سعيد المغربي: الغناء لثوار فلسطين في “صبرا وشاتيلا”
من مذكرات سعيد المغربي
في اليوم الموالي لحفل “مهرجان الانطلاقة” في بيروت سنة 1981، الذي اعتادت على تنظيمه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، شاع في الصحافة العربية الصادرة في لبنان خبر وجود فنان ملتزم ببيروت. يجب التذكير هنا: أن بيروت رغم الحصار والحرب الأهلية شكلت دائما بؤرة نوعية للإعلام الثقافي والفني العربي، وكانت بحق مصدرا ثقافيا وإعلاميا مهما لكل المثقفين العرب. وقد احتفى بي الإعلام البيروتي أكبر احتفاء، بتعليقات ومقابلات مع كبريات الجرائد والمجلات العربية وقتها: من “الحرية”، “الهدف”، “الموقف العربي”، “فلسطين الثورة” إلى مجلة “ألوان” النسائية التي أجرت معي حوارا خاصا.
أحسست وقتها أني بين أحضان شعب يحب الفن والموسيقى، ويقدر مجهود “فناني الهامش العربي”. وسعادتي تكمن في كوني أحسست بالاعتبار الإعلامي، عكس ما عشته في المغرب، الذي لم يُشَرِ قط في صحافته وجرائد أحزابه إلى الحفلات الكبرى التي كنت أقيمها بأغلب الفضاءات الثقافية والجمعوية، مُهرَّبا تارة، ومختفيا تارة أخرى، باستثناء جريدة “البيان” التي خصصت لي سنة 1979 صفحة كاملة تضمنت نص استجواب مطول. كان هناك شبه اتفاق على تجاهل التجربة رغم نجاحاتها. وكانت الصحافة في المغرب لا تنشر إلا ما يتعلق بتنظيماتها الحزبية، أو ما يليق بها من المتابعات والأخبار. كانت فعلا جرائد حزبية مغلقة تنقصها الموضوعية والمهنية.
احتفت بي المقاومة اللبنانية والتنظيمات الفلسطينية بتنظيم حفلات خاصة، في إطار أحزابها بأغلب المدن اللبنانية. من صور والبقاع والعرقوب والليطاني وصيدا وبعلبك وبيروت، إلى الجنوب اللبناني المقاوم ومنطقة الشياح الحدودية، وغيرها من المناطق الخطرة التي كانت آنذاك في مجابهة دائمة. حيث عندما كنت أغني في الجنوب في لقاء مع المقاتلين، الذين بالمناسبة ألبسوني زيهم العسكري، قصفت الطائرات الإسرائيلية مواقعهم، مما حدا بهم إلى رفع بنادقهم إلى السماء وإطلاق طلقات نارية، تحديا للعدو الإسرائيلي وتحية ونشوة بالأغاني التي وجدت مكانها الطبيعي، بصفتها أغاني للأمل وللصمود.
أثناء رحلتي هاته، التي كانت مليئة بالمفاجئات، نظمت إذاعة “صوت الثورة الفلسطينية” فور عودتي من الجنوب اللبناني لقاءا إذاعيا مباشرا معي، وأصبحت إذاعة المقاومة تذيع أغاني سعيد المغربي. ثم سجلت لي شريطا غنائيا بنسخ وافرة، كنت أوزعه أثناء الحفلات ولازلت أحتفظ بنسخة منه.
تزامن وجودي في لبنان، الذي دام قرابة ثلاثة أشهر، مع دورة سرية تكوينية لمناضلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على الصعيد العالمي ببيروت. فاستدعيت لإحياء حفلة تخرجهم. كنت أعتقد أنها ستكون حفلة عادية، وذهبت توا مع المرافقين لي. وتوقفنا وسط حي ستدخل مجزرته التاريخ، إنه منطقة “صبرا وشاتيلا”. دخلنا بالسيارة العسكرية، التي كنا نركبها دوما، بين منعرجات ضيقة متلاصقة لا تتسع إلا للعابرين المسموح بعبورهم. وجدت الحي صورة طبق الأصل لكاريان بنمسيك في الدار البيضاء، لكنه أكثر شساعة وأكبر. اعتقدت في بادئ الأمر أنني سأغني في هذا الحي المناضل رغم غياب فضاء لائق يسمح بذلك. بعدها انعرجت السيارة على منعطف صفيحي لننزل مسرعين عبر ممر مبني بأدراج إسمنتية، وعميق تحت الأرض، سرعان ما أحالنا على سرداب أرضي، مجهز ومشيد وفق هندسة حديثة، به قاعات وصالة عرض جميلة، ومرافق غابرة تحت الأرض. استقبلني مناضلون قادمون من كل بقاع العالم، كانوا من المشاركين في تلك الدورة.
كم كنت سعيدا برؤية المناضلين السريين الذين كانوا يقاومون في كل أنحاء العالم من أجل الحرية والكرامة وتحرير فلسطين، ولا نسمع سوى أصداء بطولاتهم وعملياتهم الملحمية. كانت حفلة لن أنساها. طبيعتها الجدية وصرامة المناضلين الأقوياء، الذين رغم إبدائهم مظاهر الحفاوة لا ترى في ملامحهم سوى الصلابة والكبرياء والحزم المفرط…
أحسست حينها أنني أمام امتحان عسير يحتم علي بذل مجهود أكبر لإقناع الحاضرين. هكذا بدأت اللقاء الغنائي بأغنية كنت قد انتهيت من تلحينها للشاعر الإريتري أحمد سعد:
سنمضي في المسير
للشاعر الإريتري أحمد سعد، لحن وأداء سعيد المغربي (1981):
كل نبض في عروقي
كل عزم في نضال الكادحين
كل صوت وأنين في بلادي
يصنع النصر المبين
يملأ الدنيا دويا
يملأ الدنيا انبعاثا
رغم كيد الغاصبين
سوف نمضي في المسير
إن آلام الضحايا و اليتامى
في الأكواخ انتصار
لا خضوع لمن يرجو الفناء
كل نصر طاف في أرجاء كوبا والفتنام
كان في الأصل جراحا ودماء
كل عزم في يميني
سوف يبفى انتصارا وضياء
ربما دكوا الروابي
ربما صبوا لهيبا
فوق زرع وبيوت وأطفال
بيد أنَّا لا نبالي
فسلاح الثوار صوت رشاش
يغني للسلام…