الكتابة بذاكرة مضادة
د. أحمد وارهام
إن مضمارَ علائق القوة، ومدى صراعاتها، وأحابيلَ سلطاتها، ومفرخَ الاختلاف الناسج لوعيها هو اللغة. فمن يُسَمِّي يكون لا محالة ـ بحسب نيتشه ـ هو السيدَ، والتسميةُ لها استراتيجية تتمثل في التملك والاستحواذ والهيمنة، فهي الراسمة للمعاني، والمحددةُ للقيم. ومن ثمة تصير أسماء الأشياء ومعانيها عبارة عن القوة المتسلطة عليها والمتملكة لها،إذ كل كلمة في اللغة تحمل شحنة من القوة هي في علاقة توتر دائم، ترشح منها علائق القوة ومقاصد السيطرة أثناء استعمالها.
إنما اللغة الوجود إذن
تتضمن صراعًا مُقَنَّعًا متواريا خلف آليات خفية بدورها، لا يكشفها المنطق ولا النوازع المتباينة المعروفة سلوكا وممارسة، لأنها آليات مُضمرة بعيدة عن المتعارف عليه، حيث يتم الصراع لإبراز من هو الأجْدَرُ بتحديد المفاهيم والمعاني، وطرح الإشكالات، وتمْهِيَّة الأشياء( = إعطائها ماهية)، وتنصيب الحقائق. وهذا الصراع على صعيد الكلمات هو المرتع الذي نُولدُ فيه يوميا مَجْبُولين بسوء التفاهم الغميق في مختلف نشاطاتنا الثقافية والفكرية والحضارية والدينية والسياسية والاقتصادية والفنية، وكأننا في كل الأحوال لا نسعى إلى ضبط المفاهيم والمعاني وتحديد صُوَّاها، وإنما إلى تغييمها وتفريغها إلا من قوتنا التي تملأها، وبخاصة في راهننا العولمي الذي أضحى فيه الوصل سمةً دامغة للوجود، ضدًّا على الفصل المائز للهويات الحضارية والثقافية والإبداعية.
وهنا المحنة؛
محنة الكاتب والكتابة، فأن تكتب يعني أن تلج فضاء شاسعا تتفاعل فيه الإنسانية، وتتواصل مع ذاتها، باعتبارك كائنا عاقلا، لكنَّ وُلوجك بالكتابة إليه يَتَعَيَّنُ أن لا ينبنيَ على الوجود من حيث هو مظهر، وإنما عليه من حيث هو صيرورة وحركية فاعلة في العمق، تُحرِّره وتحرِّرُ المتلقين من الاستيهامات والانجراحات، من الأوهام والأقنعة، من حجاب مايا Maya المُستعبِد. وبذلك يُضحي الموجود في الكتابة غير منفصل عن ذاته، وغيرَ مُفَوِّض شأنها لبديل يتحدث باسمها أو يتمظهر بصورتها.
فالإقامة في الكتابة بهذه الصورة ليست سوى إقامة في الذات بروحين:
أولهما: تتغَيَّا تشييد ذاكرة مضادةً une contre –mémoire مُخلخلة للسطوحِ الممتدَّة بلا حدود، لفضاء مستشرٍ بلا مرجعيات كأبدٍ لقيط، لعالمٍ بلا ألوان يُهيمنُ عليه الوصلُ.
ثانيتها: تفحصُ نُطْفَةَ الأسئلة قبل كائنِ الأجوبة، وجرثومةَ الذات قبل جرثومة الآخر، ذلك أن جِينيالُوجيا الذات ما هي إلا جينيالوجيا الآخر في التَّوِّ واللحظة.
فالكتابة المُرْضَعَة بلبان هاتين الروحين تغدو خرقًا وانفصالا عن الظنِّ doxa، نصًّا تتولد منه النصوص. ما ينفك يكشف عن أبعاد جديدة، وعن محلومات متوهجة في كل قراءة، وعن سُبل للرؤية لا مألوفة، تُشعل في المتلقي باستمرار لحظات الانفصال عن اجتراحات الكاتب، وتضع ذاته في أرض اجتراحات أخرى خاصة به، تمحو سلطة الكاتب، وترفع هيمنته عن نصه، بحيث يُمسي غُفلا مُشاعا، وينبوعا أعظم تتفرع منه الينابيع.
هي خطوة للكتابة في أفق مُقارعتها: غِيَابَ الاختلاف، وغطرسةَ الأحادية والتنميط، وجعلَ الكرة الأرضية؛ كما التي بين الأرجل؛ تقبلها البشرية كلها، وبصيغ جاهزة، بحيث تراها تتغذى بنفس الغذاء، وتنفعل بذات الانفعال، وتبصر الصورة عينها، تسافرُ في الفضاء الافتراضي الواحد لتشاهد ما هو مرادٌ لها أن تشاهده مسبقا، لا ما تتغياه وتحلم به. وهذه المقارعة تبتدئ من مواجهة الذات بوصفها مَشْغلا تنشبك فيه خيوطها بخيوط الآخر، بمعنى أن مواجهتها هي في الآن عينَه مواجهة للآخر، وبذلك تنبثق حركة انفصال خلاَّقة؛ هاجسها خلقُ شبكاتِ مُنَاهَضَةٍ عاملةٍ على الانفلات من التنميط، وعلى توليد الفروق والاختلافات البانية. فحركية الكتابة هي في عُمقها حركية وعي ولا وعي، سواء انتسبت إلى ذكر أو أنثى، وهي ائتلاف واختلاف يتجليان في اللغة، وفي حوار هذه اللغة مع الذات والكون بشكل مُقنَّع يتشابك فيه العقلاني باللاعقلاني، الماضي بالحاضر، الجواني بالبرَّاني، الذاتي بالموضوعي، لأجل زمن جديد لا يتحدد فيه الوجود إلا عبر الكتابة التي هي متخيل تمتزج فيه الذكورة بالأنوثة امتزاج النور بالماء والعطر بالزهر، دونما اعتبار للتصنيف الجنسي، وذلك لأن صيرورة الأنثى وسيرورتها تُلغيان التمييز والحدود، وتدفعانها إلى استخلاص كلِّ حقوقها الخاصة والعامة في الحياة، مما سيجعل ذاكرة النقد في ورطة إذا هي تمسكت بالتمييز بين إبداع الذكر وإبداع الأنثى.
الكتابة إقامة في الذات
إقامة فيها بذاكرة مضادة، وليست مرورا إليها عبر وعي الآخر وصوره التي يعكسها عنها، أو عبر وعيها هي لذلك الآخر. و إنما عبر وعيها الْمُستقلِّ عن كل المرايا، والمنتج لتثاقفٍ acculturation كَوْنِيٍّ لا يحجب ولا ينحجب.