أوكرانيا ليست سوريا
علي العطار*
أميركا التي انتصرت في الحرب الباردة وتفردت قطبا أحاديا في العالم، ليست هي أميركا الآن، وروسيا وريثة الاتحاد السوفياتي، ليست الاّن في قوته قبل انهياره، ولا تستطيع أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ردا على أميركا التي عاملتها بشكل مهين ولم تراعها كدولة كبرى، وهنا تصح مقولة؛ احذروا عزيز قوم إن ذل.
استحضر التدخل العسكري الروسي لأوكرانيا في الأذهان، لحظة اجتياح هتلر لتشيكوسلوفاكيا دفاعا عن إقليم “السوديت”، مما أثار قلق أوروبا مجتمعة وحلف الناتو. لذلك قالت أميركا: إن روسيا ستكون ضعيفة ومنبوذة، لترد روسيا: إن العالم أوسع من أن تملأه أميركا وأوروبا، متناسية مقولة هنري كيسنجر: “أن تكون عدوا لأميركا فأنت في دائرة الخطر، وأن تكون صديقا لها فاأت تواجه التهلكة”.
شكّلت محاولة أوكرانيا الانضمام إلى حلف “الناتو” استفزازا لجارتها اللدود، وتمظهر رد الفعل الروسي على هذه الخطوة، التي تحمل إهانة تضاف إلى جملة إهانات متراكمة منذ سقوط “الاتحاد السوفياتي”، بأشكال دموية أحيانا، وعروض فلكلورية أحيانا أخرى؛ مثل استقبالات “الزعيم” الروسي لبعض الرؤساء وفق “بروتوكول” يخرق قواعد البرتوكول، حيث يترك ضيفه مطوّلا عند الباب! ويستدعي آخرًا “ويجلبه” بطائرة شحن عسكرية، أو يدع نظيره على قارعة الطريق، ليهرول مساعدوه للبحث عن حافلة تقله.
ويكاد الرئيس “بوتين” بهذا الأداء يصرخ في مسرحيته؛ “أنا الزعيم”، فلا يجد امامه إلا وزير خارجيته الوفي “لافروف” يردد ما قاله “الزعيم “، بصوت جاف يخرج من بين شفتين صلبتين لا تتحركان، ووجه نحاسي جامد يُرجع الصدى خاليا من أي إحساس أوتعبير إنساني.
تعاملت روسيا، بقيادة “بوتين”، مع الأزمات التي واجهتها بعد حروب الشيشان بأسلوب دموي نافر، يثير الاستغراب والخجل، مثل أزمة الرهائن في مسرح موسكو سنة 2002، حيث تم القضاء على الخاطفين وعدد كبير من الرهائن، عندما سربت قوات الأمن “غازًا” من فتحات التهوئة داخل القاعة، ولم يفصح المسؤولون الأمنيون الروس آنذاك عن اسم “الغاز” المستعمل في الهجوم، مما عطل إمكانية إنقاذ الكثير من المصابين!
وبالرغم من الإدانة والشجب لطريقة التعامل هذه في إنهاء عملية الاحتجاز، تكرر الفعل ذاته في أزمة رهائن مدرسة “بيسلان” عام 2004، حيث استخدم “بوتين” الأسلوب ذاته، وأنهى العمليّة بمجزرةٍ استخدمتْ فيها الدبّابات والمدفعيّة، وأدّت إلى سقوط مئات القتلى والجرحى.
وبعد غزوة جورجيا سنة2008، وغزوة القرم سنة2014 ورد الفعل الغربي الضعيف على غزوات روسيا، الجدير تدوينها في كتاب “غزوات بوتين”، شجعت الرئيس بوتين وفتحت شهيته على التفكير في التهام دول كانت تدور في المدار السوفياتي سابقا. وعززت شهيته أكثر السياسة الانكفائية لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق أوباما، التي منحت الدب الروسي فرصة ثمينة لغزو سوريا سنة 2015، وكان غزوه أشبه بفيل دخل بيتًا من الخزف بلا أبواب، فحطم جدرانه، محققا بذلك حلم القياصرة القديم بالوصول إلى المياه الدافئة.
لكن قيصر الأوليغارشية الروسية الجديد لم يحسن قراءة التاريخ الذي يهيمن على “لاوعيه” ويسكن في “وعيه”، فوقع ضحية سوء تخطيط جنرالاته ومستشاريه الذين يرفعون التقارير ويقدمون له الوقائع كما يرغب ويشتهي، فهو يريد أن يدخل التاريخ مرتديا بزة ستالين وممتطيا صهوة حصان بطرس الأكبر، ممتشقا سيف الأوليغارشية الجديدة. يظهر ذلك جليًا في طريقة دخوله المسرحي من الباب الكبير واستدارة “حُجّابه” بروؤسهم نحوه دائما وببطء مثير، وهو يسير واثق الخطوة ملكا كأنه قمر منير. وما دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا في قوافل تمتد على مسافة عشرات الأميال، رافعا بعضُها علم السوفيات الاحمر، إلا دليلا على تأثر بوتين بقوافل قريش و”إيلافهم”، واختيارُه رحلة الشتاء للعودة بـ “كييف” إلى ربيع براغ، متناسيًا أن أوكرانيا لا تحتمل أي شكل من أشكال العودة إلى الحقبة السوفياتية، وفاتَ “الزعيمَ” أن أوكرانيا ليست سوريا؛ بيتًا “مشلعا” بلا أبواب يدخله ويحطمه كما يشاء، بل تاريخ من العداء للروس. في البحث عن أسباب الحرب الروسية – الأوكرانية علينا أن لا نستحضر الأهداف المعلنة، بل إن نحدد الأسباب الكامنة وراء التدخل العسكري الروسي. فالعقل البشري تنوجد فيه نزعة طبَعيّة ومادية متجذرة تمنعه من التسليم إلا بالحقائق الملموسة فعلا.
لقد كشفت هذه الحرب أن العالم قد تغيّر كثيرا عما كان عليه عشية الحرب العالمية الأخيرة، ولم يعد يحتمل حروبًا بالمعنى التقليدي. واستبدلت بعقوبات متعددة الأشكال؛ مالية، اقتصادية وسياسية… التي أثبتت أنها السلاح الأمضى والأكثر فتكا.
* كاتب لبناني