الأكبر، وهي الأخطر دائما، ولولا ذلك، فهل كان ممكنا أن أكون احتفاليا، بشكل حقيقي، وأن أصمد في وجه الرياح والأعاصير، وأن أقام في صمت تقلبات المناخ الثقافي المغربي العربي، والتي لا يحكمها العقل العاقل، ولا تستقيم مع أي منطق كيفما كان.
   ولقد كان من الممكن أن أكون أنانيا، وأن أحتفظ لنفسي بكل ذلك الذي رأيت، بكل ما فيه من معرفة ومن جمال وكمال ومن مشاهدات سحرية ومن متعة فنية، وأعترف بأنني لم أقدر، مع انني لم أحاول، لأن ما رأيته وسمعته وعشته كان أكبر وأخطر مما كان يمكن أن أحمله وأتحمله وحددي، ولذلك فقد فتحت أبواب قلبي وروحي، وأدخلت كل الناس إلى عالمي، وأشركتهم معي في اندهاشي أمام الناس والأشياء، ولقد حكيت لهم عما رأيت، واقتسمت معهم متعة الحكي والحكاية، وأصبحت بذلك حكواتيا، من حيث لا أدري، وإن كل ذلك أعطيته للناس في بلدي، وفي كل بلدان العالم، لم يكن مجرد كلام في كلام، ولكنه كان فيض روحي، وكان فيض وجداني، وكان فيض عقلي، وكان فيض أحلامي، وكان فيض خيالي الخلاق. وكان فيض تأملاتي وتأملات شخصياتي المسرحية، والتي ساعدتني من أجل أن أكون شاهدا على العصر، وشاهدا أيضا على حياة الناس في هذا العصر، والذي عرف هزات كبيرة وخطيرة جدا.
   لقد رأيت، أنا الكاتب الإنسان رأيت، واقتنعت دائما، بأن الحلم الصادق والشفاف، في عيون الشعراء والحكماء والمجانين والعشاق الصادقين، هو أجمل من الواقع، بكل وقائعه الكاذبة والمزيفة، والذي يصنعه الانتهازيون والوصوليون والزعماء والهتافون والمصفقون والمؤرخون الرسميون، ولقد اقتنعت بأن هذا الواقع الذي يصنعه السياسيون المحترفون ليس حقيقيا، وأنه قد ينتمي إلى الحفل التنكري، بكل أزيائه وأقنعته، ولكنه أبدا لا يمكن أن تكون له أية علاقة حقيقية بالتعييد الاحتفالي الحقيقي، ولقد اقتنعت أيضا، بأن الأشياء الغائبة والمغيبة والمخبأة والمبعدة، هي الأكثر سحرا، وهي الأكثر جاذبية، وهي الأكثر إمتاعا وإقناعا، وعليه، فإن لوحات الوجود الجميلة، تماما كما هي لوحات الفنانين التشكيليين، تحتاج دائما لأن نرجع خطوات إلى الوراء، حتى يمكن أن نراها بشكل أحسن، أي كما هي في جمالياتها السحرية والشعرية، وليس في موادها المادية والطبيعية المكونة لها، والتي قد تكون مجرد أصباغ بل قيمة، او مجرد مواد طبيعية او كيماوية.
 
فكر جديد لرؤية جديدة
   ولقد اقتنعت أيضا، أنا الاحتفالي المجدد والمتجدد، بأن هذا الواقع الجديد، يحتاج إلى فكر جديد، ويحتاج إلى علم جديد، ويحتاج إلى مسرح جديد، ويحتاج إلى صناعات أدبية وفنية جديدة، وعليه، فإن من حق من يولد هذا اليوم، أن يفكر تفكير هذا اليوم، وأن يرى العالم بعين هذا اليوم، وذلك انطلاقا من الثوابت الأساسية والمحورية، والتي هي مركز العقل المفكر، في كل زمان ومكان، وبهذا يكون للجديد معنى التجديد، أي تجديد ما هو موجود أولا، وما هو قديم ثانيا، وما هو قابل للتجديد ثالثا.
