ربما أكون مهووساً بالتغيير
ترجمة: صلاح محمد خير
تعبان لو ليونغ
حينما كنتُ فتىً يافعاً، كان لديَّ اعتقادٌ بأن الناشرين يحبُّون نشرَ القصص على نحوٍ خاص؛ فالعديد من القصص كانت تُنشر في (دليل أوكسفورد لقرَّاء القارَّة الإفريقية). كان ذلك الدليل يحوي حيواناتٍ تُسَمَّى (أنانسي) وبشراً يُسَمَّوْن (لاكايانا) تدور حولهم القصص. كان عنوان ناشر هذه الدار هو (دار آمين). كنا نتعجَّب كثيراً لهذا العنوان. هنالك أيضاً دور نشر مثل لونغمان وغرينمان وكوكس. بإمكان المرء أن يتقبَّل فكرة أن يكون الإنسان (طويلاً) لكن فكرة أن يكون الإنسان (أخضر) فذلك شيء آخر.
إذا لم يكن بوسعنا تذكُّر دروس النحو والتمارين المصاحبة لها، فإننا الآن مدينون، على الأقل، لتلك الأطباق الشهيَّة من القصص الشعبيَّة التي كانت تُجْلَب إلى موائدنا من جميع أنحاء القارة الإفريقية. في تلك المدرسة الابتدائية الواقعة في (أرض الأَشُولِي)، علمنا بأن الرجل الذي يُدْعى (وليم شكسبير) هو أفضل كاتب في العالم. في تلك المدرسة كان يزاملني تلميذٌ له أخٌ في المدرسة الوسطى، يمتلك مسرحية (العاصفة) لشكسبير، بعد استعارتي لهذه المسرحية، وحال شروعي في قراءتها، وجدتها تحوي أعاجيب يصفها الكاتب مرَّةً بجملةٍ تحتوي على كلمة واحدة، ومرَّةً بجملة تحتوي على كلمتين. لم يكن لتلك المسرحية أن تُقْرَأ مثل تلك القصص التي تحوي بشراً يُسَمَّوْن (لاكايانا).
بعدها بقليل، وحينما بلغتُ المدارس الوسطى، وقعت تحت يدي كتب مكتوبة بلغات محليَّة تَرْوِي تواريخ شعوب إفريقية. ثمَّة روايات ومسرحيات أيضاً. كانت تلك الكتب تختلف عن رصيفاتها الأخريات؛ إذ أنها كانت تحتوي على (العهد القديم) وكتب (التعاليم) و(الصلوات) و(التراتيل). كان أحد المعلِّمين يقول لنا: “إن مؤلِّفي هذه التراتيل يعيشون في الطوابق العليا من البيوت الأوروبية، وأنهم يأكلون ويشربون القليل، لكنهم يُكْثِرُون من شرب الشاي والخمر”.
كنا نُبْدِي أسَفَنَا على هؤلاء المؤلفين، لكننا كنا نعتقد بأن لائحة الطعام المتقشِّفة تلك هي التي تُعينهم بالذات على إبداع هذه التراتيل، خاصةً أنهم كانوا أكثر قرباً من الرب. كانت سنيّ دراستي الوسطى مليئة بالخلق والإبداع. قُدِّر لأحد الرجال الكبار في قريتنا أن يكتب كتاباً في التاريخ باللغة العامية، وتمكَّن أيضاً من كتابة مسرحية أخلاقية. تمكَّن ابن هذا الرجل ـ والذي كان يشغل منصب مدير المدرسة آنذاك ـ من كتابة وصف لرحلات الصيد تقدَّم به لـ (جائزة مارغريت رونغ)، أما الابن الأصغر فقد تمكَّن بدوره من ترجمة دوريَّة إنجليزيَّة سنويَّة تهتمّ بالصحَّة.
إذَن، فقد اتَّضَح لي أن كتابة القصص الشعبيَّة والحكايات، فضلاً عن تأليف التراتيل في الطوابق العليا، هي أمور تنطوي على فائدة كبيرة لكتابة التواريخ. عندما كنتُ في تلك المدرسة الوسطى، أرسل إليّ أحد المحاربين القدماء كرَّاسةً دينيَّةً خاصَّةً به بُغْيَةَ ترجمتها. كان هذا الرجل يعيش في مكان ما من الريف الإنجليزي، وقد أصابته (الحرب الكونيَّة الثانية) بعاهةٍ أقْعَدَتْه تماماً. تمكَّنتُ من ترجمة هذه الكرَّاسة، وحَمَلْتُها إلى الكاهن (الذي أصبح فيما بعد الأسقف جاناني لووم) ليقوم بتنقيحها. قام هذا الأسقف بالتنقيح وأرسل الملزمة فوراً إلى إنجلترا، وهكذا طُبِعَت ألوف النُّسَخ من محاولتي الأدبيَّة الأولى. كنتُ على عِلْمٍ بأنَّ الرجل – صاحب هذه الكرَّاسة – كان مُقْعَدَاً، لكنني لم أكن أعرف إذا ما كان يعيش في الطوابق العليا أم السفلى، لكن، ولما كان بالرجل توقٌ عظيم إلى نشر السلام والنوايا الحسنة، ولما كان أخي الأكبر قد جُرِحَ في (حرب بورما) فقد وجب عليَّ أن أمُدَّ له يد العون. وأنا في تلك المدرسة، حَدَثَ أنْ قرَّر أحد شيوخ القبيلة السفر إلى إنجلترا مع مجموعة. كان هذا الشيخ يرى في إنجلترا (وطنَه الأُمّ)، وعند عودته كَتَبَ وصفاً شائقاً لتلك الرحلة بالعاميَّة. كنت مهتماً بترجمة أجزاء من هذا الوصف، خاصَّة حينما يُوْرِد الشيخ أنّ أحد رفاقه من الشيوخ الذين رافقوه في تلك الرحلة، كان ينحدر من أسرة تهتمّ بتربية المواشي، وأنه كان يحبّ الحليب كثيراً. وَجَدَ هذا الشيخ ضَالَّتَه في إنكلترا التي يتوافر فيها الحليب؛ إذ كان يُفْرِغ في جوفه مقدارَ قربة كاملةٍ من الحليب في الصباح، ويجترع نفس المقدار قبل أن يَخْلُد إلى النوم.
كان الصِّبْيَة في قريتنا يموتون ضحكاً من مجهودات الشيخ هذه. وهكذا أصبحَت قصة اجتراع الحليب، وتلك القصص المتعلِّقة بالسرعة الجنونيَّة للقطارات الإنكليزيَّة، والمدن المكتظة بالسكان في إنجلترا، شيئاً لم يُكتب له من قبل أن يُترجم إلى اللغة الإنجليزية.
بحلول ذلك الوقت كنا قد انتقلنا إلى المدرسة الثانوية. كان مؤلِّفُنا الروائيّ الأول، والذي يكتب بالعاميَّة، مشغولاً في تلك الأثناء بتأليف الأغاني، لكنه كان يقيم في بيتٍ ريفيٍّ من طابق واحد ويحتسي الكثيرَ من الماء والبيرة. كانت ثمَّة منافسةٌ لكتابة الروايات بالعامية. ما زلتُ أذكر واحداً من زملائي في الفصل يسمَّى لاكان ماكوو؛ وهو اسم يعني (الرجل المعدم الذي ما زال على قيد الحياة). بعد حصوله على لقب الفوز بجائزة الرواية، كان ماكوو يكدح ليل نهار. كُلِّلَت مجهوداته بالنجاح؛ إذ أن كتابه كان قد طُبِع وأصبح يحترف مهمة التدريس. قام المندوب المحلِّيّ في منطقتنا، وهو رجل طويل القامة يُدْعَى كوتون بوول، بإحداث منافسة أدبيّة في المدرسة. نشطتُ في كتابة مقالة لهذه المنافسة، إلا أنني أفسدتها بالإفراط في تبسيطها، إذ أنها كانت تبدو لي – وياء للمفارقة – جيدة؛ جيدة جداً!
لكن هذه (النسخة المفسَدة) جعلتني أحِلّ في المركز الثاني في المنافسة. كانت جائزتي التي مُنحتُ هي رواية تشارلز ديكينز المعنونة (أوراق بيكوك). لا أزال مَدِيناً لك بالشكر أيها المندوب كوتون بوول. كم أحببتُ (ساميفيل) ووالده (بيكوك) وهو يطارد قبعته عندما تقتلعها الريح من على رأسه، لكن الجزء الأكثر صخباً وإمتاعاً كان هو ذلك الجزء المتعلِّق بوصف أجواء الانتخابات السياسيَّة.
في المدرسة الثانويَّة، كنتُ قد قرأتُ أيضاً (حكايات كانتربري) لجيوفري تسوشر، كانت تلك (حكايات) وليست (أشعار) كما فهمتُ من طبعات لونغمان وغرين وكوكس. في تلك الأثناء كنت قد أقبلتُ، وبنهم تام، على قراءة وليم شكسبير.
