أركيولوجية وسلطات القراءة في زمن الكتاب الإلكتروني

أركيولوجية وسلطات القراءة في زمن الكتاب الإلكتروني

باريس- المعطي قبال

بيتر زيندي فيلسوف وعالم موسيقى فرنسي من أصول هنغارية. يحظى بمرجعية فكرية وأكاديمية مميزة. يشغل منصب أستاذ للأدب المقارن بجامعة براون. وقع العديد من المؤلفات في المجال الفلسفي والموسيقي من بينها «من أجل ايكولوجيا للصور». وقد سبق لجاك ديريدا أن استشهد بعمله النظري الدقيق. صدرت له منذ أيام عن منشورات لاديكوفيرت دراسة هامة في عنوان «سلطات القراءة من أفلاطون إلى الكتاب الإلكتروني» من 200 صفحة.

بداية يتحدث الفيلسوف عن لحظات القراءة والتي يكون فيها القاريء تارة في حالة يقظة وتارة اخرى في حالة شرود. فقد يركز القاريء انتباهه على كلمات الكتاب وقد يغيب عن هذا التركيز لمتابعة إيقاعات وأشياء أخرى. ولما نعود للقراءة قد تنفرط الجاذبية الاولى ونحاول جاهدين استرجاع نقطة التركيز. وقف الفيلسوف محللا ومفككا لهذه اللحظات الأساسية. هنا نقف عند الرهان الحقيقي لسلطة القراءة. هناك عشق نماه باستمرار بيتر زيندي هو عشق المشاركة في القراءة. يشعر بنوع من الحماسة لما يكتشف أثار قراء سبقوه ووضعوا بصماتهم على النص. وتحدث عن المتعة التي شعر بها بمكتبة جاك دريدا التي اقتنتها جامعة برينستون والتي تم نقلها هناك. على عدد من الصفحات وجد تارة خطا خفيفا على الهامش ومرة أخرى إما عبارة أو شبه عبارة… باختصار يقول الفيلسوف أعشق الكتب ذات التخطيطات والحواشي المسطرة أو المرفوقة بتعاليق. هذه حالة كتب الأرشيفات وكتب المكتبات. تنتابني أحيانا الرغبة في تخطيطها وكتابة تعاليق عليها. لكن لا أجرؤ على ذلك. غير أن المصيبة يقول زيندي هي تخطيط الكتب بأقلام ملونة أو تمزيق الكتاب والحفاظ على بعض من أوراقه فقط. ويستشهد زيندي بحالة الصحافي الذي استقبله بأحد البرامج الإذاعية للحديث عن احد أعماله فوجد أن الصحافي انتشل بعض الأوراق من كتابه لإلقاء أسئلته. المفارقة يضيف الفيلسوف أن الصحافي كان يدير مجلة في اسم القراءة! بل وحتى هذه التخطيطات وجدها في الكتاب الإلكتروني لما بدأ في قراءة بعض النصوص.

لذا فكر في العودة إلى الكتاب القديم ومقاومة اغراءات الكتاب الالكتروني الذي يعدنا بمستقبل ميسمه الرقابة والمراقبة. ذلك أن لا أحد يفلت من سلطة المراقبة لما يقتني كتابا إلكترونيا. في عهد أفلاطون لم يكن الكتاب على ما هو عليه اليوم بصفته صيغة عصرية لما عرف في الإمبراطورية الرومانية تحت اسم «الكوديكس»، «اللوح». لكن صوتا أخر يقاوم بداخلي يضيف الفيلسوف وهو يقول:  ألم تكن الآلة القارئة دائما حاضرة منذ العصور القديمة سواء بصوت مرتفع أو منخفض، عمومية أو شبه عمومية؟ في تاريخ القراءة، نصادف الكثير من الآلات بدءا من العبد بصفته ألة قارئة والذي تحدث عنه أفلاطون مرورا بآلة الليفياتان التي تحدث عنها توماس هوبز.

وينتقل الفيلسوف إلى معالجة نقطة اساسية تتعلق بفعل «اقرأ» بصيغة الأمر: والذي يرافق مستهل القراءة. نحن هنا أمام ضرورة حتمية نصادفها باستمرار لدى أفلاطون، الماركي دو ساد، وإيمانويل كانط. هذا الأمر الذي تتشابك بموجبه الأصوات المقرئة كما لو كانت قوى تشكل توازنا مؤقتا أو تشكل ما أسماه ميشال دو سيرتو سياسة للقراءة. يعرف كانط حقبة الأنوار بأنها خروج من حالة الجماعة والأقلية والوصاية أو عدم النضج التي نتحمل مسؤوليتها. وأحد الشروط للخروج من هذه الحالة هي القراءة أو الممارسة العمومية للعقل ضمن مجموعة من القراء. إن كانت القراءة مسألة صوتية فإنها أبعد من أن تكون عملية بسيطة. لأن القراءة مشروطة دوما بفعل الأمر: اقرأ. لكن هذا الأمر ليس فحسب تعبيرا عن أنوار التحرير والتحرر، بل هو أيضا كما يشير الفيلسوف تبعا لأفلاطون والماركي دو ساد، تعبير عن العبودية. من أفلاطون إلى القديس أغوستين تم تشجيع القراءة الصامتة، ما عدا الرقيق الذين كانوا يقرأون بصوت مرتفع.

ثم لا ننس ضرورة حتمية أخرى غالبا ما ترافق مدخل النص مثل «عزيزي القارئ» «هذا الكتاب…» دون الحديث عن سياسة الإهداء التي تتصدر الكتاب في غالب الأحيان. رافقت هذه المخاطبة العديد من نصوص مونتان، نيتشه، مرورا بما قاله بودلير في حق «القاريء المنافق». بعد أن حلل الفيلسوف فعل القراءة وسلطتها تطرق أيضا إلى اللاقراءة بصفتها سلطة مضادة بالنظر إلى الكم الهائل من الكتب التي تنشر يوميا، ثمة رغبة متزايدة في العزوف عن القراءة. في هذا الاتجاه استشهد زيندي بقولة شهيرة لفرانكو موريتي مفادها أننا «نجيد قراءة النصوص. لنتعلم ألان عدم قراءتها» وينحو بول فاليري أستاذ اللاقراءة أو عدم القراءة في هذا الاتجاه. 

يعرض علينا بيتر زيندي في هذه الدراسة أركيولوجية دقيقة للقراءة في محاورتها لعدد من نظريات القراءة، بدءا من هوبز إلى ميشال دو سيرتو مرورا بوالتر بنيامين، هيدغر، لاكان أو موريس بلانشو. كما تفحص عن قرب مشاهد للقراءة كما صاغها كل من بول فاليري وإطالو كالفينو.

Visited 9 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".