   في هذه الكتابة الاحتفالية، أتحدثت دائما عن المعاني الرمزية، وذلك في كليتها وشموليتها و مطلقيتها، وبحثت في المسائل والإشكاليات الحقيقية، والتي لها علاقة بالإنسان وبالأرض وبالعقل بالإبداع وبالتاريخ في كل أبعاده ومستوياته، ولقد وقفت دائما عند الأسئلة الحقيقية الحارقة، والتي تخص كل الناس، من غير أن تخص شخصا معينا فيهم، ولا أظن أنني من الممكن أن أكون قادرا على الجواب عليها كلها، وقد يكون مطروحا على الأيام والليالي، وعلى الأعوام القادمة الإجابة عنها، ولهذا فإنني لا أرى ضرورة لأن أتحدث لغة الخشب، وأن أقول بأن كل مشابهة بين هذا المكتوب وبعض الأسماء في هذا الواقع مجرد مصادفة، ولا شيء غير ذلك وأكثر من ذلك، اقول هذا مع إيماني بوجود شيء تسميه الاحتفالية باسم الصدفة الموضوعية
   إن قدر هذا الاحتفالي، والذي لا أدري، إن كنت أحمل وجهه الحقيقي، أو كنت فقط أحمل قناعه وزيه وظله، قدره المكتوب في اللوح المحفوظ هو أنه كائن مبصر، ليس بعينيه فقط، ولكن بقلبه ووجدانه وبروحه وخياله، وبكل حواسه وملكاته الخفية، وبإمكان هذا الاحتفالي أن يتحدى المكان، وأن يرى الغائب، وأن يكون أسرع من الصوت ومن الضوء، وأن يتحدى الزمان، وأن يرى كل ذلك الذي كان في ( سالف العصر والأوان) وأن يرى أيضا، كل ذلك الذي يمكن أن يكون مستقبلا، أو ذلك الذي ينبغي أن يكون (في حاضر العصر والأوان).
   هذا الرائي الاحتفالي هو العراف أو المتنبئ، والذي يمكن أن يرى عن بعد بعيد جدا، تماما مثل جدته زرقاء اليمامة، ومثل ترزياس في مدينة طيبة، ومثل المعري الذي رأى ما سوف يقع يوم القيامة، وهذا الكاتب ـ الحكواتي الاحتفالي، في حياته اليومية، شغوف دائما باقتسام معرفته بالناس مع كل الناس، ويرى أن دوره في الحياة هو أن يحكي لهم عن كل ما يراه ويحياه، وأن ينظر إلى مبدأ الخلق في الحياة، وأن يعمل على سرقته أو استعارته أو اقتباسه من الحياة، تماما مثل برومثيوس سارق النار، وهو مطالب في هذه الكتابة أن يكون حكواتيا ومحاكيا للناس والحياة،، وأن يكون خلاقا أيضا، وأن يكون غنيا وعارفا ومريدا وقادرا وساحرا، وأن يكون كل ذلك في حلمه، والذي هو عالمه الخاص، والذي فيه من العجائب والغرائب، ما ليس في عالم الناس والحجارة، وأن يستعين في هذا العالم الخاص بخياله اللامحود، على واقعه المادي المحدود، وذلك من أجل الانفلات من سجون هذا الوجود.
 
تساؤلات الخروج والانصراف
   ونتساءل، في ختام هذه المقالة، بخصوص هذه الاحتفالية، والتي هي أساسا رؤية للعالم، والتي وجدت معادلها في الكتابات الفكرية والإبداعية، هذه الاحتفالية كيف انكتبت؟ وبأية لغة يمكن أن تنكتب ، آنيا ومستقبليا ـ بشكل أجمل وأكمل وأنبل. وان تكون أكثر إقناعا وأكثر إمتاعا وأكثر إدهاشا؟
   هي المسرح، أولا وأخيرا، وهذا المسرح لا يمكن أن ينكتب بغير لغة المسرح، والتي هي لغة كونية صالحة لكل الناس في كل زمان ومكان، هي لغة فردوسية عابرة للقارات والثقافات والإثنيات والعاميات المحلية، والموغلة أحيانا في المحلية المغلقة على نفسها، وهي بهذا لغة (أكبر من اللفظ وأرحب من الأصوات والإشارات،) والتي يمكن (أن نستخرجها من الأزياء والوشم والحناء والعمران والقصص والحكايات والاحتفال والخط والفسيفساء والأساطير والأخلاق والألعاب والآداب والرقص والحكم والعادات) وبهذا نطق الاحتفالي في كتابه (حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي).
   هذا الاحتفالي هو الذي قال في كتاب ( الرحلة البرشيدية) وهو يقدم نفسه (أنا نصف عالم ونصف جاهل، وصف فنان ونصف صانع، ونصف عاقل ونصف مجنون، ونصف صادق ونصف كذاب، ونصف إنسان ونصف حيوان) ولأنه ليس ملاكا ولا قديسا، وليس بطلا ملحميا، ولا شخصية أسطورية، فقد قال٪ إنني (أعمل دائما على أن أنتصر على حيوانيتي التي بداخلي، وأكبر حروبي هي التي أخوضها ضد نفسي).
وفي (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة ) يتساءل الاحتفالي( هل كل ما أراده هذا الكاتب ـ المبدع الاحتفالي وجده؟
   وهل كل ما سعى إليه وصل إليه وأدركه؟
   وهل الكتابة الاحتفالية ترجمة صادقة وأمينة للرؤية الاحتفالية؟وأين يتجلى صدق هذه الترجمة؟ في مطابقة المفكر فيه لحال المكتوب ولحال المعيش اليومي للاحتفاليين؟)
   هذه الأسئلة، واخرى غيرها كثير، هي التي سوفنجيب عنه المقالات او البيانات التي سوف تأتي، واقول عنها بيانات لان كل ما يكتبه الاحتفالي ليس إلا بيانات.
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *