مؤنس الملك.. سيرة الضحك و الحزن

مؤنس الملك.. سيرة الضحك و الحزن

صدوق نور الدين

   ” من يملك أذن الملك، يساو الملك قوة ” (ص/55)

   تداخل

يمكن القول بداية، بأن في النص الروائي “مؤنس الملك” (2019) يتداخل بعدان: التشكيلي والروائي من منطلق كون المؤلف يوازي بين الممارستين. ويبرز البعدان في الصيغة التي يتحقق من خلالها بناء الشخصية الروائية. إذ على مستوى التلقي، يستشعر القارئ بأنه أمام لوحة فنية يطبعها التكامل على كافة المستويات: النفسي،  الاجتماعي والإنساني ككل. بيد أن التضافر يؤسس لتحويل النص الروائي إلى شريط سينمائي ، وهو ما تحقق ورواية “نجوم سيدي مومن” التي ترجمت إلى عشر  لغات.

سيرتان

تستهل رواية “مؤنس الملك”، بعتبة منسوبة للكاتب الفرنسي “فيكتور هيجو” نقتطف منها الجملة التالية:

” كم هي حزينة مهنة الإضحاك”. والأصل أن العتبة تلخص جوهر المعنى المنتج في الرواية: فعل “الإضحاك”. على أن المفارقة تكمن في التضاد: ( الحزن / الإضحاك). ذلك أن الرواية تحكي سيرتين: سيرة المضحك أوالمؤنس “محمد بن محمد”  و جوانب من سيرة الملك الراحل ” الحسن الثاني”. إذ كيف يتأتى للتفكير تحويل الشخصية من حالة إلى ثانية. من وضعية إلى أخرى، من الحزن إلى الضحك. بيد أن الأخير يتحول أسود لما يتم اعتقال ابن المؤنس المناضل المناهض للنظام والداعي للتغيير السياسي، حيث تبرز محنة الأم و معاناتها الظاهرة، والخفية بالنسبة للأب “محمد بن محمد”.

  شخصية المؤنس

هندس الروائي نصه باعتماد فصول مرقمة (من: 1 إلى: 13)، وصيغت بضمير المتكلم العائد أصلا على شخصية “محمد” المؤنس المضحك، و كأنه سيرة ذاتية خالصة غير معلن عنها. إذ من خلال الحكي نستجلي تفاصيل العلاقة والقصر. ذلك أن “الفقيه محمد” كما أعتيد تلقيبه، ورثـ إذا جاز ـ حرفة الإيناس والإضحاك عن أبيه الذي دأب مصاحبته قصور الباشاوات و رجال السلطة.

و ثم، خبر خبايا العلاقات وأسرار الشخصيات البارزة التي تدير الشأن. و لذلك لم يشكل دخوله القصر الملكي أية صعوبة:

      ” بالنسبة إلي، أنا الذي نشأت في باحات قصر الباشا، لم تكن خطواتي الأولى في قصر سيدي اكتشافا كبيرا. كنت معتادا أبهة الباشاوات والضجيج الذي يرافقها. شعرت بأنني في مكان مألوف.” (ص/28)

أمضى المؤنس في قصر الملك ما يقارب خمسا و ثلاثين عاما، تمكن خلالها من التعرف على الساعات الدقيقة في حياة الملك، كما جس نبض إحساساته ومشاعره حيال القضايا الاجتماعية  والسياسية، مثلما حظي بمتعة السفر إلى جانبه. إلى أن زمن الحكي في الرواية / السيرة، يعكسه الحاضر المتمثل في احتضار الملك. فما يحكى استعادة لماض بمثابة حنين مفقود ومفتقد:

    “.. كنت أصلي لله صبحا و مساء لكي يخلص مولاي من مرضه ، أو ، إذا اقتضى الأمر لم يكن هناك من مفر ، لكي ينزل ذلك المرض بي أنا. “ (ص / 10)

   “.. ذلك الزمن المبارك الذي يبدو الآن وكأنه لم يكن سوى ضرب من الخيال”. (ص/10)

ولذلك جاءت بداية الرواية كنهايتها موحية بالموت موت الملك. فالروائي من خلال الهندسة المعتمدة جعل البناء مغلقا دلالة من ناحية على النهاية، نهاية مرحلة وبداية ثانية، ومن أخرى تجسيد لاستمرار التقليد و المحافظة على الصورة نفسها.

     ” كان كل شيء يبدو طبيعيا ، لكن الحقيقة غير ذلك تماما. ” (ص/9)

       “.. ثم رفع عينيه نحو أزهار  الجكراندة.

         ـ لن أعود لرؤية الأزهار بعد اليوم ، أليس كذلك؟

       حدقت في جفنيه الشبيهتين بستارتين انسدلتا فوق عينيه  المريضتين ، وأجبته:

         ـ لا، لن تراها بعد اليوم يا مولاي.” ( ص/ 123)

وتكشف الاستعادات عن شخصية المؤنس باعتباره:

أ ـ الفقيه المحافظ المالك مقدرة الارتجال في أدق المواقف و أحرجها.

ب ـ المنافس الذي يبز غيره في / و على انتزاع البسمة من فم الملك.

ت ـ و الإنسان الذي يستشعر الألم الدفين و لا يجرؤ الكشف عنه.

  وقائع و حالات

  إن ما يستوقف في هذه السيرة المضمرة المجسدة في صيغة روائية، المشاهد الدالة على قوة حضور” دار المخزن ” متمثلة في أشكال السلطة الخفية والمعلنة. إذ رغم كون المعنى المنتج يرتبط بالضحك والإيناس، فإن علامات الخوف والتخويف تظل بارزة، فيحس ممتهن الضحك “محمد بن محمد” بأنه لا يمتلك ذاته ولا زمنه، مادام يكرس لخدمة الملك والقصر. بيد أن في التكريس يجدر به ـ نفسيا ـ أخذ الاحتياطات لتفادي التطاول على الطقوس ويتحول الإضحاك إلى الألم والحزن.

                   “أما أنا فوقتي كان ملكا حصريا لصاحب الجلالة”. (ص/53)

                  “.. الويل لمن تزل به القدم ، ففي محيط الملك لا  مكان للشفقة . ” (ص / 62)

على أن مفارقة المهنة تفرض:

1/ الحكي إلى أن ينام الملك.

2/ مراعاة الحالة النفسية، و ضرورة إخراج الملك من حالات الكدر و الضيق.

3/ تمثل واقع المصلحة العامة، واستمالة شخص الملك لاستحضارها تفاديا لأي شلل على مستوى المصالح.

         ” و كان التأخير الذي سببه تدهور صحة الملك قد شل أعمال المملكة”. (ص/87)

على أن ما لا تغيبه السيرة، مما يشكل الجانب المظلم الحزين والقاسي، صورة الواقع العائلي. الصورة التي مهما جد السارد إخفاءها والتكتم، تفرض ذاتها من منطلق كونها جزء من المشهد الذي يظل ناقصا دون استحضارها واستدعائها، خاصة وأن قولة ” هيجو ” تؤكد بأن ما يسم مهنة الإضحاك “الحزن”. فالعلاقة والأسرة لم تعد تجسد التوافق والانسجام بحكم أن الزمن الذي يكرس للعناية بها ليس متوافرا. ولعل ما ضاعف حدة التفكك العائلي اعتقال الابن الضابط في الجيش، والمناضل الذي نزع إلى التغيير. فهذه المعطيات الشخصية المحض، أثرت في/ وعلى المضحك المؤنس، وهو ما  جعل الذات تنشطر بين الفرح والحزن. الفرح داخل القصر كما تجد الذات في ابتكاره وصناعته. والحزن لما يمثل الواقع العائلي الذي تفرضه الطبيعة الإنسانية، وبالتحديد وضعية (الأم) التي تعاني من الفقدان على مستويين: مستوى الزوج المنزوع منها اختيارا، ومستوى الابن المعتقل إجبارا. وأعتقد بأن شق الحزن أبلغ تأثيرا من شق الفرح.

           ” لم أر زوجتي تطعن في السن، ولا رأيت أولادي يكبرون، ومع  ذلك فلست زوجا سيئا، ولا أبا غير جدير بالأبوة”. (ص/51)

         “جعلتني هذه المأساة أبدو في نظر الجميع حفارا لقبر ولدي، و أصبحت وحشا، ونذلا، وخائنا، وظلمت وحوكمت وأذنت مسبقا. كيف يمكنني أن أروي قصتي الشخصية بدون أن أذكر قصة ابني، لحمي و دمي”. (ص/76)

  في الختم

يبقى نص “مؤنس الملك ” متفردا بعدة خاصات:

1/ من حيث جرأة المادة المشتغل عليها، والمرتبطة بما يحدث داخل القصور وتداعياته.

2/ إيلاء الأهمية للجانب النفسي باستجلاء واقع الشخصية و حالات تمزقها.

3/ الرهان على صيغة يتداخل فيها الروائي بالسيري، إذ النص يكتب و يدون من طرف الابن كروائي و تشكيلي. و يحكى على لسان الاب الذي عايش تفاصيل الواقع، و كأنه كاتبه.

* صدرت “مؤنس الملك” (ماحي بينبين) عن مؤسسة “نوفل” و”المركز الثقافي العربي”. ترجمة : أدونيس سالم. 

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

صدوق نور الدين

ناقد وروائي مغربي