قصة للكاتب المغربي محمد الهرادي: الفقيه والنملة

قصة للكاتب المغربي محمد الهرادي: الفقيه والنملة

محمد الهرادي

هــو

ــ هل النملة لها مصارين ؟

حاول  الفقيه استيعاب هذا السؤال الذي حيّر العلماء، دوّره  في رأسه مرات عديدة ولم يجد له إجابة يبلل بها الريق. وضع جانبا منظومة الشمقمقية التي كان يتسلى بحفظ مفرداتها الثمينة، وأمسك بشرح سيدي خليل، فتح الكتاب وبدت له الحروف صغيرة جدا، ملتصقة ببعضها، لها حركة بطيئة وهي تسبح أمام عينيه،  ثم تقتفي أثر بعضها وهي تدب بحركة سريعة، فتبدو كمجموعة من النمل المتحرك في صف طويل، نملة وراء نملة، والواحدة تلو الآخرى، وهي تحتل الأسطر والصفحات، وكل ذلك يحوّل المدوّنة التي استنجد بها الفقيه إلى مجمّع سكني حي يقطنه قوم آخرون، أما هو، فقد لعن الشيطان الرجيم، وواصل القراءة متخطيا بصعوبة كلمات الشيخ خليل، كلمة بعد كلمة، ونملة بعد نملة، وهو يردد مع نفسه: ادخلي مسكنك لعنة الله عليك، ادخلي إلى الصف أيتها الكافرة  .

  هـــي

 نملة عذراء جميلة. تخيل، لو أنها تزوجت رجلا مثله، بلحيته المصبوغة ، وأصابعه الجافة كعيدان الحطب، وبنفسه الكريه الذي ينبجس خارجا من فمه كلما تكلم، تصور، لو أنها أحبته، وتعانقا، وأطلقا العنان لضحكهما، وحملقت فيه بعينيها، وتلمست شعيرات شاربه الحليق، وفركت بأصابعها الرقيقة لحيته الطويلة، وعيناها تكاد تدمع من الضحك، ووقفت بعد ذلك أمام المرآة، وكشفت عن خصرها النحيل، تصور، نملة جميلة عذراء، بقرون استشعار معقوفة، تمشط شعرها الكستنائي أمام المرآة، وتجعل الأمل يعشش في قلب الفقيه، وهو يلاحظ استرخاء عجيزتها المكورة على المقعد الصغير، ولحمها يفيض على الأطراف، وحين ترفع شعرها، يتأمل قفاها، حيث ينبت زغب خفيف في المنطقة الظليلة التي لا تراها الشمس، وهو يفكر في العض، وفي حلاوة الحلال، وحلاوة الحرام ، وليترك بقعا حمراء على العنق، تخيل، لو أنها لم تتمادى في استفزازه، ولم تمد يدها الصغيرة بدلال لتسلم عليه، دون أن تقبل يده الممدودة،  لما حدث أي شيء، ولما سقط الفقيه المسكين  في فخ الإغراء، وبحث عن دليل براءته في الشمقمقية، وفي الجواب عن سؤال مصران النملة .

الفقيه

يرفع ذيل جلبابه حين يعبر الزقاق، يقفز بحذر على البرك الصغيرة التي أحدثها المطر، وتقفز خلفه قطته الصغيرة التي لا تفارقه، ثم يلقي نظرة خلفية على ذيل الجلباب، وعلى حاشية البلغة الملوثة بالطين، وهو لا يبتسم، والقطة  تتسلى بمطاردة الضفادع الصغيرة التي تظهر كلما سقط المطر، وهو لا يرد التحية العادية، لا يردها على الإطلاق، بل ينظر إلينا بعين ثاقبة، فيها اتهام. ويقول :

ــ السلام عليكم ..

حين نراه، نتوقف عن اللعب، يمسك أحدنا الكرة ويخفيها خلف ظهره ، وننتظر، لكن قبل أن ندعه يمر، ويدعنا في سلام، يتقدم أحدنا ليقبّل يده اليابسة  كأعواد الخشب، لا يبتسم، يمد يده بمتعة ظاهرة ، ونتقدم تباعا بعد ذلك لتقبيل تلك اليد، وهو يسأل : من هو أبوك ؟ هل أنت ابن فرتلان ؟ وابن فلان ؟ وأمك هي زليخة ؟ ولا نرد، نعرف أنه يعرف، وأنه متوجه إلى داره، وإلى زوجته الثانية، أو الثالثة، لا ندري. لالاتي  ومولاتي صغيرتان وجديدتان، والحاجّة زوجته الأولى هي التي تعرف. وهو يومئ برأسه المغطى بقبّ الجلباب، وعلامة الرضا بادية في عينيه، ونعرف ذلك حين يفتل طرف لحيته، رغم أن بعضنا لوث يده بمخاط لزج، وبقليل من العرق الذي يزداد كلما توقفنا عن اللعب .