أقبلتُ أيضاً على قراءة كاتب ايرلندي مفرط الحساسية اسمه جورج برناردو شو. كان شو يكتب مقدمات طويلة لمسرحياته؛ أطول من المسرحيات نفسها. كتب شو مسرحيةً قرأناها على خلفية أنها عن النُّخَب الإفريقيَّة الصاعدة حديثاً. كان عنوان تلك المسرحية هو (الإنسان والسلاح)، وكانت ضمن مقرَّراتنا الامتحانيَّة. كان شو ملاكماً طويلَ النَّفَس ومشاكساً لا يَكِلّ. لم يكن يترُك شيئاً إلا قَدَّمَ عنه إجابات شافية. في ذلك الوقت كانت نتائجنا الامتحانيَّة تأتي من جامعة (كمبردج) مباشرةً بعد أن تكون قد صُحِّحَت هناك.
قُدِّرَ لي أن أُحْرِزَ أعلى الدرجات في المواد جميعاً. كان من المفترض أن ألتحق بجامعة (مكاريري) اليوغندية، وتحديداً (مدرسة مارغريت تروول للفنون الجميلة) بصحبة اثنين أو ثلاثة من زملائي، لكن هذا لم يحدث، إذ أنني قمتُ بإفساد امتحان مادة الفنون الجميلة؛ مثلما فعلت من قبل مع مقالتي التي أرسلتها إلى كوتون بوول.
دعونا نذهب إلى كلية تدريب المعلِّمين في العاصمة الوطنيَّة اليوغنديَّة؛ فلدَى تلك الكليَّة مكتبة تُعَدّ من أكبر المكتبات، بل هي الأكبر من بين المكتبات الأخرى. كان المجلس البريطانيّ مشغولاً في ذلك الوقت بترقية الكتاب الإنجليزيّ، أما (المركز الأمريكيّ للخدمات المعلوماتيّة) فقد كان لديه الكثير من الكتب المعادية للشيوعية. كان هناك حانوت للكتب المستعملة يديره هنديّ مُقْعَد.
لقد أنْفَقْتُ جُلَّ المصاريف التي كانت تُمنَح لي من قِبَل الكلِّيَّة في حانوت ذلك الهنديّ. في ذلك الوقت كنتُ وزميل لي قد طرحنا عنا إيماننا المسيحيّ تماماً. كنا ندرُس بجِدّ ونحاول أن نجد تبريراً فكرياً لهذا التغيُّر الملحوظ.
تركتُ تلك الكتب المستعملة، التي كانت لي، مع صديق، عندما ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة، قام هذا الصديق بتركها مع صديق آخر، حملها بدوره إلى حجرات الدراسة بالكليَّة حيث استفاد منها الجميع.
كانت جميع هذه الكتب ممهورةً بإمضاء: (تعبان الوثنيّ). فور تخرُّجي من الكلية تعاقدَت معي الكنيسة الأنجليكانيّة ـ على أنا ما عليه من معتقَد ـ لكي أقوم بالتدريس في مدارسها. قمتُ بالتدريس في المدارس الإرسالية التابعة لتلك الكنيسة دون أدنى مشاركة مني في الصلوات ولا أي طقس من الطقوس الدِّينية.
في سنتي الدراسيّة الأولى التي أمضيتها بالجنوب الأمريكيّ، انخرطتُ في حلقة دراسيّة تضم نخبةً تهتمّ بدراسة (الموسوعة البريطانيّة) وتلك السلسلة المسمَّاة (الكتب العظيمة للعالم الغربيّ).
أحببتُ في هذه الأثناء جان جاك روسو، وصراحته التي لا تُوْصَف، في الكتاب الذي كرَّسه لاعترافاته. إنه نوع من برنارد شو آخر. حينما يعود أبطال روسو وبطلاته إلى أوروبا لكي يعملوا بالزراعة كنت أحسّ بأن إعجابي بمسرحية (العاصفة) لشكسبير قد هدأ، ولمرة ثانية.
