تطبيع واغتصاب واحتلال وانتحار جماعي!
د. خديجة صبار
بم يفسر تطبيع المغرب الرسمي مع كيان تختلف طبيعته مع المحيط الذي زرع فيه بالقوة، وتجاوز حقوق الشعب المهجر والأرض المحتلة ولا حدود له مع الوطن؟
أنعيده إلى قلة الوعي بمرامي الكيان المعلنة منذ التأسيس أي خلق “الدولة القومية”، بمعنى أن لا تعايش مع عرب فلسطين، السكان الأصليين، بل إجلاؤهم وإقامة دولة يهودية صرف، ونقية بتعبير شيمون بيريز. وعلى هذا الأساس حدد هرتزل هدف الحركة الصهيونية في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول، المعروف بمؤتمر بال 1897 الذي قرر: “إقامة الدولة الصهيونية”. ومنذ ذلك الوقت سارت هذه الفكرة جنبا إلى جنب مع الممارسة في تنفيذ المخططات الصهيونية ضد العرب، طبقا للفلسفة الصهيونية المبنية على أفكار إرهابية عنصرية.
فهل خطب وُدَ إسرائيل يتطلب التضحية بقضية فلسطين والفظائع المرتكبة في حق شعبها، وسنوات من النضال والتضحيات، وعشرات الآلاف من الشهداء وآلاف الأسرى والمعتقلين، علما أنها جوهر الأمن القومي العربي والإسلامي لا قضية الفلسطينيين وحدهم؟ وهل من المنطق المسارعة إلى التطبيع الذي كان محكوما على الأقل بمبدأ ” الأرض مقابل السلام”، بدون ضمان الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني أو أية تسوية سياسية أو تنازل للكيان الصهيوني الذي تحدى جميع قرارات الشرعيّة الدوليّة، ولم يوقف المجازر وقصف المرافق والأسر والاغتيال والقتل بدم بارد، ليقفز بعد ما عجز عن فرض إرادته في محيطه الإقليمي إلى المغرب كمدخل لشمال إفريقيا !
لا مبرر يقنع ركوب النظام موجة التطبيع مع الكيان، سواء بالإكراه أو لسوء تقدير، أو بتعمد الإساءة إلى النفس حينما تصبح المؤثرات الخارجية هي العوامل الحاسمة والمقررة لسياسة المغرب الداخلية! جوهره في هذه الحالة هو التسليم بشروط الكيان وشرعية وجوده، وتقبل دوره المحوري في المنطقة، والاعتراف بسرديته التاريخية والأخلاقية المبنية على الأساطير التوراتية المضللة، و شرعنة اغتصاب فلسطين، علما أن من يحتل ويستعبد شعبا لا يمكن أن يكون حليفا، ولا ننس أن من تداعياته اغتيال الشهيد المهدي بن بركة.
التطبيع الثقافي أخطر أنواع التطبيع ظل الكيان معزولا عن الجسم العربي لسنوات. ولجأ العقل الاستراتيجي الصهيوني لهندسة التطبيع الثقافي، أخطر أنواع التطبيع على الإطلاق، لأبعاده على النسيج المجتمعي، إذ يهدف في الحقيقة التركيز على الشعوب لخلق حالة وعي جديد لديها، من خلال تغيير بنيتها الثقافية بمختلف الطرق تحت شعار التسامح من أجل السلام وذلك: بتكثيف الزيارات والرحلات السياحية والتعليمية والتعامل التجاري لإذابة الحواجز، ولتشكيل ثقافة تسمح باندماج الكيان عمليا في المنطقة العربية، وتحقيق الاعتراف المبدئي بشرعيته التاريخية والأخلاقية، علما أن اليميني الصهيوني التصحيحي جابوتنسكي يصر على “يصر أن الاندماج مستحيل بسبب الشرط البيولوجي”.
ما يهم الكيان هو التغلغل فكريًا وثقافيا في الجسم الاجتماعي للوطن العربي واختراق العقل والوعي والوجدان الشعبي بعد تعثر التطبيع الرسمي؛ بتسويق الكيان كدولة صديقة محبه للسلام معادية للإرهاب. وإظهار الشعب الفلسطيني المحتل المدافع عن حقه كإرهابي من خلال وسائل الإعلام التي يمتلك الصهاينة أكبر محطاتها الإعلامية المروجة، غير أن واقع حي الشيخ جراح وما يجري في النقب وغيره يظهر أن دولة الكيان فشلت في ضمان أية معاملة خارج التمييز العرقي أو الديني بين اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون في الدولة نفسها، لأن الصهيونية في جوهرها إلغاء ” الآخر” وإعادة خلق الظروف التي يستطيع فيها الإسرائيليون الاحتفاء بسماتهم وخصائصهم، أما الاندماج وانحلال الهوية فهو بالنسبة لهم تهديد بالموت، تقول غولدا مائير:” بالنسبة لي أن يكون المرء يهوديا يعني كما عنى على الدوام أن يكون فخورا بأنه جزء من شعب حافظ على هويته المميزة لأكثر من ألفي عام، مع كل الألم والعذاب الذي تعرض له (حياتي ص 114)، ويقول هرتزل: ” اليهودي الحق لا يمكن أن يعادي الصهيونية”.
وأن تكون صهيونيا معناه أن تكون يهوديا في المقام الأول، فاليهودية التزام سياسي. يبرر النظام المغربي التطبيع مع الكيان الصهيوني وممارساته الفظيعة التي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بالمصلحة الوطنية أي قضية الصحراء المغربية. والمغرب يوجد في صحرائه ويمارس السيادة الفعلية عليها. ومشاريع التنمية نشيطة في أقاليمها وتظهر نتائجها على مواطنينا الصحراويين. أما قضاياها العالقة فتتم معالجتها في أروقة الأمم المتحدة، وبالتالي فلا ذريعة مقنعة تبرر، توقيع مذكرات تفاهم للتعاون مع الكيان بالأساس في مجال الاستخبارات والصناعات العسكرية والأمن السيبراني والتدريب المشترك في منطقة خارج نطاق تماسه الجغرافي، ولا تشكل بعده الاستراتيجي شأن الأردن ولبنان وسوريا ومصر- سوى فتح الباب للكيان ونزعته التوسعية العدوانية وتلبية احتياجاته وأهدافه، ولعب الدور الوظيفي للمحور الإمبريالي عبر تمكينه من موقع جيو- استراتيجي في منطقة الشمال الغربي من إفريقيا التي تقع في صلب اهتمامات الدول الكبرى المتصارعة، ليلعب دور المفتت فيها كما انفرطت الجبهة المتحدة للدول العربية بالاتفاقيات السابقة. وهي خطوة على قاعدة غير مأمونة النتائج بتداعياتها ومخاطرها، قد تعرض الوطن لأدق مراحل تاريخه، بالأخص الرهان على الثقافي والتربوي والتعليمي والفني والأكاديمي بهدف تهديد لحمة النسيج المجتمعي المغربي وتذرير تماسكه الاجتماعي. ورغبة الكيان في السلام تكشفها سلاسل المجازر التي بلغت 89 مجزرة ما بين (1937 – 2000 )، وآخرها مجزرة سيف القس التي تصدرت صور مجزرة ثلاث وستين طفلا وطفلة أولى صفحات الجرائد عبر العالم ضمنهم أربع طفلات مغربيات.
فكيف لمن ارتكب هكذا فظائع أن يتحول إلى حليف استراتيجي؟
أما سياسة أمريكا فقد علمتنا أن مكافأتها لا تكون سخية إلا حينما تكون دولة ما مستعدة لأن تتخلى عن التزاماتها السابقة حسب تغيير السياسة الإسرائيلية. فهل أذعن النظام لإملاء شروط تأهيل الولايات المتحدة دوليا، كما فعلت (مصر من قبل، والعراق لدعم مقاومتها لجارتها إيران والسعودية إلى جانب الدول النفطية في المنطقة لمقاومة اليمن)؟
هل انتقل من التأييد الفعال للقضية الفلسطينية إلى الإذعان للتصور الأمريكي للشرق الأوسط؟ و حرب الخليج ذروة هذه التحولات السياسية التي تحطمت فيها البقية الباقية من آثار الوحدة العربية؟
التطبيع هدف استراتيجي يراد منه إنهاء مقولة الصراع العربي الإسرائيلي ونهاية الدولة القومية المحتملة، وامتداد للمشروع الاستعماري الغربي الهادف للسيطرة على المنطقة العربية وأقطارها، وتقطيع أوصالها ومنع أي إمكانية للتكامل العربي على كل الأصعدة، لاسيما والغرب بمجموعه يتوجس تاريخيا من أي مشروع توحيدي. ولا يمكنه الاطمئنان لوجود دول عربية موحدة وقوية تتصرف في جبهة متحدة. لهذا السبب أقام هذا الجسم الوظيفي لما يمثله من تهديد للأمن ومن خطر على السلم والأمن الإقليمي وعلى العروبة كانتماء وجودي ليتمكن عبره من إحالة كل تقدم أو تطور إلى سراب، ويعمل على الدوام على إقصاء أي نظام قوي موحد (مصر، العراق، سوريا). ولا يستهدف الأرض المقدسة في فلسطين فحسب بل يمتد إلى العالم العربي والإسلامي أيضا، وفلسطين هي محور السياسة العربية ومركز الصراعات العربية الداخلية والخارجية.
ما يخيف الغرب وإسرائيل هو دولة عربية واحدة كبيرة. إن كارثة التطبيع هي كارثة العرب جميعا، وإذا لم تستدرك عواقبها ففي انتحار المطبعين انتحار العرب جميعا.