لا تكذبوا علينا…
عز الدين العلام
يا بعض المثقفين، ويا كثيرا من المسؤولين، يا بعض الإعلاميين، ويا زعماء الأحزاب، ويا واضعي برامج التعليم وخطط التنمية…
ارحمونا من كذبكم، على أنفسكم أوّلا، وعلينا ثانيا. لا تقدّموا لنا بلدنا ومجتمعنا في جُمل وردية تجعل منه أحسن ما خلق الله على وجه الأرض، والواقع غير ذلك. كفاكم من قلب الوقائع إلى حدّ البهتان والتدليس، وكفاكم من استبلادنا إلى حدود العته المبين. لم يعُد هناك مجال وحيد في هذا البلد العزيز لم يطأه كذبكم. كذبتم علينا في جغرافية هذا البلد وفي تاريخه، وكذبتم علينا في فهم ثقافته وتأويل تراثه، كما كذبتم علينا في قهم حدوده الاجتماعية وأبعاده السياسية…
أتذكر أحيانا أوّل درس تلقيته في الجغرافيا، وأنا طفل في التعليم الابتدائي، مفاده أنّ المغرب حباه الله ب”موقع استراتيجي” قلّ نظيره. فحدوده الشمالية لا تفصلها عن أوربا غير كيلومترات معدودة، وهو بوابة افريقيا نحو العالم، وشواطئه الأطلسية تنّم عن خيراته وانفتاح أفقه، كما حباه الله بتنوّع في التضاريس جعل منه بلد السهول والجبال والغابات والوديان والصحاري…
ولا زلنا إلى اليوم نسمع في بعض وسائل الإعلام، ونقرأ في بعض الكتابات كيف أن المغرب “شجرة” ناضجة بحمد الله، جذورها تمتد في أدغال افريقيا، وفروعها وصلت حدود الشرق العربي، أما أغصانها، فيستظل بها جنوب أوربا…
لم يعد هناك معنى لمثل هذا الكلام. فهل نحن البلد الوحيد في هذا العالم الذي يملك جبالا وأنهارا وغابات. وما عسانا نقول إذن عن بلدان مثل الصين والبرازيل وأستراليا…
وما معنى الافتخار بامتياز القرب الجغرافي من أوربا، ونحن في القرن الواحد والعشرين، زمن الصواريخ والطائرات والأنترنيت؟
وبماذا نفسّر إذن انتصار “جنوب افريقيا” علينا في تنظيم “كأس العالم” في كرة القدم، وهي التي توجد في آخر دنيا القارة الإفريقية؟ ربّما كان المسؤولون عنّا، وهم يرددون بلا كلل في دعاياتهم البليدة شعار “امتياز القرب الجغرافي” يعتقدون أن الجماهير الأوروبية ستأتي إلى المغرب لتشجيع فرقها سيْرا على الأقدام!
لنترك جغرافية المغرب، ولنتحدث عن تاريخه. تصفّح معي أيها القارئ الكريم أي كتاب مدرسي يتحدث عن تاريخ المغرب، ولتستمع لوسائل الإعلام وهي تتحدث عن هذا التاريخ في مناسبة من المناسبات الوطنية، أو حتى بدون مناسبة، وهو الغالب، بل ولتفتح عددا من الكتب التي يعتقد أصحابها أنهم “مؤرخون” يوثقون تاريخ هذا البلد العزيز.
لن تجد يا صديقي، ولن تسمع، سوى أنّ المغرب بلد “عريق”، جذوره ضاربة الأعماق في التاريخ. حافظ، على نقيض أغلب دول المعمور، على “هويته” منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، واستطاع طيلة تاريخه ضمان استقلاليته تجاه “المشرق”. ولم يجد “العثمانيون” بكلّ عدّتهم وعددهم، لولوج ترابه سبيلا، وهو “فاتح” الأندلس وبانيها، وهو ناشر الإسلام في افريقيا جنوب الصحراء ومحررها، كما كان آخر بلد يطأه الاستعمار الأوربي الذي لم يكن استعمارا، وإنما مجرد عقد “حماية” مؤقت.
أما دولتنا، فهي أقدم دولة في العالم، حقّقت للمغرب ولناس المغرب وقبائله وحدتهم، وجعلت منهم أمّة قائمة الذات، كما أنها كانت مهابة الجانب في الخارج قبل الداخل، وكانت دائما على أهبة الاستعداد لنجدة “المسلمين” المظلومين هنا وهناك وخاصة في الأندلس، بل وكان لها السبق، منذ عقود خلت، في الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، وما أدراك ما الولايات المتحدة.
أما ثقافتنا، فحدّث ولا حرج، فنحن بلد العلماء (في الدين طبعا)، وبلد الفقهاء (الوسطيين، المتسامحين، المعتدلين طبعا)، ونحن بلد ابن رشد (ولا ضرر في أصوله الأندلسية)، وبلد ابن خلدون (ولا بأس إن أقام له أشقاؤنا التونسيون تمثالا وسط عاصمتهم ونازعونا في امتلاكه). ونحن بلد نهضة في مجالات الأدب والفكر التي ما انفك كل الملوك والسلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب يشجعونها ويحثون على الإبداع في مختلف أصنافها.
لا معنى اليوم لمثل هذا الكلام المفرط في سذاجته إلى حد البلادة المميتة. وكفانا من هذه الخزعبلات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وإلى كلّ هؤلاء الذين يقدّمون لنا المغرب في صورة كائن فوق طابق من ذهب، نقول: اتقوا الله فينا وافتحوا أعينكم قليلا، وعودوا إلى وقائع التاريخ العنيدة بدل الاكتفاء بأوهام خيالاتكم غير المفيدة. ألا يكون الأستاذ عبد الله العروي عن حق حين قال “إن سوء حظ المغرب الحقيقي هو أنّ تاريخه كتبه لمدة طويلة، هواة بلا تأهيل…
موظفون يدّعون العلم… عسكريون يتظاهرون بالثقافة…”. أليس أمرا ذو دلالة أن ينعته هذا المفكّر الكبير ب”التاريخ السلبي، غير الإيجابي، إذ سلسلة الحوادث لا تبدأ فيه”. أيكون محض صدفة أن يعنون عبد الله العروي فصول كتابه عن تاريخ المغرب ب “من استعمار إلى آخر”، و”غزو بعد آخر”… فمن القرن العاشر قبل الميلاد إلى القرن السابع بعد الميلاد، تعاقب علينا في رقعتنا المغربية الفينيقيون والإغريق والرومان والوندال والبيزنطيون إلى غاية دخول العرب المسلمين، فاتحين أو مستعمرين (الله أعلم)…
ألا يختلط تاريخنا، إن لم يتطابق، في جزء كبير منه بتاريخ مستعمرينا، ولمَ النفخ إذن في تاريخ بسيط في مستوى بساطتنا.
أما عن النفخ في تاريخنا السياسي والفكري، فذاك لعمري، هو قمة الكذب ومنتهى البهتان. دولتنا “السلطانية” لم تكن لتعرف غير لغة السيف، ومراتبها لم تكن غير أداة لتنمية الجبايات. أما عن تراثنا الفكري الممتد لقرون، فإني أسألكم بالله عليكم، وباستثناءات قليلة، هل عرف المغرب في تاريخه كله، بل وإلى الآن، ما يقابل “عصر الأنوار” في فرنسا، إن لم أقل ما عرفته مصر القرن التاسع عشر؟ وهل عاين “سبينوزا” أو “ديكارت” أو “شكسبير” مغربي؟ فما بالكم، ونحن بكل هذا الهزال الفكري، تنفخون في تاريخ ظل علماؤه وفقهائه يناقشون إلى عهد قريب جدا ما إذا كان استعمال “التلغراف” و”السيارة” جائز شرعا أم غير جائز؟
واليوم، وبدون حشمة ولا حياء، لا زال بين ظهراننا من يقدم لنا المغرب، وهو ذو خصاصة في كل شيء، في صورة البلد الكامل المكتمل. فنحن طيبون، مندمجون، متسامحون، قانعون، لعباداتنا مقيمون، وفي معاملاتنا منهمكون، ومشهدنا السياسي حافل، والحمد لله، بتعددية حزبية قلّ نظيرها، ومجتمعنا فاق كل المجتمعات في مدنيته المثيرة للإعجاب، وفي حسّه التضامني الذي لا ينضب…
يا أيها الناس، كفانا كذبا، وقولوا لنا قولا صراحا. قولوا لنا إنّ التعليم في المغرب أكبر كارثة على وجه الأرض. قولوا لنا إنّ البادية المغربية تكاد تكون، إلاّ فيما نذر، في عزلة عن العالم. قولوا لنا إنّ ثقافتنا في جزء كبير منها تقليدية لم تعد تساير مستجدات الحياة. قولوا لنا إن الفوارق الاجتماعية تتعمق يوما بعد يوم، قولوا لنا إنّ كثيرا من القيم المجتمعية التي تتفاخرون بها تستوجب اليوم تجاوزها، إن لم يكن رمْيُها في سلّة مهملات التاريخ…
لا أريد أن أطيل في الحديث عن مغرب اليوم، فكثيرة هي فيه مواقع الكذب. وأقول قولي هذا، وأعوذ بالله ممّن لا يرى واقع المغرب بعينين صاحيتين.