حكاية كاريكاتورية لمقدمة لم يكتبها المهدي المنجرة
عبد الرحيم التوراني
في سنة 2002 تواصلت مع الدكتور المهدي المنجرة، أخبرته أني في “منشورات السؤال- الملف” بصدد طباعة كتاب خاص يضم نماذج من أعمال رسام جريدة “المحرر” الممنوعة، الكاريكاتوريست ابراهيم لمهادي (توفي في نوفمبر من السنة الماضية).
بعدما نوه المهدي المنجرة بالمبادرة، طلبت منه التفضل بكتابة تقديم لهذا الكتاب. فكان جوابه:
– مرحبا.. مرحبا… لكن علي الاطلاع أولا على مجموعة الرسوم التي سيتضمنها الكتاب. فوعدته أن أفعل.
لكن عملية ترتيب وإنجاز الكتاب تأخرت وطالت أشهرا، وبعد إنهائها أخبرت صديقي لمهادي بأن الدكتور المهدي المنجرة، هو من سيكتب مقدمة الكتاب، الذي عنوتته بـ: “سنوات الرصاص والحبر والفحم والطباشير”.
كان خبرا فاجأ وأفرح ابراهيم لمهادي كثيرا.
حددنا موعدا للتوجه إلى العاصمة لمقابلة المنجرة وتسليمه النسخة التمهيدية.
***
التقيت بالمهدي المنجرة لما عمل بحماسة كبيرة ضمن المجموعة التي أشرفت على وضع الخطوات التأسيسية الأولى للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، في 1987، وكان بيته يستقبل المؤسسين للتداول في الموضوع. وقد شغل المنجرة رئاسة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، قبل أن يقدم استقالته من المنصب بعد فترة قصيرة جدا.
بعدها أصبحت أصادفه مرات عند الصديق الصحفي عبد الله الستوكي في إقامته بقصر التازي الواقع خلف مبنى البرلمان، كما تعرفت على زوجته السيدة أمينة، وهي أخت مؤرخ المملكة المغربية والناطق الرسمي باسم القصر الملكي عبد الحق المريني، وكانت صديقة لبديعة التازي (طليقة الستوكي).
***
فشلت في الاتصال هاتفيا بالأستاذ المهدي المنجرة للاتفاق معه على موعد لزيارته. لم أكن أعلم وقتها أن العالم والمفكر والمنظر المستقبلي المغربي ساءت حالته الصحية إلى درجة حرجة، وقد عاني في صمت لسنوات طويلة من داء “باركنسون”، لكن معاناته الأكبر كانت من محاولة إطفاء اسمه وتبخيس مساهماته المعرفية ومحو نضالاته في المجال الحقوقي. وظل مهملا مغيبا عن المشهد العام إلى أن توفي بالرباط في يونيو سنة 2014، عن عمر ناهز 81 سنة.
***
وقررنا السفر إليه من دون سابق موعد.
ركبنا، ابراهيم لمهادي وأنا، قطار التاسعة صباحا من محطة “الدار البيضاء- الميناء”، تاركين خلفنا سماء صافية زرقاء تغطي مدينة سيدي بليوط، ولما وصلنا محطة “أكدال” وجدناها تمطر بالعاصمة.
أخذنا تاكسي إلى ساحة “بوركون”، توقف بنا أمام القاعة الرياضية الكبرى “ابن ياسين”.
كان معي عنوانه مدونا على بطاقة زيارة. مشينا في الشارع الطويل تحت المطر الخفيف نطالع ترتيب أرقام المباني. لكن الأستاذ لم يكن يسكن بنفس الرقم المسجل في البطاقة الصغيرة. اضطررنا أن نسأل بوابي العمارات وحراس السيارات. وبعد أن يئسنا قررنا العودة من حيث أتينا.
لكن جاءنا أخيرا من أرشدنا. لم نعرف لحظتها كيف نتصرف، هل نضحك أم نعبر عن الغضب، فالعنوان في البطاقة صحيح مائة في المائة، ومن سألناه في الأول تعمد تضليلنا. لكن ما عساه سيربح هذا المضلل؟! وتذكرت ما سمعته قديما، أن أهل الرباط لا يجب أن تسألهم عن وجهة أو عنوان، فالاحتمال الأقرب هو أن يقوموا بتضليلك. هكذا كان يقول أولاد “كازا” ليشرحوا لك بعض أسباب تبرمهم من العاصمة. كما كنت أسمع التحذير من “المسلمين ديال الرباط”!
***
ها هو اسم الأستاذ على قائمة “الأنترفون”، تقدمت وضغطت أولا بسبابة يمناي، ثم ضغطت مرات أخرى بالإبهام. لم نتلق ردا.
قال الرسام يبدو أن لا أحد بالبيت.
وافقته، ثم خطونا مبتعدين عن باب العمارة، لما سمعنا صوت امرأة تسأل:
– أشكوووون…
عدت مسرعا إلى “الأنترفون”، كدت أتعثر على العتبة.
سألت بدوري:
– هل هذا بيت الأستاذ المهدي المنجرة؟
سمعت امرأة تكرر نفس السؤال:
– واااشكووون..
تلعثمت وارتبكت في الجواب:
– نحن.. نحن نسأل عن الأستاذ المهدي المنجرة، نريد أن نطمئن على صحته…
– وااشكووون انتوماااا…؟
– اسمحي لنا جئنا من غير موعد سابق.. نريد أن نلتقي بالأستاذ… و…
ثم انقطع الاتصال.
قال الرسام:
– أعد طلبها على “الأنترفون”.
وهو ما قمت به.
بقي الرنين متواصلا لدقائق، قبل أن يعود نفس الصوت:
– واش ما غاديش تْفَرْقو مْعانا..
– نعم…
– وقلنا ليك هادي ماشي دارْ اللّي كَتْسَوْلو عْليه..
ثم سمعت صوت ارتطام عنيف، كان صوت إغلاق “الأنترفون”.
عدنا إلى القائمة. هنا الاسم الكامل لأستاذنا. نظرنا نظرة استغراب إلى بعض، وجاء البواب فأكد لنا أن الأستاذ يقطن بالطابق (كذا). وسألناه عمن يسكن معه، فرد علينا أنه بعد مغادرة أبنائه بقي لوحده مع “الشيبانية”.
لم نسأل من تكون “الشيبانية”؟
– هل هي زوجته أم قريبته؟
– ولم لا تكون خادمة تقابله وترعاه..!؟
– لتكن من كانت، لكن لِمَ كل هذه العدوانية الصادرة عنها!؟
لم نعرف كم مر من الوقت ونحن نتفرج على عمال بناء منهمكين في تشييد عمارة قبالة إقامة الأستاذ، حين أطلت وشاهدتنا من فوق. صاحت فينا بأعلى صوتها الأجش أن نبتعد. وسمعناها تردد:
– ابتعدوا عنه.. اتركوه لحاله.. ليمرض على خاطرو… أنتم اللّي مَرَّضْتوه…
هرولنا كالهاربين. لم نأبه للمطر الذي بلل ملابسنا.
في المحطة سيطول انتظارنا لنركب قطار الإياب عائدين، ولا “خُفين” ولا صاحبهما السيد “حنين”.
أذكر أننا في القطار لم نلتفت تجاه بعضنا، بقينا صامتين تقريبا طيلة الرحلة. كان القطار ممتلئا بالمسافرين، أصحاب الرحلات المكوكية اليومية ما بين المدينتين، وبعضهم ظل واقفا من دون مقعد.
لما وصلنا وغادرنا محطة “كازا بور” اكتشف صاحبي الرسام أنه فقد قبعته، وكأني به تعمد نسيانها في القطار. ورغم أنها كانت قبعة عادية وقديمة، فقد هونت عليه الأمر بالقول:
– المهم أنك لم تنس كتابك الذي بين يديك.
أخذ ينظر إلي ويضحك، وسألته عما يضحكه؟
فرد علي، مسترسلا في ضحكته المميزة التي أعرفها:
– اسمي ابراهيم وليس يحيى.. يحيى هو من أُمِر في الآية: “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”. كان لمهادي أستاذ االغة العربية والرجل المتدين، يحرص على عدم الخروج من حالاته الكاريكاتورية، سواء متحدثا أو ماشيا على رصيف. ومشيته كانت أقرب إلى مشية الساخر الكبير شارلي شابلن.