بين دويلة ولاية الفقيه ودويلة ولاية النبيه طار لبنان
د. رودريك نوفل
يبدو أن قُدّر للبنان أن يعيش مأساة ناتجة عن تحالفات ثنائيّة متجددة، من تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر، المعروف بإتفاق مار مخايل، حيث اخذ اسم الكنيسة التي وقع فيها الإتفاق في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، التابعة أمنياً لأحد أطرافه الذي غضّ النظر عن سرقة المكيّفات فيها الأسبوع الفائت، كما حدث في كنيسة السيّدة ــ منطقة الحدت التي تبعد بضعة أمتار مشياً عن المنطقة الأمنية لمار مخايل، وهناك اتفاق “أوعا خيّك” الذي جمع التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية لينهي كما قيل التوترات في الساحة المسيحية الناتجة عن مفاعيل حرب ما يعرف بحرب الإلغاء في تسعينيات القرن الماضي، وقبلهما الاتفاق الأساس لحزب الله وأمل، الذي جمع الثنائي الشيعي “المرح”، بينما يعيش خصومه حالة إنكار لمدى خطورة هذا التحالف لا سيما في زمن الانتخابات اليوم حيث تجري عمليات غسل دماغ للجمهور الناخب في أماكن هيمنتهم.
لكأنه قُدّر للبناني أن ينتقل من مرحلة الاحتلالَين السوري والإسرائيلي، إلى مرحلة “بلاد ما بين الصهرَين” (النائبان جبران باسيل وشامل روكز)، واستكمالاً لمرحلة بلاد الثنائي الشيعي اللذَين لا يمثلان الغالبية الشيعة الفعليّة، بل الغالبية الشيعية الانتخابية، والتي سيظهر ضعفها لو قدر لجميع الشيعة في لبنان الانتخاب بحرية من دون فتاوى دينية، والحال نفسها قد تكون موجودة لدى الأحزاب التي تنجح بتغييب نفسها ومقاطعة الانتخابات.
وما يزيد الطين بلّة أن قانون الانتخاب “الأعوَج”، الذي وضعته السلطة لكي تعيد إنتاج نفسها، فكل من كانت له اليد بإنتاجه ساهم بخيانة الوطن بطرق شرعية ودستورية وقانونيّة وبلباس ديمقراطي، لكن تبين أن مثل هذا القانون لم ينتج سوى مجموعة ديكتاتوريات يخيطها زعماء الطوائف ويلبسونها لجمهورهم عبر مسرحيّة “الانتخابات”.
“الثنائي المرح” لم يتقبل ترشيح أي لائحة منافسة له، والدليل أننا رأينا ما فعل لتعطيل إعلان لائحة معارضة في الدائرة الثانية في جنوب لبنان، عبر منع إعلان اللائحة والتعرض للمرشحين وللباصات التي كانت تقل مؤيديها من ضرب وتكسير، وسبق لحزب الله أثناء “ثورة 17 تشرين” منع “بوسطة” الثورة من الدخول إلى الجنوب وافتعال الشغب وممارسة العنف ضد “الثوار”. والشيء نفسه حصل عندما حاول بعض المحتجّين التظاهر قرب مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري، في منطقة عين التينة ببيروت، وكذلك أمام مجلس النواب في وسط المدينة، حيث تعرضنا لأكثر من مرّة لإطلاق نار من شرطة المجلس، ناهيك عن الاستفادة من “فورة” شباب 17 تشرين والتلطي خلفها، واستعمال غطاء الثورة للتعدي على المحلات وسرقتها وإضرام النار فيها. كما استفادت عناصر هذا الثنائي من حرق المصارف أيضاً، وباكورة ما حصل هو التعدي العلني في وضح النهار على السيدات الثائرات، لأنّهم لا يتحمّلون رؤية امرأة معارضة، وسعوا إلى تهميش دورها السياسي والريادي وتقصّدوا ضرب النساء علناً لإيصال رسالة تهديد للجنس اللطيف، وربما نجحوا بذلك بعد أن صنعوا من أشباه الرجال أنصاف آلهة.
في دويلة ولاية الفقيه دور المرأة معدوم، فهي غير مرشحّة في أي مجلس بلدي، ولا في الانتخابات النيابيّة، ولا حتى في المجلس السياسي لحزب الله، وبطبيعة الحال غائبة عن الوزارة، أمّا في جمهوريّة ولاية النبيه هي الزوجة الشريكة بـ 51% في مصالح وأعمال وأرزاق الغير، وقد عبرت “عناية عز الدين” في مجلس النواب والوزارة، ووضعت قريبات بالسفارات والسلك الدبلوماسيّ وفي الكادر التعليميّ.
في أوجه الشبه:
في دويلة ولاية الفقيه، كما في دويلة ولاية النبيه يأتي الإجتهاد بالمعاني والمفردات أكثر من الاجتهادات “المفترضة” بالدين، فالاحتلال عندهم هو حسب آخر تعريف للأمم المتحدة سنة 1949، حيث يوقع صفة المحتل على أي جيش أو مجموعة من دولة تسيطر عسكرياً على دولة أخرى ــ طبعاً مع حالة إنكار للاحتلال السوري، إذ شكروه قبل أن يخرج منذ 17 عاماً ــ فإذا سلمنا جدلاً بتعريف الأمم المتحدة، علَينا أيضاً القبول بقراراتها وعلى رأسها القرار 1559 الذي ينصّ على تسليم السلاح وليس الاستقواء به على بقية اللبنانيين، واستعراض فائض قوتهما المستمد من وجوده بيد الطرَفَين. ومع ذلك يرددون أنهم لبنانيّون ويأتمرون من لبنان ولا يشكلا خللاً في التركيبة.
