هل هي دعوات لتقرير المصير في المنطقة المغاربية… أم اختيار للانتحار الجماعي؟

هل هي دعوات لتقرير المصير في المنطقة المغاربية… أم اختيار للانتحار الجماعي؟

عبد السلام بنعيسي

وقع إسهالٌ في الحديث عن مبدأ تقرير المصير في المنطقة المغاربية. تعددت الأصوات والجهات التي تتبنى هذا المبدأ وترفعه كشعار. إلى عهد قريب كانت الدولة الجزائرية هي السباقة والوحيدة في رَفْعِ هذا الشعار حين ظلت حوالي الخمسين سنة الماضية تطالب وتًصِرُّ على إجراء استفتاء في الأقاليم الصحراوية المغربية، لتطبيق ما تسميه مبدأ تقرير مصير الشعب الصحراوي، لكن اليوم لحقت بهذا المطلب، وصارت على منواله وتتبناه في المنطقة المغاربية جهات أخرى غير الجزائر، تتبناه بصيغة، ليس فقط لا تعجب الدولة الجزائرية، وإنما قد تغضبها….

ففي ردِّهِ على السفير الجزائري لدى الأمم المتحدة، نادر العرباوي، الذي دعا إلى تفعيل مبدأ “حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير”، خلال المؤتمر الإقليمي للجنة الـ24 في سانت لوسيا، قال عمر هلال السفير الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، إن تقرير المصير “مبدأ كوني ولا يقبل قراءة مجزأة. ” وأشار إلى أن “شعب القبائل خضع للاستعمار العثماني ثم الفرنسي والآن الجزائري”، وأعرب عن أسفه، لكون الأمر يتعلق بأطول احتلال في تاريخ إفريقيا، وتساءل، لماذا لا تسمح الجزائر لشعب القبائل بتقرير مصيره والتعبير عن نفسه واختيار مصيره بحرية، على غرار ما تطالب به لسكان مخيمات تندوف؟؟

وفي نف س السياق نظمت جالية منطقة القبائل في كندا، بمشاركة برلمانيين كَنَدِيِّين، وقفة احتجاجية في “مونتريال” في 17 أبريل الماضي، إحياء لما أسموه ذكرى ضحايا الربيع الأسود في منطقة القبائل، والاحتفال بما يُدعى يوم الأمة القبائلية، والتضامن مع حركة استقلال القبائل المعروفة اختصارا باسم “ماكّ”، وشارك النائب “ماريو بوليو”، المتحدث باسم كتلة “الكيبك” في الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها الجالية القبائلية في كندا أمام قنصلية الجزائر بمونتريال. وذكرت الصحف الكندية أن “ماريو بوليو” أعرب، نيابة عن كتلة كيبيك، عن “دعمه لتقرير مصير شعب القبائل” أمام مجلس العموم الكندي.

 وقامت مؤخرا الحركة من أجل تقرير مصير منطقة القبائل الماك بعرض مسودة أول دستور لمنطقة القبائل بالعاصمة باريس على الجمهور، ونصّت هذه المسودة على تسمية منطقة القبائل: الجمهورية الفدرالية للقبائل، وأشارت إلى حدودها، وأفادت قيادة الماك، بأن هذه الحدود سيتم التفصيل فيها بشكل واضح بقانون تنظيمي سيصدر لاحقا، وحظي هذا النشاط بتغطية إعلامية فرنسية لافتة…

لا يمكن لهذه الوقائع أن تحدث، مجتمعة، عن طريق الصدفة، من المرجح جدا أن تكون من وراء وقوعها أياد خفية تحركها، وتسهر على تنفيذها. في الوهلة الأولى يبدو لنا تنفيذ مثل هذه المخططات التجزيئية أمرا شبه مستحيل، ولكن باستحضار ما حدث في السودان، وفي العراق، وما يجري حاليا في ليبيا، وفي سوريا، من تدمير وتفتيت لهذه الدول التي كانت إلى عهد قريب، قوية وموحدة، لا يملك المرء إلا أن يضع يده على قلبه، ويشعر بالخوف والرعب على مستقبل منطقتنا، وأن يتساءل هل ستظل دولها، قائمة وموحدة كما عهدناها، أم أنها في طريقها إلى البلقنة، وأن خرائط جديدة تتم حياكتها وتفصيلها في الخفاء، وأننا سنفاجأ بها مجسدة في الجغرافية المغاربية…

أن تكون دعوة السيد عمر هلال إلى تقرير مصير ما يسميه شعب القبائل، دعوةً للضغط وللمساومة وبحثا عن تفاهم مفتقد مع الجزائر، فهذه دعوة مقبولة إلى حدٍّ ما، وقد يتفهمها العديد من المغاربة، ويجدون لها المسوغات، أما إذا كانت قرارا مغربيا صادرا بنية التفعيل، والعمل مع الغير، من أجل بلورته إلى حيز الوجود، فهنا نكون أمام مغامرة خطيرة، وغير محسوبة العواقب.

