أغنية الجلاد

أغنية الجلاد

عبد الرحيم التوراني

كنت أنبح وأعوي من شدة الجلد. وكان الجلاد محترفا قاسيا. بل هو القسوة نفسها والقساوة تتنفس.

توقف فجأة عن تعذيبي. ابتعد عني. مشى خطوات متثاقلة وجلس فوق الكرسي الوحيد بقاعة العمليات. هكذا يسمون قاعة التعذيب. أشعل سيجارة سوداء وانشغل عني في التأمل والتفكير.

– هل الجلاد مثل الآخرين يفكر أيضا ويتأمل؟

هكذا سألت نفسي ساعتها، وعجزت عن إيجاد جواب كيفما اتفق. لقد كنت غير قادر إلا على النباح والعواء، بل إني خجلت من صياحي وبكائي الذي يصدر مني على شكل صوت الكلاب والذئاب…

– هل أصل الإنسان يعود لهذا الحيوان؟

 تشارلز داروين يخبرنا أننا من سلالة القردة.

وتمنيت لو استطعت أن أنهق. إذ لا يمكنني وصف سهولة إلقائهم القبض علي إلا ب”تحماريت” (الجحشنة)، مع بالغ الاحترام والتقدير للحمار. ليس من باب الصدفة أن اختار مؤسسو الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية رسم الحمار شعارا لحزبهم العتيد.

 تأخر الجلاد في استراحته، وكأني به دخن أكثر من سيجارتين. أنا كنت قد التقطت أنفاسي خلالها محاولا العودة لآدميتي.

حرضت نفسي على الصمود أكثر. استرجعت بعض التعليمات التي حفظتها لمثل هذه المصيبة المشؤومة. كنا نضع أمر اعتقالنا وخضوعنا للتعذيب بين أعيننا. تماما كما كان أبي يوصينا أنا وإخوتي، ونحن ما زلنا أطفالا مقبلين على الحياة، أن نضع الموت أمام أعيننا. “أينما كنتم يدرككم الموت”. وها قد أدركني الموت تعذيبا على أيدي من لا يشفق ولا يرحم. فجأة انتبهت إلى ظله الضخم يتجه صوب الجدار الواقع خلفي. بدأت أرتعد والنباح والعواء واقف على شفتي المزمومتين. خفت أن ألتفت ورائي فينزل علي الجلاد بضربة قاضية. حل صمت حسبته دهرا. تحسست بللا تحتي. وشعرت بالنعاس وبالعياء. منذ أيام، لا أعرف كم هي، لم أذق طعم النوم.

 ثم أعادني صوت التكبير من غفوتي.

 (الله أكبر.. الله أكبر… سمع الله لمن حمده)…

 أدركت أن الحاج يؤدي الصلاة. لم أعرف أي صلاة هي. لعلها كانت صلاة الفجر. صلى ركعتين. وتلاهما بالدعاء لله سبحانه.

لم أسمع جيدا كلمات دعائه ومطالبه التي يتمنى أن يقضيها له السميع المجيب. دعوت أنا أيضا الله أن يخلصني من هؤلاء القتلة، ودعوته أن ينتقم لي منهم. لكن دعائي لم تسبقه صلاة، كما فعل “الحاج” المؤمن.

 بعدما أنهى واجبه الديني توجه نحوي ليستكمل واجبه الدنيوي.

 إن هذا البدين المفتول الشارب الغليظ القلب يقتات من تعذيب المعارضين للملك. يشتري حاجيات أولاده وزوجته من الجروح والدم الذي ينزف من الأجساد والجثث خلال حصص التعذيب. وبالمناسبة أشهد له أمام الله وأمام العبد، أنه لم يكن يغش في عمله، بل إنه يوفي التعذيب حقه، ولا يستعجل التخلص من مهمته للذهاب لمتابعة مباراة في كرة القدم مثلا. وكانت تلك الأيام تصادف تنظيم مباريات نهائيات كأس العالم، ومنتخب بلادنا من بين المنتخبات المشاركة.

العمل عبادة. وقد كان يتعبد متوسلا إلى خدمة رؤسائه على حساب هلاكنا. إنه يسجل إصاباته في مرمى أجساد المعارضين.

تقدم نحوي ليكمل شغله. رفع كفه الغليظة وهوى بها على خدي. أبصرت أضواء ملونة ونجوما لم أحظ برؤيتها من قبل.

 ألا تخجل من معارضة أسيادك وأصحاب الفضل عليك في الحياة أيها الخنزير؟؟؟

 أما زلت مصرا على الصمود والإنكار؟؟؟

 من أي طينة أنتم؟ وأي بطن ولدتكم؟؟؟

 حاشى لله أن تكونوا مغاربة مسلمين. أنتم يهود.. خنازير.. ملاحدة.. لا تعرفون ربي ولا خلقه.

ظللت صامتا. كأني أغيظه وأعذبه بدوري على طريقتي. أشعل سيجارة ومد لي أخرى. أنزلني من فوق منصة التعذيب. تغيرت لهجته ولكنته. صار لينا خافتا.. إنه ينتمي لبني البشر. سمّاني باسمي لأول مرة. لم يشتمني. لم يتفوه بالكلام البذيء. سألني إن كان بي جوع أو أرغب في شرب فنجان شاي أو قهوة. أوصاني أن أتوب إلى الله وبأن أصلي.

 الصلاة لا تكلفك شيئا… فيها راحة نفسية عظيمة للإنسان لو تدري يا ابني.

وصفني بابنه

بدأت الوساوس تسيطر علي. تساءلت عما يعده لي هذا الغول المفترس. لم أثق لحظة واحدة في أي كلمة لطيفة تصدر منه.

 طلب مني أن أرتاح.. وأن أنسى كل ما حصل بيننا..

 قال إنها الضرورة… “الله يلعن بو الخبز”…

 شربت ماء معدنيا ودخنت ثلاث سجائر. وقشرت برتقالة. رتبت أفكاري والسيناريو الذي أعددته من قبل للجواب على أسئلته. وكان سؤاله الأول عن أحمد شوقي. أجبت أن لا أحد من أفراد الخلية التي كنت عضوا بها يتسمى بمثل هذا الاسم.

ضحك حتى بدت أضراسه.

قال لي:

 يا أحمق أنا أسألك عن أمير الشعراء، إلا إذا كنت ضد كل الملوك والأمراء قاطبة، فهذا شأن آخر.

ثم انخرط في ضحك أطول من السابق، حتى أخذته نوبة من السعال. فضحكت أنا أيضا معه.

لما توقف نهرني:

 بلا ضحك. أتكلم معك بجد. هل تحفظ شعرا، هل لديك ميولا أدبية؟ لا تنكر هذا أيضا.

بلغني أنك تكتب الشعر وتنظم الهتافات التي ترددونها في المظاهرات، أليس كذلك؟

ظللت صامتا غير مدرك لهذيان الرجل. محتاطا. أين سيمضي بي!

قدم لي صفحة داخلية من جريدة قديمة، تتضمن حوارا معه بصفته بطلا في رياضة المصارعة وفنانا ملحنا. واستدرك مشيرا إلى الصورة المرفقة بالحوار:

 هذا أنا. لن تستطيع التعرف علي بسهولة لو لم أقلها لك. ثم ابتسم كبليد.

بدأت أقرأ، فانتزع مني الصفحة واعدا أن يستنسخ نسخة منها ويهديها لي لاحقا. شكرته على لطفه وكرمه.

نهض وأخذ يطوف حولي ويتكلم:

 سأخفف عنك إن أنت ساعدتني وتعاونت معي.

قلت:

والله لقلت لك كل ما أعرف عن التنظيم، فأنا لست قياديا كما تعتقدون.

قاطعني غاضبا.

لا تتكلم قبل أن أنهي كلامي أيها الكلب. يا ولد القحبة….

سكتت أنا. ثم صمت هو.

اقترب مني طالبا العذر والمسامحة.

وبصوت يكاد يكون هامسا، كمن يخاف أن يسمعه أحدهم، قال لي:

 إن الذي يحدثك اللحظة ليس هو الجلاد، دعك من هذا العبث، الذي معك الآن هو الفنان الملحن كاتب كلمات الأغاني.

 تشرفت بك أيها الفنان المبدع.

 المطلوب منك خلال يوم.. أو يومين على الأكثر أن تقدم لي خدمة. خدمة لن أنساها لك

 نعم وما المطلوب مني؟

  – لنتفق أولا، كل عمل له مقابله الملموس، لن أستغلك.. لا..لا.. حرام علي

 ما المطلوب…؟

لا تستعجل… المطلوب منك شيء بسيط في متناولك… أيها الشاعر الكبير

(…)

 أكتب لي قصيدة شعر.

 شعر؟

 نعم… هل أتحدث معك بلغة لا تعرفها؟

 (…)

 أُكتب لي قصيدة مدح في الملك.. أعرف أنك معارض متطرف، لكنك سوف لن توقعها أنت.. ستكون باسمي أنا، وسألحنها لتغنى في عيد العرش بعد أقل من أسبوعين..

 (…)

 لا تخذلني، لقد ذهب عني كل الإلهام الذي وهبني إياه الله. هذا العمل المقيت لا يترك الإنسان يقول شعرا..

بعد تفكير لم يطل كتبت أي كلام، لا روح فيه ولا صلة له بالشعر. لما قدمته إليه كنت أتوجس من أن لا يعجبه فيتهمني بالتهكم على الذات الملكية، لكن فوجئت بالحاج يشكرني ويدعوني أن أتقاسم معه وجبته. ثم أهداني علبة سجائر أمريكية. بدأت أفكر فيما بعد مغادرتي هذا السجن السري. لكن الملحن غاب عني أياما. ذهب للاستعداد لحفلات عيد العرش، وتم تغييره بـ”فنان” جديد يطرب لتأوهاتي ويرقص. ويكتب أسئلة التحقيق ويلحنها لوحده. فيما كان الرعب يسيطر علي حد الانهيار عندما أتخيل أن الرفاق بلغتهم قصيدتي، أقصد فضيحتي… في مدح الملك.

1987، الرباط

* نشرت تحت عنوان “المديح السفلي” – في “نزوات غويا”، عبد الرحيم التوراني، دار رياض نجيب الريس للكتب والنشر، بيروت (2018)

 

Visited 38 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن