الصِّديقْ لَحْرَشْ
محمد فكري
شجرتنا نمت واخضرت ثم أزهرت وأعطت ثمارا ناضجة، وكما هي حياة أي كائن حي على وجه البسيطة، بدأت الشجرة تشيخ وأوراقها تتساقط تباعا، والورقة التي تسقط لا تعوض بل تترك مكانها فراغا وغصنها مائلا، غير أن ثمارها التي تسقط تترك بذورها في التربة لتنبت وتنمو شجرة جديدة.
نعم شجرتنا بدأت أوراقها تتساقط تباعا، ولكن ثمارها خرجت منها بذورا ستنموا مع الزمن وتزهر وتنضج ثمارها.
رفيقنا الصديق لحرش ورقة من شجرتنا سقطت، هو ليس ورقة بل غصنا أزهر وأعطى الكثير من الثمار، فالصديق لحرش كتلة من العطاء والبذل والتضحية، منذ نعومة أضافره شمر عن ساعديه للنضال من أجل أن تكون الحياة عادلة وجميلة، فهو لم يخرج للوجود وفي فمه ملعقة من ذهب، كما يقولون، وبالتالي وجد الطريق أمامه مفروشا ورودا وزرابي مبثوتة، بل وجده مليئا بالأشواك والأحجار المسننة، فكان عليه أن يختار طريق النضال والكفاح، من أجل نفسه ومن أجل مواطنيه ووطنه. بدأ من مدرسته ومن حيه يتلمس طريق النضال من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ويتهجى أبجديتها، وفي الجامعة اكتمل النضج واختار طريقه وماذا يريد. فوجد نفسه منغمسا كليا في نضال الحركة الطلابية الممثلة في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ثم اختار الانتماء بعد ذلك لإحدى فصائل اليسار الجديد الذي أفرزته نضالات الحركة الطلابية ونهوض الحركة الجماهيرية في السبعينيات من القرن الماضي. وفي الاعتقالات التي تعرضت لها الحركة اليسارية الجديدة في أوائل السبعينيات من طرف النظام المخزني، وكان الهدف منها هو استئصال جذورها بعد أن أصبحت تشكل خطرا على النظام ومشاريعه، فقد وجدت هذه الحركة الوليدة صدى لدى فئات واسعة من شبيبة المغرب التي رأت فيها أملا جديدا، لأنها جاءت بثقافة جديدة وبمفهوم جديد للنضال، ولأن مناضليها الأساسيين كانوا شبه متصوفين يضحون بكل شيء من أجل المبادئ التي حملوها وأمنوا بها.
ولأن الصديق لحرش من هذا النوع ومن هذه الطينة، فقد شملته اعتقالات بداية السبعينيات من القرن الماضي، من بين من شملت من اليسار الجديد. فالحرش ذوب ذاته في النضال من أجل ما آمن به، ووضع نفسه في خدمة الآخرين.
عرفت الصديق لحرش في السجن المركزي بالقنيطرة، عرفته كتلة من النشاط والحركة يقوم بجميع المهام داخل السجن المركزي، كان مكلفا بجلب التموين من الخارج وتوزيعه، ومسؤولا عن الحياة الجماعية، كل من ينقصه شيئا يلتجأ للصديق لحرش، وهذه المهمة كان الكل يتهرب منها، وقد ساعدته في هذه المهمة، توزيع المؤونة على المعتقلين، في وقت معين وأشهد أن هذه العملية، كما رأيت، كانت تتم بعدل ومساواة ولا يُفضل أحد على آخر.
وهو لم يكن مكلفا بجلب التموين وتوزيعه فقط، بل ينظم دوريات لكرة القدم، يسهر على تكوين الفرق وتسجيل نقط كل فرقة.
كما كان يدعو للتجمع حين يحدث أي جديد أو يكون هناك مشكل مع إدارة السجن.
الصديق لحرش، رغم ما كان يتعرض له من انتقادات أحيانا، فقد كان يواصل ما يقوم به من مهام لخدمة رفاقه بوفاء وحب وإخلاص، لم يتأفف أو يشتكي أو ينزوي ويتخلى عن مهامه، في أي يوم من الأيام.
لما غادر الرفيق لحرش السجن المركزي بالقنيطرة، واصل النضال من أجل غد أفضل، سواء في الميدان الحقوقي على الصعيدين الوطني والأفريقي والعربي، حيث عمل في رواندا بعد المذبحة العرقية التي جرت هناك، ثم انتقل لليمن وعمل مع ممثلي الأمم المتحدة هناك.
ولأن لحرش الصديق كان طيبا وخدوما، آل على نفسه أن يجمع المعتقلين السياسيين السابقين (مجموعة 77) كل سنتين، في لقاء حميمي ودي وقد عمل بكل قوته من أجل أن يستمر هذا اللقاء حميميا، يلتقي فيه رفاق المركزي من مجموعة 77، يحيون صلة الرحم فيما بينهم ويتبادلون الذكريات الجميلة، دون خلفيات سياسية أو أيديولوجية. وهذا في حد ذاته يعتبر عملا جبارا، فليس سهلا أن تجمع أناسا يختلفون في آرائهم وتقييماتهم وتصوراتهم وكل منهم اختار طريقه بحرية، غير أن هناك شيئا يجمعهم وهي تلك العلاقات الإنسانية الحميمية التي عاشوها جميعا داخل السجن وهذه اللقاءات جعلتها تتجدد وتستمر، رغم التفاوتات الكبيرة التي حدثت بيننا في الحياة.
آخر لقاء نظمه الرفيق لحرش هو لقاء الرباط الذي عقد بمقر معهد التكوين في حقوق الإنسان، والذي تصارع فيه مع الزمن ومع الوقت وأصر على تنظيمه بأي ثمن، وتحدى كل الصعوبات والمعيقات، فرغم مرضه، أصر على السهر على تنظيم اللقاء بكل تفاصيله، وبذل أكثر من مجهوده، وقد تعرض لعدة ضغوطات وانتقادات جارحة، أحيانا، من البعض، وهذا لم يفل من عزيمته، وبقي مصرا على المضي قدما إلى أن عقد اللقاء بنجاح، ولأول مرة جمع المعتقلين اليساريين من مختلف التيارات، والمجموعات ولم يقتصر على معتقلي مجموعة 77.
فهل من غير الصديق لحرش يقدر وله النفس الطويل للقيام بمثل هذا العمل؟
لقاء الرباط كان بمثابة وداع لهذا الإنسان الاستثنائي الذي وهب حياته للعمل من أجل الجميع، عمل بإخلاص ووفاء ونكران ذات، تحية لروحه الطاهرة وليكن نبراسا وقدوة لكل المناضلين الذين يحبون وطنهم ويعملون من أجل رفعته وازدهاره، وطن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة.
القنيطرة 18 يوليوز 2022