كنا نراه عند الغسق، وحين تطلع أولى تباشير الصباح، وفي ساعات الظهيرة الخالية من الحياة، وفي الصباحات الأخرى التي يغشاها الضباب، وحين يسقط المطر، وفي ظلمة الليل، وبعضنا يراه في الأحلام، والفقيه يمسك بالعصا ويضرب الساقين، كي نعجز عن الهروب، ونحن داخل الحلم، وبعضنا يراه يقطع رؤوس الكافرين، ويحشر آخرين في الجحيم، أو يسمعه يتكلم في الراديو.

نعرف أنه يستطيع أن يجمّد الماء في الكأس إذا نظر إليه بتركيز، وأن يكتب كلمات سوداء على الأواني ليجعل الأمراض تأتي، أو تختفي، لكننا لم نفهم كيف استطاعت نملة صغيرة جدا، أن تهزم الفقيه الذي يخيفنا بعينيه المتفرستين، وهي ترسل إلينا إشارات منذرة . 

النملــة  

لها ابتسامة غريبة وهي تسير بين العربات، والطالعين والنازلين، وهي تتجول في الساحات، وتصيح، وترفع الشعارات، وتقطع الشوارع والأزقة بخفة ونزق، ويمكن تمييزها عن باقي النمل، بذراعيها العاريتين، الموشوم فيها قلب أحمر صغير، وبشعرها المتحرر، وخصرها النحيف.

نقف في تقاطع الشوارع ونراها، تسبقها أصواتها، وهي بأصواتها المجلجلة تحدث الضجيج، وتطاردها أصوات الصافرات، ويوما بعد يوم، تجعل رجال الشرطة يخرجون عن طورهم، وهي تدخل وتخرج، وتظهر وتختفي، ترتدي سروال الجينز والقميص المربوط الذيل على البطن، وشعرها متحرر يرفعه الهواء، ووجهها، نعم، له لون المشمش، أحيانا يصير بلون الخوخ، وومضات تسطع من نور وسط الأشياء المعلقة على عنقها، وهي تجتاز صفوف الشوارع ، والمنازل، بلا توقف، وتصرخ، وتريد تغيير كل شيء، ولا تفكر في النوم، ولا في الأكل، أما حين تشرب الماء، فإن كل رشفة ماء كانت تهمس لها بشيء ما، وتقول لها كلاما خاصا، وبصدق كامل .

لم نعد نراها منذ التقينا آخر مرة بالفقيه، ومعظم الناس يزولون، ويحل آخرون محلهم، وسيختفون بدورهم بعد ذلك، لكنها كانت مختلفة، ولا يمكن أن تختفي، ونتصور لحماقتنا أنها لا تنتمي إلى مستعمرة النمل، ونعجز عن تصور أنها تعيش في تجويف صغير، مثل كل البيوت والحفر والشقوق التي أحدثتها التصدعات، ونعرفها جيدا، ونعيش فيها .

الفقيه والنملة

 ساد الهدوء فجأة حين دخلت النملة على الفقيه المقيم في الصومعة. هدوء دافئ، لكنه متوتر.

قال الفقيه :

ــ تذكري اللحد الضيق وأنت في القبر، وقبلها لهفة الموت، والظلال التي ستغطيك وترفعك إلى جهنم ، وللأسف، ستموتين وأنت عذراء ..

ونظر إلى ساقيها النحيفتين بطريقة مبهمة، وأكمل حديثه :

ــ على باب جهنم سيسألونك ماذا فعلت، وأنت بماذا ستجيبين يا حطب النار ؟ ماذا كتب في سجلك من حسنات ؟ لا شيء، وأنت تسابقين الريح، وتتجاوزين الحدود، وتنسين أن النار ستشويك، وستحرقك، ومن رمادك تبعثين، ثم تحرقين، وهكذا إلى أبد الآبدين، ولا أحد يسمع صراخك يا كافرة، ولن يكون لك صوت لتصرخي، بل ستكون لك عينان فقط ، عينان ترين بهما أحشاءك وهي تذوب من شدة العذاب، لكن، هل لأمثالك أحشاء ومصارين ..؟

فكرت النملة في كل العذاب المنتظر، وسألت الفقيه :

ــ أنت قل لي ، هل للنملة مصارين ؟

الشمقمقية

ابن ونان الذي كتب الشمقمقية رجل لطيف، وبلا شك يحمل على كتفه وحمة العبقرية، ولذلك فهو الرجل المناسب الذي لجأ إليه الفقيه لحل مسألة مصارين النملة، مع أن الشمقمقية نفسها بلا مصارين ، بل هي بناء من طوابق يشبه العمارة ، بينما النملة مجرد كائن له شبه بعقدة مميزة، مربوطة بإحكام .