لقد نسي توابع ولايتَي الفقيه والنبيه أن إلمانيا احتلّت فرنسا وحكمتها بواسطة حكومة فيشي، التي ضمّت فرنسيين فقط والجنرال بيتان الذي اعتبروه بطلا من أبطال الحرب العالميّة الأولى، ليَتَبَيّن أنّه مجرّد خائن عميل خاضع لدولة محتلّة، حيث أدخل “هتلر الطاغية” إلى باريس، وكم يشبه هتلر بطغيانه طاغية زارت بعض العواصم العربية لفرض احتلالها ولم تتمكن من إنهاء جولتها والعودة، فنهاية الطغاة على الأرض متشابهة.
في تلك الدوَيلة، يتناسَون تعريف الصليب الأحمر الدوَلي لكلمة احتلال، فهم يتناولون مفاهيم الصليب الأحمر كالـ“menu à la carte”، ويستفيدون من خدماته بنقل أسراهم وإعادة رفاة أبنائهم، والاهتمام الطبي اليومي وعلى مدار الساعة بعائلاتهم، كما بكل العائلات اللبنانيّة دون تفرقة، لكن حسب وَصَّفَ الصليب الأحمر سنة 2012 أن أيّ قوّة مسلّحة في أي بلد تأتمر من بلد آخر احتلال وهم يجاهرون علناً بانتمائهم لإيران وإتباع أوامرها والاستفادة من تموينها وتمويلها وتسليحها لهم.
في تلك الدويلة، يخافون فكر الرأي الآخر ويهددونه، وتتم تصفيته كما حدث مع لقمان سليم، وقد تجلّى ذلك بقلّة نسبة الترشيحات في المناطق التي تقع تحت سطوتهم، واعتمادها سلاح متفلّت وعناصر غير منضبطة ركضت من أحياء بيروت وجوارها يوم المظاهرة المليونية التي منعوها من البلوغ بقوّة العنف وبلطجة شرطة مجلس النواب في 8 آب- غشت 2020، بعد أربعة أيّام فقط على انفجار القرن في مرفأ بيروت، حيث تم تعليق مشانق كرتونية ورمزية تحمل صوَر أنصاف آلهٰتهم، والتي كان يأمل المليون الحاضر أن تكون مشانق حقيقيّة تريحه من محتلّي الكراسي ومحتكري قرار البلد.
في الحقبة التي فرضت ولايَتَي ودوَيلَتَي الفقيه والنبيه سيطرتهما على الدولة طار البلد.
نعم لسوء الحظ! طار البلد وطار معه أكثر من نصف مليون لبناني إلى جميع بقاع العالم، هرباً من السطوة وبحثا عن كرامةٍ فقدوها مع لقمة عَيشٍ وأمانٍ، فبعد أن كان لبنان “سويسرا الشرق”، ها هم يعملون على تثبيت تصنيفه الجهنمي!
طار البلد بعد أن كان “مستشفى الشرق” واليوم أضحَينا “نشحذ” البنج لمداواة ضرسٍ أو كسر عظم، وأضحى مرضى السرطان مجموعات متظاهرة تحتج وتطالب بدواء.
طار البلد بعد أن كان “مصرف الشرق”، حيث سبق كميل شمعون عصره وجعل لبنان بعهده أوّل بلد عربي يقرّ السريّة المصرفية، وصنع من لبنان خامس أقوى اقتصاد في العالم، ومن عملته دَيّن دوَلا وشغل بورصات العالم التي لم تكن تقفل قبل أن تقفل بورصته.
طار البلد بعد أن كان “جامعة الشرق”، أصبحنا نفتّش عن قرطاسيّة للجامعة الوطنية التي طالت إدارتها الكثير من التهم، كيف لا وهي خاضعة للمحاصصات والتنفيعات والتعيينات غبّ “الواسطة”.
طار البلد بعد أن كان “وجهة الشرق” وقبلته الثقافية والعلمية، حيث تم فيه طبع أوّل كتاب في العالم، ليصبح معرض الكتاب فيه إيراني غوغائي سخيف.
طار البلد السياحي الأوّل في المنطقة، لتصبح فنادقه مساحات للصدى يتردد فيها بكاء الوحدة.
طار البلد ودوره العربي الريادي الجامع الذي اكتسبه عبر التاريخ، ورسّخه كميل شمعون الذي قيل فيه: “فتى العروبة الأغرّ”، وصولاً للرئيس رفيق الحريري الذي استشهد من أجل لبنان حر وسيد.
طار البلد وطارت معه أم الشرائع بيروت الفينيقيّة عاصمة الدوَل العربيّة.
بئس هذا الزمن الرديء، زمن سطوَة الدُوَيلة على الدَولة. لكن يبقى الأمل، فبعد كل ضيق فرج وبعد كلّ ظلمٍ عدلٍ وحقٍّ لا يموت إذا بقي وراءه مُطالب،
رهاننا الكبير على تصميم الشعب، لا على زعمائه ولا على أحزابه، والذي إذا أراد الحيَاة كما أظهر في 4 آب- غشت 2021… سيستجيب القدر.