حكايات سوريين في البحث عن الحرية
السؤال الآن
تقوم رواية منصور المنصور الخامسة “الحرب تشرب الشاي في القهوة” على اربع شخصيات رئيسية. كل شخصية تروي قصتها بضمير الانا. الشخصيات تتكلم بحرية لانها تبوح لنفسها عما جرى. نقدم بعضا من هذا البوح على لسان ابطالها. وهنا فصل منها:
أنا عارف
ولدت بالصدفة، بعد ثلاثة عشر عاما من الزواج. تزوج أبي من أمي عام 1967، وولدت عام 1980.
فجأة وفي ليلة من ليالي اليأس حصل الحمل، بعيدا عن كل الاحتمالات والامل. تلك الليلة أعادت الحياة لابي ولأمي، ودبت السعادة في البيت الصغير بعد يأس وقنوط. راح ابي وامي يعدا الاشهر، ثم الايام فالليالي فالساعات، إلى أن خرجت إلى الحياة.
ــ كنت ومازلت لا اتوانى عن مغازلة أية امرأة اراها، وأعتبرها مشروع لعلاقة جنسية. فإن نجحت وتحققت استمتع وأمتعها، وإن لم يتحقق أنسى الامر وكأن شيئا لم يكن. إلا ندى، فقد اختلف الموضوع قليلا. ما أن رأيتها، حتى وطنت النفس على العمل لأقامة علاقة معها. تعرفت عليها، وبدأت التمهيد، ولكن هذا التمهيد استمر لفترة طويلة نسبيا، والسبب في ذلك ندى نفسها. فهي ليست من النوع السهل، الذي يستسلم لمجرد كلمة او نظرة او وعدا. تتمتع ندى بذكاء الانثى الحاد، الذي يكشف نوايا الرجل، وتعمل مبكرا على تفاديه أو الاطالة في تحققه. بالمقابل لديها مهارة وامكانية جذب الشباب المعجبين، والالتفاف حولها. تعرف كيف تستخدم الكلمات الملتوية التي تحمل معاني عدة، ولغة الجسد التي تجذب اليها الرجال. تجذب، ولكن لا توافق أو تسمح لأحد أن يتمادى في التعامل معها. توصل الجميع إلى ذلك البزرخ الموجود بين القبول والصد، وتتركهم معلقين ينتظرون الموافقة أو عدمها.
أنا أمير
قُتل أهلي جميعا.
تلقيت مكالمة من أحد المعارف، ليخبرني أن عدة صواريخ أطلقت من طائرات تابعة لجيش النظام، دمرت عددا من البيوت في حينا.
اسرعت إلى الحي، حيث بيتنا، بيت العائلة. مررت بأحياء مدمرة بالكامل، وأحياء خاوية على عروشها. شعرت كما لو أن هزة أرضية ضربت هذا المكان. كان بيتنا نصفه مدمرا. دخلته من جهة المطبخ، حيث ما زال قائما، إلا أنه فقد الجدار الذي يفصله عن الشرفة المطلة على الشارع. يرتفع البيت عن مستوى الشارع بمسافة المتر. صعدت إلى الشرفة، كانت ممتلئة بانقاض الجدار، ودخلت إلى المطبخ. رأيتهم، أهلي جميعا. جالسون حول مائدة الغداء. بنفس الترتيب الذي اعتدناه منذ أن كنا أطفالا، ابي، أمي، ماهر، سامر ونهلة. كنت اجلس بين سامر ونهلة، ولكن منذ أيام الثورة الأولى عندما التزمت بمداواة الجرحى لم أعد اتواجد في البيت.
جلست بجانب أهلي، في مكاني المخصص، وبكيت. بكيت رحيلهم المبكر، ومن خلالهم بكيت رحيل عشرات الالاف من السوريين. بكيت قهرا من هذا العالم الظالم الذي لم يقف إلى جانبنا.
انا منى
عندما دخلت الصالون والتقت العيون، أدركت على نحو غامض، أن تلك النظرة ستحفر عميقا في قلبي، وأن قصة حب عاصفة سوف تولد. أدركت على نحو أكثر غموضا أن تلك المراهقة الشقية والمجنونة، التي اسمها منى، ستنهض من جديد، وتحل محل منى الام المتزنة، والارملة لشهيد لم يجف ترابه بعد. أحسست أنني التقيته أخيرا، هو ذا من كنت ابحث عنه ايام المراهقة والشباب الاول. هو ذا من اضطرب قلبي وجسدي له ولأول مرة في حياتي. هل هو الحب!؟ لم أحب سابقا أي شاب، ولا أعرف مشاعر الحب كيف تكون. لم اختبر مشاعر الحب كي أؤكد أن هذا هو الحب قد وفد الي أخيرا. ولكني شعرت أن شيئا ما نمى فجأة في أعماقي، كالبذرة التي تبرعم لتوها. يقولون حب الأربعين أقوى من حب المراهقة. كان واقفا أمامي، حنطي البشرة، شعره أسود طويل في حالة فوضى منظمة. طويل، وجسد لا هو بالنحيل ولا هو بالسمين. عينان اسرتان فيهما من الحزن اكثر مما ينبغي. رسمت سنوات الحرب التي عاشها معاناة عميقة على وجهه. تعثرت وأنا امشي باتحاهه. صافحته ورحبت به. سمعت صوته الرخيم والعميق:
ــ شكرا يا مدام. ممنونك أن تستقبلي رجلا مجهولا في آخر الليل.
ــ بالعكس، طالما أنت سوري فأنت لست بالمجهول. البيت بيتك
عدت إلى غرفتي وقلبي يخفق بشدة. عدت مضطربة أكثر مما كنت، عدت منى اخرى غير التي كانت قبل دقائق. هربت من الموقف، كما لو أنني أهرب من أيام قادمة أعرف نتائجها مسبقا. جلست على حافة السرير، عيناه لا تفارقني، وصوته الرخيم يمارس اغوائه الفاتن. نهضت ورحت أدور في الغرفة. احاسيس متناقضة تجتاحني. رغبة جامحة في العودة والجلوس اليه والحديث معه. بالمقابل أنا أم لشاب في العشرين من عمره وأرملة لشهيد لم يمض على وفاته سوى ثلاث سنوات. ولكن عمري أربعين، والأربعين كما يقولون هو نضج المرأة وتفتحها واكتمال الانوثة عندها.
ما الذي حل بك يا منى وقلب كيانك؟ الهذا الحد تهون العشرة عليك!؟ ماذا سيقول الناس عن سلوكك، وانت المحترمة طيلة حياتك. انت التي كنت قدوة لكل النساء في ذلك الحي المحافظ من دمشق وأنت اليوم قصة كفاحك ونشاطك واحتضانك لابنك وعملك على كل لسان. هل تريدين أن تنسفي كل شيء! لمجرد نظرات عابرة لشخص مجهول! هل تريدين أن يعلك الناس سمعتك وينشروها في كل انحاء الجالية هنا! أي حب هذا الذي تتوهمين! انه مجرد لهو أو نزوة عابرة تحدث لاي كان. اهدأي ولا تنسي أنك امرأة في الأربعين ولديك شاب وأعمال. لا تدمري كل الذي بنيتيه دفعة واحدة. تجاهلي هذا الرجل مثلما تجاهلت الكثيرين الذين مروا وحاولوا إغوائك، وكنت كالصخرة لا تهتز. لا للمغريات ولا للكلام المعسول، نعم للعمل والكفاح.
أنا ندى
طلقني الان، وإلا سوف انتحر.
هذا ما قلته لزوجي السابق مالك جبار، الذي يملك شركة ضخمة لتجارة السيارات و أخرى للمواد الغذائية في دبي. اعتقد أنه ضمني إلى ممتلكاته عندما تزوجني عام 2008. كان زواجي منه هو ردة فعل على خلاف حدث مع امير، حبيبي وفتى أحلامي، إضافة إلى رغبة الوالد والاخ الأكبر، اللذان طمعا في مصاهرة رجل أعمال.
ــ حطت طائرتي في إسطنبول يوم الخميس، 3 كانون الثاني، 2014. عندما تنفست هواء اسطنبول شعرت بالحرية، وأحسست بأن كل القيود التي كانت تكبلني منذ لحظة ولادتي قد تكسرت. أنا امرأة حرة، وكل ما دون حريتي لا قيمة له. هنا التقيت بصديقات وأصدقاء كانوا افتراضيين وتحولوا إلى أصدقاء وصديقات حقيقيين. تعرفت عليهم وعليهن عبر الفيس بوك منذ اللحظات الأولى لانداع الثورة
ــ لقد مر على اقامتي في اسطنبول سنة تقريبا وبضعة أشهر. خلال تلك الفترة أصبحت امرأة أخرى.
بدأت أرى العالم بعيون اخرى. لم تعد تعنيني عاداتنا وتقاليدنا في شيء. لم يعد يخيفني كلام الناس ولا تقييمهم لي. أزلت رهاب المجتمع من أعماقي، ومزقت حجبه عن عيني. يكفي ما حصل لي. لقد خسرت من أحب منذ سبع سنوات، وفشلت في زواجي، وفقدت أهلي جميعا في مجزرة الكيماوي في شهر اب في عام 2013. ذلك الجرح الذي لم ولن يندمل مهما تقادمت الأيام. كثيرا ما استيقظ ليلا وابكي واتذكرهم جميعا. اسمع أصواتهم وضحكاتهم، وحتى الشجارات التي خضناها اتذكرها، وأتخيلها وكأنها تحدث الان. كثيرا ما اسأل نفسي، هل تعذبوا وهم يلفظوا انفاسهم الأخيرة، هل عانوا من الاختناق، وحاولوا التشبث بالحياة قدر ما يستطيعون، أم استمروا في نومهم ولم يشعروا بشيء؟
كان يوم استثنائي في حياتي. كل ما جرى خلاله كان استثنائيا، وعلى غير العادي. استيقظت مبكرا، على غير العادة، الساعة الثامنة صباحا. كنت نشطة وفرحة وبمزاج بهيج، على غير العادة، فأنا غالبا ما أحتاج إلى ساعة بعد الاستيقاظ حتى استطيع الكلام أو النهوض من السرير. رحت استمع إلى فيروز، وانا ادور في الشقة. أعددت فطورا، وتناولته، ثم جهزت القهوة، وخرجت إلى البلكونة، ورحت أدخن واشرب قهوتي بهدوء، وصوت فيروز يصل إلى أذني. تقع شقتي في الطابق الاول في إحدى جادات المتفرعة عن شارع فوزي باشا، وتبعد عشرين مترا عنه. شرعت أتأمل المارة والشارع، لأكتشف أنه شارع عريض، ينخفض عن شارع فوزي باشا درجتين، لا تمر به السيارات، تتوسطة أشجار أو شجيرات صغيرة وأحواض، ومقاعد. شيئا فشيئا راح يتزايد عدد المارة. مر رجل يشبه جارنا، ابو تيسير. اقصد جار بيت أهلي في سوريا. ثم أدركت أن الشارع يشبه شارعنا، وهذا الهدوء الصباحي يشبه ذاك الهدوء الذي كان يخيم على حينا. شعرت بحالة تشابه ملفتة بين حيين وحالتين. اجتاحتني موجة حنين للماضي، للطفولة ولأهلي، لصمت أبي المزمن، ولدأب أمي التي لا تكل ولا تمل في حركة دائمة من المطبخ للصالون لغرفة الغسيل. لا تشتكي ولا تتذمر. حنين جميل لأخوتي، للكبار والصغار. رأيت الجميع في أبهى صورة لهم. لأول مرة أتذكرهم ولا ابكي. لأول مرة اراهم بوضوح شديد. تذكرت أول مرة التقيت بمالك جبار طليقي، عندما زارنا في بيتنا. أهداني عقدا من الذهب، ثمين جدا. وقدم هدية لكل افراد العائلة، كل حسب عمره. يمكن القول أنه اشترانا جميعا. تذكرت سنوات الشقاء معه والتمرد عليه وعلى العائلة. تذكرت أغلب محطات حياتي. رن الموبايل، وكان عارف. دعاني لزيارته في البيت، واصبح مفهوما ما يريد. من عادته أن يبدأ بمقدمة بعيدة كل البعد عما يريد، ثم يبدأ بالاقتراب من هدفه، بكلام لطيف، جميل، إلى أن يصل إلى كلام الغزل الرقيق، ثم الماجن. أما هذا الصباح فكانت دعوته بدون مقدمات، ولا غزل، دعوة مباشرة، لا تحمل أية شحنة عاطفية، كما لو أنه قال تعالي إلى السرير. قلت له متهكما:
ــ فايق ورايق.
ــ ليش لحتى ما أكون فايق ورايق وانت معي.
اعتذرت عن الذهاب. صمت لثواني، ثم استبدل دعوته تلك بدعوة للغداء في المطعم الذي أحبه. اعتذرت ايضا، مدعية أن مزاجي سيء اليوم، ولا أحب أن اقابل أحدا. في نهاية الحديث قلت له:
ــ ماني حابب شوفك اليوم
ضحك ضحكة مفتعلة، كعادته، تلك الضحكة التي سميتها خاتمة الفشل. فلقد أعتاد أن يضحك هذه الضحكة في نهاية كل اقتراح يفشل في تحقيقه. ومن جهة اخرى، ومنذ بداية علاقتنا، أعتدت أن أكاشفه بكل ما أشعر به، وهو اعتاد على أن يتقبل كلامي، ولا ينزعج منه. قال:
ــ اوكي، لما تشتاقيلي أنا تحت أمرك.
نهضت إلى المطبخ، ونظفت الصحون التي كانت في الحوض منذ البارحة. ثم رحت أدور في الشقة، كنحلة. رتبت سريري، على غير العادة, سقيت ورودي الموجودة على حافة نوافذ الغرفة والصالون والمطبخ. راح يتشكل في أعماقي احساس جميل، ولكنه مبهم، يشعرني أن شيئا استثنائيا سيحدث لي اليوم. شيء، أو حدث، أو خبر سيغير مجرى حياتي.
صدرت الرواية عن دار سامح للنشر في السويد
https://sameh.se