في البداية، فكر الفقيه في  العيون اللئيمة، عيون النمل، وفي السمّ الذي تنفثه، كلما كشفت تلك العيون عجزه عن حل مسألة المصارين، وتذكر أيضا أن عضتها الصغيرة في القبر، وهي تفني وتلتهم كل اللحم البشري منذ بدء الخليقة، لا يمكن مقارنتها بأية قوة غاشمة، وتفتق ذهنه وأطلق فكرة مثيرة، وهي أنه لا يمكن للنمل أن يحدث كل هذا الفساد في الدنيا دون أن تكون له مصارين، وحين أراد إثبات ذلك بالفعل، وجد في يده الفراغ، لكنه قال لنفسه : ” مهلا ،على رسلك ” و ” لا تكلفها بما لم تطق ” ، وهو لا يدرك بالطبع، أن عقله الصغير لا يستطيع حل المشاكل المعقدة، من صنف هل للنمل مصارين، ومع ذلك، وجد سلوته في مئات الكلمات التي تعتاش من جسد الشمقمقية دون أن تفارقه، فهي كلمات تشبه النمل،  وبدون تلك الكلمات التي تعض وتقضم ولا تشبع  ، ستكون الشمقمقية مجرد أرض جرداء، أرض من كلام، لا طعام فيها ولا إدام .

بحث  الفقيه بين مقتنياته عن معنى الفدفد ، وحادي الأينق ، والحراجيج ، والجورق ، والوجا ، والقرواء ، وفي عشرات الكلمات الطلسمية كي يصل في النهاية التي لا تأتي إلى حقيقة النمل الخفية، وهو ينهش باستمرار جسد الكلمات، لم يدرك أن تلك الحقيقة  كانت طيلة الوقت أمام ناظره، عالية في السماء على مستوى النجوم، وعلى الأرض، تطوح به وتدوسه، وفي الروائح، وهي تغزل من حوله بساطا يغمر الأنفاس، ووحدها كانت النملة التي هددت بالعذاب تعرف . أتذكرون ؟

روح     

في العالم الآخر، وقد نبتت على أكتافنا أجنحة، كنا نرى النملة عازفة عن كل شيء، تجلس متوحدة على صخرة ، تبكي ، وقدمها منقوعة في مياه  جدول ماء، وملائكة صغار بملامح صبيانية يكفكفون دمعها ويتضاحكون .

من شرفة الملعب المعشوشب ، حيث كنا نلعب ونطير، بعيدا عن أعين الفقيه ، كنا  نراها ، شاحبة ،  تتأمل تلك الجنائن الغرائبية ، وهي تلاطفنا  بإشارة من يدها : خليج اصطناعي، ولسان مائي يخترق غابة صنوبر صغيرة كثيفة الأشجار، ممرات مسقوفة بأعراش لبلاب، ودوالي عنب تتدلى منها عناقيد ياقوتية. نهود أفروديتية صغيرة حلوة مصبوبة  من مرمر، ينبجس منها  نبيذ عطري . ألحان مزاميز وقيثارات يعزفها صبية موزاريون، لهم أجنحة شفافة، ينشدون تراتيل ربانية. نوافير صغيرة تنفث رذاذها الرشيق مع إيقاع الموسيقى ، لماذا ؟ لتجعل ماء  الخلود  يتراقص مع  ذاته. تشكيلة أحواض زهور على الطراز الياباني، تخترقها مجاري من عسل أبيض ، يطلق وهو يتدفق بسكينة أصواتا  منومة. قطعان غزلان راكضة ـ طائرة في الهواء ، تطاردها فهود سود ، تمتطيها حوريات عاريات الصدور، يسابقن الريح وهن يمسكن بالغمام كما يُـمسَكُ بالسياط ، وعلى امتداد لانهائي من خضرة العشب في المرج اليانع ، حيث تحفر الأرانب مساكنها، تقف شجرة  ضخمة قاتمة الخضرة ، وحيدة على تل يحد المرج المفتوح، لكنها تشرف على حافة الطريق حيث الغابة والنهر الفاصل المحاذي  لمنطقة العذاب. أين نحن بالفعل ؟ وخلف كل ذلك سلسلة جبال بركانية ، تنفث ، من حين لآخر، حمما  بلون الدم  على سكان الطرف الآخر حيث العذاب ، والنملة لا خوف عليها من هذا المكان الخالي من الذوق ، مع أن أخبار الفقيه الذي اقتيد إلى هناك، كانت  تثير اهتمامها، وربما أحزانها .

غبــار

اسمع. واحفظ ما أقوله لك  .

بالطبع. قام الفقيه بما هو غير مناسب . ضغط على جرس الباب، ثم انتظر لحظة، بعدها ضغط مرة أخرى بشدة، ثم سمعنا صوت النملة المتذمر، قبل أن تفتح له الباب، ويدخل .

من شق النافذة رأيناه، برأسه الأصلع الوردي، وهو يتكلم، ويفتل أطراف لحيته، وبعدها أخرج حافظة نقوده، ولم نكن نرى النملة، ولم نكن نتصور أن الفقيه توصل إلى جواب لمسألة المصارين، كنا نعرف فقط  أنها هناك، وأنها ظلت صامتة طيلة الوقت، إلى أن سمعنا ولولة، وصوت صراخ .

لا أحد يعلم ما الذي حدث. قد تكون سبلت عينيها وهي راقدة على الفراش . الموت نهاية كل المخلوقات. لكن موجة حزن غمرتنا، ثم بعثرت ما تبقى منا، كالغبار. كالغبار.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

خاص بـ”السؤال الآن”- من مجموعة قصصية لمحمد الهرادي قيد النشر بعنوان: “نفس حزينة حتى الموت”.

شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *