بين الدين والقانون
عز الدين العلام
تطرح العلاقة بين الدين والقانون أكثر من سؤال. من خلالها، يتبيّن الفارق بين الأمر الديني والقاعدة القانونية في طبيعتهما، وخاصة من حيث الجزاء المترتّب عن خرق مبدأ من مبادئهما. حقوق “الله” شيء، وحقوق “الإنسان” شيء آخر. والجزاء الأخروي شيء، والجزاء الدنيوي شيء آخر. القاعدة القانونية، عامة ومجرّدة، تهمّ جميع المواطنين بغضّ النظر عن انتماء ديني أو غيره، والأمر الديني خاص، يهمّ المؤمنين به حصرا دون سواهم. حكمة القوانين دنيوية وعاجلة، تهمّ الحال، بينما حكمة الأوامر الدينية إلهية وآجلة، تهمّ المآل. هو الفارق بين المواطن الخاضع للقوانين المعمول بها، وبين المؤمن ومعتقداته.
نعم، قد تستوحي القواعد القانونية مبدأ من مبادئ الأديان في صياغتها لبعض موادها، غير أنّ الفارق يظلّ قائما بين الاستئناس ببعض المبادئ الإنسانية الخالدة التي قد نجدها في هذا الدين أو ذاك، وبين تحويل القول الديني الإلهي إلى قانون دنيوي بشري.
والسؤال المطروح هو: إذا كان الإنسان يعمل على تحسين أوضاعه، وتسهيل سُبل معاشه، وهو أمر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينافي الحكمة الثاوية من وراء الأديان (أو هذا هو المفروض)، فإن الاختيار في حال التعارض بين طرفي هذه المعادلة يبقى رهين التمييز بين نزعة إنسانية منفتحة وجمود عقدي قاتل.
فهل يمكن اليوم باسم الدين، وفي ظل انتشار التعاقد السياسي أن يتعالى الحاكم محتكرا كلّ السلط بذريعة “الحق الإلهي”؟
وهل يجوز اليوم قطع يد السارق أو جلد الزاني في ظل وجود قوانين تنظم هذه المجالات حسب مستجدات الحياة؟
هل يكون من حقّ أحد اليوم أن يحلّل باسم الدين ما يمنعه القانون، أو يحرّم باسم الدين ما يسمح به القانون؟
الحياة السياسية اليوم تنظّمها قوانين عامة، وعلى رأسها القانون الدستوري الذي يحتكم له مختلف الفاعلين في المعترك السياسي، والحياة المدنية اليوم تحكمها قوانين وضعية تطال الفرد منذ ولادته إلى حين وفاته، كيف يمكن إذن والحال هذه أن يتعايش الأمر الديني بإطلاقيته مع القاعدة القانونية في نسبيتها؟
وإذا كان احتمال التعارض بين الأمر الديني والقاعدة القانونية قد يحدث في مجال ما، وقد لا يحدث في بعض المجالات، فإنّ السؤال الحقيقي يظلّ قائما: ما العمل حين يتعذّر التعايش، أو يقع تعارض، وهو واقع فعلا، بين حكم من أحكام الدين الإسلامي، وركيزة من ركائز القاعدة القانونية التي يقوم عليها المجتمع الحديث؟
تعيش المجتمعات العربية اليوم، ومن ضمنها المغرب، على وقْع هذا الإشكال، سواء على المستوى المدني (وأوضح مثال، ما تشهده الساحة العربية من مطالب تهمّ مدونة الأسرة)، أو على المستوى السياسي (ولعلّ المناقشات حول الدولة المدنية والدينية، ومكانة الشريعة في القوانين الدستورية مثال على ذلك).
وإذا كان التاريخ يُسعفنا في تبيّن مجتمعات تمكّنت في سياق صيرورة تاريخية من حلّ هذه المعادلة في اتجاه إقرار التعاقد السياسي والاجتماعي، وتجاوز إرث القرون الوسطى، فإنّ ما تعيشه الرقعة العربية – الإسلامية من ازدواجية مدوخة تجد جذورها في تراث يبدو أنّ عوامل عدّة تحول دون تجاوزه.
كلّنا يعاين اليوم أنّ مجمل قوانين المغرب، على غرار باقي قوانين العالم، (على الأقل من حيث الشكل) قوانين وضعية. هناك قوانين دستورية استُفتي فيها المواطنون، تسيّر المجال السياسي (أو هذا هو المفروض). وهناك قوانين مدنية يحتكم لها عموم النّاس في حياتهم اليومية. ورجوعا إلى أحكام الدين في علاقتها بالقوانين، يبدو اليوم جليا أنّ مجالها بدأ منذ زمان في الانحسار، وأنّ “الأحوال الشّخصية” تكاد تصبح الحقل الوحيد الذي يستلهم تقنياته ومرجعياته من الأمر الديني. وحتّى هذا المجال لم يبق في منأى من إخضاعه لتعديلات يفرضها التّطور الاجتماعي، وما “مدوّنة الأسرة” الأخيرة في المغرب أو في تونس، والمناقشات العلنية الجارية اليوم في موضوع الإرث وتعدّد الزوجات إلاّ دليل على ما نقول. ومع ذلك، لا زال هناك من يمتنع.
ولعلّ أكبر مشكل لا يزال المغرب يعاني منه في هذا المجال، هو عدم وضوح دستوره وتردّده في الحسم والتمييز بين مجالين مختلفين، مجال القانون الذي يخضع بطبيعته نفسها لقانون التطور البشري، ومجال الأمر الديني الذي يطمح للانفلات من حكم المكان والزمان. فإذا كان البرلمان لا يستطيع، بل وليس من حقّه ولا من اختصاصه أن يقرّ “أنّ الله موجود أو غير موجود، أنّ الكون متناه أو غير متناه، الخ” (الكلام لعبد الله العروي في كتابه “من ديوان السياسة”)، هل يحقّ اليوم لبرلماني ما أن يقترح قانونا يطالب فيه بالتّشريع للزواج المدني مثلا دون أن نتّهمه بالتّرويج للإباحية الجنسية؟
هل يكون بإمكانه أن يطالب بقانون صريح يمنع منعا باتا تعدّد الزوجات دون أن نتباكى على نصّ حكم “شرعي”؟
هل مشروع له أن يقترح قانونا يضمن للأنثى الواحدة حظّ الذكر الواحد في الإرث دون اتّهامه بالزندقة؟
هل يحقّ لفريق برلماني أن يقترح في إطار ما تنصّ عليه القوانين، تعديلا دستوريا يفصل بالواضح بين ما هو ديني وما هو سياسي دون نعته بالخروج عن دائرة الإسلام “الحقّة”؟
جرت العادة أن يحتجّ البعض ممّن يرى نفسه أكثر إسلاما من الآخرين بكون الأمر يتعلّق بأحكام “قطعية”!
طيّب، ليكن لكم ما شئتم، ولنقطع معكم في هذا الأمر. فهل تريدون أن نقطع أيادي البشر لنصبح نحن أكثر إسلاما منكم؟
وهل تريدون أن نعود لأحكام الرق، وأسواق النخاسة قفلت أبوابها منذ زمان؟
وهل بوسعنا اليوم أن نعود إلى “دار الإسلام” و”دار الحرب” وأحكام “أهل الذمة”؟
وما عسانا نعمل مع شخصين راشدين تراضيا في حبّهما غير إشباعهما جلدا باسم حدّ “الزنا” كما نجلد البهائم في المجازر؟
أيّ عاقل هذا الذي يريد أن يفرض علينا أحكاما دينية تمّ إهمالها في صمت ودونما أيّ ضجيج؟
لماذا إذن لا نجرؤ ونقول كما قال الأستاذ الكبير عبد الله العروي أنّه يجوز إهمال أي حكم شرعي لم تعد فائدته واضحة. (أنظر كتابه “من ديوان السياسة”).