الشعوب المغاربية تسعى إلى الوحدة وليس إلى التجزئة، ومهمة الحكومات هي تجسيد هذه الوحدة وليس ضربها، كما أن انفصال منطقة القبائل عن الدولة الجزائرية سيؤدي حتما إلى انفصال مناطق مغربية عن المغرب، بما فيها أقاليمه الصحراوية. أمام المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تتخبط فيها الدول المغاربية، ومع الاستقرار الهش الذي يخيم على كامل مفاصل هذه الدول، فإن التجزئة إذا حدثت في دولة مغاربية واحدة، ستنتقل عدواها بالتدريج، أو دفعة واحدة، إلى باقي الدول المغاربية الأخرى. كل منطقة تنفصل في أي دولة مغاربية ستتحول، أوتوماتيكيا، وبالأوامر الخارجية، إلى قاعدة للتحريض على الانفصال في الدول المجاورة.

التجزئة والانفصال ستسهر على تنفيذه القوى الاستعمارية الكبرى المتحكمة في العالم، وستسهر على التقسيم بما يخدم مصالحها الخاصة بالدرجة الأولى، يتوهم المسؤولون المغاربة، إذا كانوا يتصورون أن تقسيما للجزائر سيتم بما يرضي المغرب وبما يجعله قويا ومتمكنا، وتخطئ القيادة الجزائرية خطأ فادحا حين يتهيأ لها أن تفتيت المغرب، سيقع بطريقة يُحوِّلُها إلى قوة جبارة في المنطقة. تقسيم المغرب ستجري هندسته بما يخدم المصلحة الاستعمارية، وبما يضر الدولة في الجزائر وشعبها في المقام الأول. وتفتيت الجزائر، إن جرى، فإن الغاية منه ستكون مصلحة أمريكية وأوروبية وإسرائيلية قبل كل شيء، وسيتضرر المغرب من ذلك ضررا بالغا.

القول إن الجزائر مُحصَّنةٌ حاليا من الانفصال، باستفتاء لتقرير مصير سكان منطقة القبائل، لأنها حصلت على استقلالها، بناء على استفتاء سابقٍ، شارك فيه كل الجزائريين بمن فيهم سكان هذه المنطقة، قولٌ حقٌّ، ويحتوي على منطق قانوني سليم ومتين، ولكن ما يتم الاحتكام إليه في مثل هذه الحالات، ليست قوة القانون، وإنما قانون القوة. القوى الاستعمارية التي تملك المال والسلاح والإعلام الجبار هي التي تملك القدرة على تأويل القوانين بالشكل الذي يلائمها، بل إنها قد تدوس على القانون الدولي حين تستدعي مصالحها الدوس عليه.

والخلاصة مما سبق هي أن الدعوة في المنطقة المغاربية إلى تقرير المصير، سواء في منطقة القبائل الجزائرية، أو في الأقاليم الصحراوية المغربية، هي في الواقع دعوة إلى التفتيت وإلى التجزئة، بل إنها في العمق، بمثابة اختيار للانتحار الجماعي للدول، وللشعوب المغاربية. الوحدة الترابية لكل بلد مغاربي، إما أن تكون معممة ومحترمة ومصانة بالنسبة لجميع الدول المغاربية، وإما أن تكون مهددة وفي مهب الريح بالنسبة لها كلها…

الحاجة ماسة في منطقة المغرب العربي إلى ممارسة النقد المزدوج تجاه السلطة الحاكمة، المثقف المغربي لا يجوز له الاكتفاء بنقد ممارسات السلطة في الجزائر وتصرفاتها، بل عليه أن ينتقد بالتوازي أيضا السلطة في بلاده ويحاسبها على أخطائها، ويعارضها في قراراتها غير الحكيمة وغير العاقلة، ونفس الأمر يتعين على المثقف الجزائري فعلُه تجاه سلطة بلاده لدفعها لمراجعة سياستها المتعارضة مع مصالح شعوبنا.

نحن في حاجة إلى قوة اجتماعية، وسياسية، وثقافية، وإعلامية، ونقابية، مغاربية فاعلة، تعمل من أجل نبذ الخلافات البينية، وإرساء الوحدة المغاربية، لأنها أفقنا الوحيد الكفيل بإنقاذ المنطقة مما يحاك لها في الغرف المظلمة. وغارقٌ في الوهم من يتصور عكس ذلك، ويتهيأ له أنه سيخرج لوحده، من أي أذى يلحق بأشقائه، سالما غانما. مآسي وفواجع المشرق العربي معروضة بالألوان أمام أنظارنا، فهل من متعظ؟؟؟

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة