درس في التعفف.. عود على بدء
د. محمد كلاوي
يقول احمد شوقي في إحدى أبيات قصيدته “على قدر الهوى”: كأن رواية الأشواق عود.. على بدء وما كمل الكتاب.
لقد استقيت منها العنوان الفرعي لهذه المقالة، لكوني سبق لي أن نشرت بجريدة مغربية سنة 2003 رأيا في الموضوع تحت عنوان “درس في التعفف”، لم يفقد للأسف ذرة من راهنيته. فما شهدته البلاد من احتقان نتيجة تدهور الحالة الاجتماعية والسياسية التي بلغت أوجها في أحداث الشغب والفوضى التي انفجرت بالرباط، خلال المباراة التي تواجه فيها فريقا الجيش الملكي والمغرب الفاسي، خصوصا من طرف مشجعي الفريق العسكري، يطرح من جديد المسؤولية عن فقدان أدني حس وطني لدى الجماهير الرياضية.
فمهما كانت الأسباب والمسببات التي أدت إلى هذا الانجراف، ولو أنه ليس الأول في تاريخ الملاعب، فإنه يتعدى حدود الظاهرة الاستثنائية، خصوصا وأن الفاعل الرئيسي فيه فريق تربى على الاتزان والانضباطِ.
لذا اعتقد ان جوهر الإشكال يضرب جذوره في إخفاق أساليب ومضامين التنشئة الاجتماعية التي تربى في كنفها الناشئة منذ الاستقلال، والذي جعلته السلطة السياسية اختيارا من أجل ترويضها على الطاعة والخنوع. وهذا بالضبط ما يمكن استخلاصه من مجموع مقالات عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر “دراسات في نظرية العلوم”، التي كتب فيها نصا تحت عنوان “النزعة الدعوية”، نقرأ من بين سطوره:
“كل أستاذ يعلم بأن التنافس في استقطاب الطلبة للمحاضرات، يدفع غالبا الجامعات إلى إيلاء عنايتها لداعية يستطيع ملء المدرجات مهما صغر شأنه، وتبعد العالم الذي لا يتعدى حدود مادته مهما عظم قدره”.
يعود تاريخ هذا النص، الذي يمكن اعتباره مرجعا في البيداغوجيا لما يناهز القرن، لكن التشريح الذي يحتويه حول الانحراف الذي لحق الخطاب العلمي، بسبب سلوك بعض المدرسين المغترين بذواتهم، لا يزال يحتفظ بقيمته.
وإذا كان هذا التقرير “الفيبيري” يقتصر على التعليم الجامعي، فيبقى بالإمكان تطبيقه على نطاق أشمل في ما يخص تعليمنا العمومي، ذلك أن بعض المعلمين الذين تنقصهم الكفاءة والنزاهة، خاصة في الطور الابتدائي، جعلوا من تلامذتهم رهائن يمارسون عليهم كل أشكال الدعاية التخديرية، إّذ لا يتورعون عن تحويل الدروس المشرفين عليها إلى حصص للدعاية الإيديولوجية، مستغلين في ذلك وضعيتهم “كسادة مطلقين داخل القسم، وهو امتياز اعتباري تكفله الدولة لمنصب الأستاذية، غايته أصلا حماية الأستاذ من أي تطاول أو اعتراض”. غير أن هؤلاء المدرسين ينتصبون كدعاة لمذاهب وتيارات أيديولوجية يعملون بتحايل على تمريرها باسم التربية والتلقين.
إن النقص الملحوظ في تكوين الناشئة ليس غريبا عن مثل هذه التصرفات المشينة، التي تحول مواد التدريس إلى حلقات وعظ تحدد الفرائض المبتدعة للوضوء والصلاة، وتنظم – وهذا هو الأخطر- نوعية السلوك التجسسي الذي يلزم التلميذ التقيد به تجاه اأه وأخته وأي عنصر نسوي آخر. إنها مؤشرات على الهوة السحيقة التي امتصت جيلا بكامله بفعل هذه الفئة من المدرسين المزعومين الذين أخطأوا وجهتهم، وعلى التخاذل وانعدام المسؤولية الأخلاقية اللذين يطرحان على الدولة أكثر من سؤال في حماية الأطفال الذين نود جعلهم مواطنين كاملي الأهلية.
إن المنتظر من المدرس بصفته مربيا هو تنمية الطاقة الذاتية عبر تنمية الفكر النقدي، على اعتبار أن التربية كما يقول خبراء البيداغوجية هي “عملية تحرر” بالمعنى النبيل للكلمة. إنه ليس من مهام ولا من حق أي أستاذ مهما كان الإطار الذي ينتمي إليه أن يجعل من تلامذته أو طلبته مريدين تابعين له، يجلبهم إلى قناعاته المذهبية أو السياسية، بل فتح أعينهم على الواقع الخارجي الذي وجب أن يرتبط بالعمل داخل القسم، بأكبر قدر ممكن من الالتزام والحياد. فنتيجة لهذه المعطيات يتلاشى إحساسنا بالاغتراب عندما نصادف طلبة، خصوصا في كليات العلوم والطب، مغتربين في حظيرة الجامعة وغارقين في الفكر الخرافي، الذي يتناقض بالمطلق مع نوعية تكوينهم، حيث يبدون مقاومة ذاتية شديدة في تلقي بعض المفاهيم الأساسية في علم الاقتصاد السياسي كالربح والفائدة بحجة كونها تتعارض مع مبادئ الشريعة، هذا دون الحديث عن الأحكام الجاهزة التي تنبذ سلفا الفلسفة وجل مواد العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وتاريخ الفكر السياسي ونظرية التطور… التي يعتبرونها متهكمين تجسيدا للإلحاد حيث لا ترى في الإنسان، حسب وصفهم، غير قرد ممسوخ.
وكيفما كان الحال، فالجدير بالقول إنه مهما عظمت في أعيننا القناعات التي تترجم رؤيتنا للكائنات والأشياء، فهناك مواقع تسمح لنا بالتعبير عنها ومناقشتها، بل وحتى الدعوة لها. وقد يكون من الأجدى في هذا الباب، عوض الاستسلام لأي جنوح أو إغراء تبشيري، أن نتأمل مليا في هذه الكلمات المشحونة بالتعفف لـ “ماكس فيبر”:
“لا يجب على الأستاذ كمدرس، أن يطمح لانتحال صفة العسكري أو رجل السلطة أو المصلح كما يحصل عندما يستغل كرسيه في منأى عن أي جدال أو مساءلة، للتعبير عن عواطفه ومشاعره كرجل سياسة أو كسياسي مثقف. إن بإمكانه بل ويجب عليه أن يمارس ما يأمره به ربه أو شيطانه عن طريق الصحافة والتجمعات العمومية والجمعيات، أي باختصار كل أشكال التعبير التي تصل إلى عموم الناس”.
يتجلى من كل ما سبق أن الإشكال الحقيقي في تعليمنا لا يكمن فقط في تجلياته الظاهرة: قلة الموارد، انعدام البنى التحتية، ضآلة الموارد البشرية وضعف تكوين المؤطرين التربويين… والذي لم تفلح في ترميمه باعتراف المسؤولين أنفسهم، كل آليات الإصلاح والمخططات التي اعتمدت على مدى ستة عقود (أنظر مراحل إصلاح التعليم منذ الاستقلال إلى اليوم).
أما حان الوقت لمراجعة جذرية للأسس التي بني عليها كمنظومة تربوية “رافدها أمني وهدفها تطويع المواطن” عوض أن تكون ركيزة للتنوير والتحرر والتهذيب؟
هل سنظل نعاود رواية شوقي التي لم يكتمل بها الكتاب؟
إن الإصلاح المنشود الذي لا يضع في صلب اهتمامه ضرورة القطيعة مع المرجعيات المتجاوزة، بحكم التطور السريع الحاصل اليوم على جميع الأصعدة، لن يكون سوى اجترار لنفس الأزمة، ولو بطنت بجلباب التحديث. المطلوب اليوم هو تطوير المناهج وفق ما يتطلب العصر، على أساس أن تتوفر الإرادة السياسية النابعة من الذات، لا تلك المملاة من هذا الطرف أو ذاك. فليس من المعقول اليوم ألا تجد بعض المواد كتاريخ الأديان وعلم الاجتماع ونظرية النشوء والارتقاء والتربية الجنسية، وكل فروع الإبداع الفني كالموسيقى والرسم والمسرح… مكانها في البرامج التعليمية، ابتداء من الطور الأول للتدريس، لا كحصص ثانوية، بل كمواد أساسية. لأنها الأدوات الضامنة لصقل الفكر النقدي العقلاني الحر، والمواهب الإبداعية الكفيلة بتنمية الحس المدني والانتماء الوطني. فهذه المعارف، كما يؤكد عبد الله العروي في موضوع آخر (كتاب السنة والإصلاح، ص.148)، “تتطلب ولو قدرا يسيرا من مباشرة المادة مهما يكن حكمها الشرعي، أكانت جائزة أو مذمومة، ضارة أو محايدة، مسلية أو ملهية”.
لن يكون الأمر سهلا ولا سريع التطبيق، لكنه حتما سيكون طريق الخلاص…