صدق الله العظيم
عز الدين العلام
استوقفني بيت شعري للعظيم أبي العلاء المعري، يقول فيه:
يد بخمسمئين عسجد فُديت * ما بالها قُطعت في ربع دينار
أعدت قراءة هذا البيت الشعري مرات عدّة، وكأني أسبّح بحمد الله. تحسّرت كثيرا على ما نعيشه اليوم من بؤس فكري، وتذكرت عشرات الفضائيات البترولية التي يطّل فيها علينا رجال ملتحون أشدّ الالتحاء، يرغدون ويزبدون، مطالبين بتطبيق الشريعة، وهي لا تعني عندهم غير قطع الأيدي وجلد البشر وجزّ الرؤوس…
وتذكرت أيضا عشرات الكتابات التي ينادي فيها أصحابها بإقامة الحدود على السارق والزاني وشارب الخمر وما شابه ذلك. بل وتذكرت عشرات الحركات السياسية التي جعلت من تطبيق هذه الحدود تجارة لها، بل والأنكى من ذالك، استحضرت دولا، أي والله دولا، تتباهى بكونها إسلامية، والدليل أنها تقطع الأيدي، وتجزّ الرؤوس، وتجلد البشر!
لا أدري كيف تمكّن شخص كفيف منعزل، عاش وحيدا ومات وحيدا دون أهل ولا أحباب، تفصلنا عنه أكثر من عشرة قرون، من إدراك حقيقة غابت عن أشخاص يعيشون القرن الواحد والعشرين، يبصرون ولا يبصرون، أو لنقل: ختم الله على أبصارهم. فعلا. لم يكن أبو العلاء المعري، الشاعر الضرير يُبصر شيئا، غير أنّه كان يرى بعينه الباطنية كل شيء واضحا غاية الوضوح.
وبما أنني من هواة الخيال العلمي والأدبي معا، أدعوكم إلى تصوّر ما يمكن أن يكون عليه مجتمع يجتهد في قطع الأيادي، والتّساؤل عن مصير هذا المسكين الذي قطّعت يده.هل يكون علينا، أو ربّما على الدولة، أن نؤجر له شخصا يُطعمه ويُشربه ويُلبسه ملابسه، وربما يغسل له… بعد قضاء حاجته؟ ومن تراه يؤدي لهذا الشخص المأجور تعويضاته عما يقوم به؟ وما العمل فيما، لأسباب متعددة، استفحلت السرقات، كما هو واقع هذه الأيام، وقُطعت الأيدي تلو الأيدي… ما عساه يعمل مجتمع أكتع أغلب أفراده دون أيدي… وبأي وجه سنقابل العالم من حولنا، ونحن نجتهد في تشويه أجساد بعضنا البعض؟ ألن نؤكد للعالم بالملموس ما يتصوره فعلا عنا؟ ربما علينا أن نحمد الله ونشكره أننا نملك في هذا البلد قانونا جنائيا لا تتضمن نصوصه قطع اليد وجلد البشر وتشويه الجسد.
لم يكن أبو العلاء المعري، الشاعر الضرير، الذي انتفض ضد هذه الجريمة البشعة يبصر بعينه بصيصا من نور، ولكنه كان ذو بصيرة مكنّته من رؤية الأشياء في غاية الوضوح، فصدق عليه وعلى أصحابنا قوله تعالى: ” فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”. وإذا كان أبو العلاء، وهو شاعر أعمى “ليس عليه حرج”، أبان عن استهجانه قطع الأيدي، فإنه يحق لنا اليوم القول إن من تعامى عن هذه البشاعة في الحياة الدنيا لن يكون في الآخرة غير “أعمى وأضلّ سبيلا “، صدق الله العظيم.
يا سادة، لنكن واقعيين. كلّنا يعلم أنّ فعل السرقة أمر ملازم لأي مجتمع يقوم على الملكية الخاصة (طبعا بالقضاء على الملكية الخاصة، لا يعود أيّ معنى للسرقة)، وأنّ ممارسة الجنس خارج الزواج (أي الزنا) أمر قديم قدم الزمان (وطبعا بإلغاء الزواج لن يعود أيّ معنى لشيء اسمه الزنا). وأن استهلاك الخمور أصبح طقوسا يومية. هذه وقائع نعاينها جميعا. فهل بقطع الأيادي نحارب آفة السرقة؟ وكمْ جلاّدا نحتاج لو وقفنا ذات مساء لدقيقتين في شاطئ “عين الذياب” بالدار البيضاء لمعاينة استهلاك الخمور؟ أمّا حدّ الزنا، فأمره محيّر لآنّ بيّنته، كما تقرّر المذاهب الفقهية الأربعة، مستحيلة التّحقق. “وأمّا البينة فهو أن يشهد عليه بفعل الزنا أربعة رجال عدول لا امرأة فيهم يذكرون أنّهم شاهدوا دخول ذكره في الفرج كدخول المرود في المكحلة، فإن لم يشاهدوا ذلك على هذه الصفة فليست شهادة!” (النّص للفقيه، وقاضي القضاة أبو الحسن الماوردي). ولربّما هذا التّعجيز هو ما دفع أحد الأعراب للقول ساخرا: “والله لو كنتُ جلدة في أستها لما رأيت ذلك! ”
وأخيرا، لقد جرت العادة أن يحتجّ هؤلاء الذين يرون أنفسهم أكثر إسلاما منّا بكون الأمر يتعلّق بأحكام “قطعية”! طيّب، ليكن لكم ما شئتم، ولنقطع معكم في هذا الأمر. فما عساكم فاعلون بأحكام الرق المنصوص عليها في القرآن الكريم، وأسواق النخاسة قفلت أبوابها منذ زمان؟ وما العمل بأحكام “أهل الذمّة” و”الجزية”، والواقع اليوم انقلب رأسا على عاقب؟ وما عسانا نعمل مع شخصين راشدين تراضيا في حبّهما غير إشباعهما جلدا باسم “الزنا” كما تُجلد البهائم في المجازر؟
أيّ عاقل هذا الذي يتحدّث اليوم عن أحكام شرعية ولّى زمانها وفقدت شرعيتها؟ لماذا إذن لا نجرؤ ونقول كما قال الأستاذ الكبير عبد الله العروي إنّه يجوز إهمال أي حكم شرعي لم تعد فائدته واضحة (أنظر كتابه “من ديوان السياسة).