دعوني أحط الرِّحَال في العاصمة الوطنية للولايات المتحدة الأمريكيّة وانخرط في برنامج (منح درجة الشرف) في واحدة من الجامعات. رغم أن هذه كانت سنتي الثانية في البرنامج، إلا أنني تمكَّنتُ من أن أنال هذه الدرجة، في سنتي الثالثة. كنتُ أقرأ كل شيء تقع عليه يدي ويمكن أن يعينني، وغالباً ما أفعل ذلك متمثِّلاً ما قاله كارل ماركس مرةً: “نحن لا نقرأ لفهم العالم فحسب، وإنما لامتلاك وجهات نظر لتغييره.” في هذه الأثناء بدأتُ في تبنِّي أفكار لتغيير العالم مبتدئاً بشرق إفريقيا، وحينما أوشكتُ على التخرُّج كان سيلُ هَوَسِي بفكرة التغيير قد بَلَغَ الزُّبَى. رجعتُ إلى شرق إفريقيا لكي أستأنف إسهامي في (التحوُّل) من خلال الكلمة المكتوبة، وترقية التعليم بنشر (ثقافة القراءة). أخذت عطلةً قصيرةً أمضيتها بالبحار الجنوبيَّة، وقفلتُ راجعاً إلى السودان لكي استأنف ما بدأت. ذهبتُ إلى اليابان بُغْيَةَ التَّسَلُّح بالمزيد من المعارف. استرحتُ قليلاً في أستراليا، وهبطتُ إلى جنوب إفريقيا، التي عدتُ إليها أيام قبولها الاطِّلاعَ على ثقافة شرق إفريقيا. بدأت مطابع جنوب أفريقيا في منح تلك الثقافة فرصاً في النشر.
كيف سأغيِّر العالم عبر ما اشتغلت عليه من موضوعات، فعندما وضعت خلاصة موضوعاتي تلك في شكلٍ شِعْرِيٍّ، فاجأني القرَّاء بالقول: “إنَّ خُلاصاتك الشعريَّة ليست بذلك التماسك.”، لكن هل اقتفيتم أثَرَ تلك الخُلاصات؟، ألَمْ أُقَدِّم لكم تقاليدَ أسلافي؟، وعندما يقتضي أمرُ كتابة الشِّعر في اعتقادكم الوُضوحَ، أليست أغنياتُنا الشعبيَّةُ فضفاضةً ويسودها الإبهام؟ وعندما وضعتُ خُلاصة موضوعاتي في شكلٍ نَثْرِيّ، قال القرَّاء: «إنها تبدو إما سخيفة أو قاسية». ما السخيف في الأمر، ألا أبدو أنا أكثر سُخْفَاً في كتاباتي من روسو أو شو؟، وإذا ما تحدَّثتُ عن القسوة؛ هل بإمكاني أن أقارع (وول شوينيكا) أو (ويلسون هاريس) ؟، أليس بإمكان أولئك الذين يَتُوقُون إلى سماع موسيقى من الكونغو أو موسيقى الرِّيغِي أن يستمعوا أيضاً إلى (هكذا تكلَّم زارا دشت)؟
تلك نماذج من النقد الذي تلقَّيته من قرَّائي، وأنا ليست لديَّ أدنى فكرة عن نوع الحكايات التي يرغبون في أن تُحْكَى عليهم أو أن تُعَادَ حكايتها. ربما يكون (تشنوا اشيبي)، الأخ الأكبر للروائيين الأفارقة جميعاً، قد قام بالتأسيس لهذا النموذج من البساطة.
أيّ كاتب إفريقيّ لا يقتفي خطى أشيبي، محكوم عليه بالإخفاق، واللامقروئيّة، وفقدان فُرَصِه في النشر، وإعادة النشر، خاصة حينما يتعلَّق الأمر بوزارات التربية والتعليم (المبجَّلة)؛ فمثل هذه الوزارات لا يمكن أن تُوْصِي بتدريس كتب مَن لا يَقْتَفُون خطى أشيبي في مدارسها. بذا تصبح مقولة: “محكوم عليك بكتابة كتب تعليميَّة” هي وصيَّة دُور النشر الأولى.
ذلك هو السبب الذي يدفعني إلى المضيّ قُدُماً في الاستمرار بكتابة كتبي (المبهَمة) حتى يأتي الناشرون إليّ.
ربما أكون مهووساً!، ربما أكون كمَنْ يُطارِد سراباً، ربما أكون محظوظاً في تأمين سبل عيشي بـ”التدريس” أو “التدليس” في الجامعات. ربما أكون متمتِّعاً بالعيش في الطوابق العليا أو السفلى لبناياتٍ أوروبية، مُقِيمَاً أَوَدِي بتناوُل الخبز والشَّاي، ربما أكون جباناً. ربما ينتابني هَوَس الاعتقاد فقط في ماركس ونيتشه وأنا!