“الرُّوخُو” في ضيافة الجلاد قدور اليوسفي (2)
شهادة المناضل محمد السريفي في “درب مولاي الشريف” (2)
التقطت على بعد كيلومترات رائحة زيت الكافور. بعد هذه الحصص اعتقدت أنهم أدركوا أني أجهل فعلا كل شيء عن المفتاح والخزنة، أما عن “الروخو” فقد قام أحد الجلادين لسوء حظه بتوجيه البحث في اتجاه آخر، بعد ترجمته لكلمة rojo “روخو” بأشقر.
يدي اليمنى تخرج عن “إدارتي”، لم يعد بوسعي أن أعطيها أية تعليمة، كنت أقضي ساعات أنظر من تحت العصابة إلى اليد الجامدة المشلولة. طوال شهور كنت المعتقل الوحيد بدون أصفاد، يا له من شعور كبير بالارتياح. فقدت رجلاي حركيتهما المعتادة. كنت أحدق في الرفاق وهم يقطعون الكولوار كي أتعلم منهم المشي مجددا. ما ألطف المسعى الإنساني!! بمجرد ما تلمس القدم الأرض حتى تحلق مثل ألباتروس بودلير في عظمته وبؤسه.
شعرت أن الوقت لا يزال نهارا، حين اقترب حارس يدعى Comtrex “الكونتركس” مني وقال لي في نبرة أحسست أن فيها تعاطفا، وخوفا كذلك وعمقا إنسانيا:
– “لَمْعلَّمْ” يريدك ، راه عَوَّلْ …
لم أتذكر ماذا وقع، ولا الأسئلة التي طرحها علي اليوسفي. لم تكن حصة تعذيب “عقلانية”… ركلات، لكمات، سِباب… طوال المدة التي استغرقها هذا التعذيب الوحشي لم أعرف أية لحظة كانت أشد ألما: الطيارة، الجلد على باطن القدمين، الخنق…
ما أتذكره أني كنت جالسا على كرسي من خشب وحيدا في غرفة. فجأة سمعت صوتا ورائي وسوط جلاد يضرب عنقي والجزء العاري من ظهري بعنف رهيب:
– “ولد القحبة! خلّيتني حاصل معك هنا، جا “لَمْعَلَّمْ” ليأخذك من هنا بصفة نهائية، سترى الجحيم”..
وأخذت الضربات تنهال علي بدون انقطاع وبوتيرة غير منتظمة، تهزني من الأرض هزا. أتذكرني ملقى على أرضية سيارة البوليس “الفارغونيت”، قال أحد المرافقين بأنهم يحملونني لقتلي في هذه الليلة.
كم استغرق هذا المشهد من الوقت؟
ماذا وقع؟
لا شيء..
لا أتذكر شيئا غير العودة إلى الدرب وصرير العجلات على الحصى في مدخل البناية.
كل شيء يدور حولي، طوال أسابيع لا أستطيع الوقوف دون أن يبدأ كل شيء في الدوران حولي، لم أكن أميز بين الأرض والسقف، كنت أشعر بأني في حالة ارتفاع، يكفي أن أقوم بحركة بسيطة، كتحريك الرأس ولو لميلمترات معدودة، لينقذف الجسد كاملا في دوران رهيب، دوران أسطواني في الفراغ. كنت أتقيأ دواخلي الفارغة، لا أستطيع الوقوف دون مساعدة الحراس للذهاب إلى المرحاض، وإلا ظللت مسمَّرا على الأرض، ومجرد رعشات خطى وأصوات رفاق كافية لتهزني.
في هذا الوقت تركني اليوسفي قدور أواجه مصيري، تركني بين أيدي قطيع الحجاج في CIM4.. هؤلاء الحجاج الذين كونهم ودَرَّبَهُم الجنرال أوفقير، قدموا في أغلبيتهم من منطقة “عين شكير” وبلدة كوراما، رجال بلغت فظاعتهم حد القدرة على سحق عظام من يعذبون في الدرب وهم يبتسمون. يتحدد إيقاع التعذيب بالزيارات المتفرقة التي يقوم بها الرجل ذو الحذاء الجلدي بلون “بوردو” (عنّابي)، بعد زياراته تبدأ الكوابيس. أتذكر أني بقيت ليلة كاملة مفرق الرجلين، يداي إلى الجدار، وأحد الحراس يشبع ظهري ضربا بسوط جلدي. ومن نفس عُلُوي رأيتهم، عبر فتحة العصابة، جاؤوني بالذي اختطفته الأجهزة السرية من الجزائر، كان يشير إلي بأن أصمد.. إنه رجل مسن من فكيك اسمه عمر دونان، يحاول إقناعي لإسنادي في هذا الاحتضار الليلي – لكونه دائم الأرق – بأننا سننتصر قريبا على هذا العار. في هذه الليلة كتبت أول قصيدة في الدرب:
“إشارة بعد أخرى، عرفت أنك جئت من فكيك أيها الشيخ الفكيكي، هناك حيث يتفتت الصخر”…
لكني شعرت في هذا الجو أن رقم 40 لا يزال رجلا يتوجب تدميره، سحقه، قتله…
عبر روائح العطور التي تصلنا من العالم الخارجي، التي تتسرب إلينا من شقوق الجدران وانفراجات النوافذ، عبر الضوضاء التي تنساب وتخترق الجدران التي تخنق قلعة الموت هاته، كنا نستشعر أن فصل الشتاء يوشك أن يغادر المكان، قد يأتي ذات يوم خُطاف ويغامر بالدخول إلى هذا الجحيم، وأنه لن يعود إليه لهول ما سيراه.
عاد الهدوء إلى درب مولاي الشريف، صرنا نتمكن ليلا من إغماض العيون المغطاة لمدة شهور بعصابة مليئة قيحا وصديدا، ألف البق الحياة فيها على مستوى الأصداغ. لم تعد الليالي يمزقها أنين الرفاق المعتقلين حديثا تحت التعذيب، ولا صراخ ألم الجروح المنكوءة.. قلوبنا لم تعد تدق إلى حد التمزق كلما سمعنا أرقامنا تزعق بها جوقة الجلادين. أصبحنا نعرف أنها مجرد اختبارات لتنغص علينا الهدوء: بضع ضربات بالسوط، بعض الصفعات أو الركلات على فم المعدة لا غير، لا شيء خطير: لا صعق ولا خرقة ولا ببغاء ولا طيارة ولا خنق، لا أحد ينسانا معلقين لساعات.. أمور فظيعة، فظيعة… (يتبع)
ترجمها عن الفرنسية: محمد بولعيش