إلزامية الأحكام النهائية للجميع بين نص دستوري مقتضي قانون التنظيم القضائي
عبد اللطيف مشبال
من المعلوم ان القاعدة الدستورية تتميز بسموها وتموضعها في قمة الهرم القانوني، مما يجب علي الجميع الانصياع لها، باعتبارها وثيقة تعاقد اجتماعي وسياسي تحدد قواعد ممارسة مختلف اجهزة الدولة لسلطاتها. وغني عن البيان ان القاعدة القانونية تستمد قوتها من القاعدة الأعلى مرتبة منها، مما يتعين معه ان لا تتعارض مع احكام الدستور وفق ما ينص عليه احكام الفصل السادس منه الذي ينص في فقرته الثالثة علي أن “دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة”، وهو ما يثبت بالملموس صدارة الوثيقة الدستورية، وإهدارها ما يتعارض معها. ومع بداهة ووضوح ما سلف التنويه والإشارة إليه سالفا، غير أنه يبدو في تقديري المتواضع أن احكام الفقرة الثالثة من المادة 15 من قانون التنظيم القضائي انتهكت أحكام الدستور بتنصيصها على ما يلي:
“لتطبيق أحكام الفقرة الأولى من الفصل 126 من الدستور، تكون أحكام القضاء القابلة للتنفيذ ملزمة للجميع“.
فالنص الدستوري كرس قاعدة عامة تشمل جميع الأحكام القضائية النهائية، وجعلها ملزمة للجميع، دون تمييز ما بين القابلة للتنفيذ منها أو غيرها، بخلاف مقتضي نص الفقرة 3 من المادة 15 سالفة الذكر، التي ولكي تنسجم مع مراميها أحدثت تعديلا علي المقتضي الدستوري المذكور يعد انتهاكا له حينما أزاحت ما اشترطه من أن تكون الأحكام نهائية واكتفت (بالحكم القضائي القابل للتنفيذ) متأثرة بما تشترطه قواعد قانون المسطرة المدنية عند مباشرة قواعد التنفيذ الجبري، بمعني ضرورة توّفر طالب التنفيذ علي سند تنفيذي، بصرف النظر عن صيرورة الحكم نهائيا من عدمه..
فالفقرة المشار إليها من المادة 15 سالفة الذكر أدخلت تعديلا عميقا علي نص دستوري، والأدهى بدون مناسبة، وهو ما استدعى مني إثارة جملة من الملاحظات المتواضعة في هذا الخصوص، لعلها تكون حافزا لإثارة نقاش في مستوي أهمية وراهنية النص وارتباطه الوثيق بممارسة الحق في الدفاع. حول تجاوز المادة 15 لمجال قانون التنظيم القضائي: لكون المادة وردت في سياق أحكام الفصل الثالث من قانون التنظيم القضائي الواردة بدورها ضمن أحكام الباب الاول المتعلق بمبادىء التنظيم القضائي وقواعد تنظيم عمل الهيئات القضائية، أي في خضم مواد بعيدة كل البعد عن معالجة الآثار القانونية المفترض إنتاجها من طرف الاحكام القضائية. هذا، فضلا على اأمجال قانون التنظيم القضائي ينحصر فحسب، كما هو معروف، في العناية بتحديد مجموع القواعد التي تنظم أحكام محاكم السلطة القضائية، حسب نوع المحاكم واختصاصها، وتشكيل هيئاتها، أي إنه قانون ينظم النشاط القضائي بغاية حماية حقوق المتقاضين في إشكاله الخارجية، ولا علاقة له بترتيب القيمة القانونية للأحكام التي اختار المشرع عند سنه قانون الالتزامات والعقود منذ أزيد من قرن، على أن تضم جنباته قواعد الإثبات بما في ذلك الاحكام بطبيعة الحال، وهو ما سنتعرض إليه لاحقا. حول مدلول الأحكام القضائية النهائية: يبدو أن المشرع واضع قانون التنظيم القضائي اختار إضفاء صبغة الأحكام القضائية الإلزامية على الأحكام القابلة للتنفيذ فحسب، وفسر نصا دستوريا ملزما للجميع، بكيفية ضيقة، دون تبرير. ومع الاعتراف بدقة الإشكال القانوني الذي كان مطروحا على السلطة التشريعية لتحديد مدلول الأحكام القضائية النهائية، بصرف النظر على كون أحكام الفقرة الأخيرة من المادة 15 من القانون المذكور أتت خارج سياق النص، مثلما سلف ذكره، فإن ما تضمنه النص الدستوري يكرس مبدءا عاما يجعل من الأحكام المذكورة، ملزمة للجميع، من منظور أن أي حكم صادر في خصومة مدنية، يشتمل، وفق ما هو معروف، على شطرين، الأول يهم ما خلصت إليه المحكمة مصدرته، بعد تيقنها من ثبوت أو عدم ثبوت وقائع معينة، فيعتبر في مدلول الفصل 450/3 ق ل ع قرينة قانونية على ما أثبته في هذا الصدد، وتعفي من تقررت لمصلحته من كل إثبات، ولذلك يكون حجة، في هذا الجانب، في مواجهة الجميع. غير أن هذه القرينة تعد قاطعة بين الخصوم، فلا يمكن إثبات ما يخالفها. (الفصل 453/ 2 ق ل ع)، وهي قرينة غير قاطعة بالنسبة للغير الذي يحق له إثبات ما يخالفها.
أما الشطر الثاني من الحكم، فهو الذي يكتسي في واقع الأمر صبغة الإلزام في مواجهة المحكوم عليه في حدود ما قضي به منطوقه، وتكون حجيته نسبية عملا بأحكام الفصل 451 ق ل ع الذي يشير إلى أن قوة الشيء المقضي به لا تثبت إلا لمنطوق الحكم، واستثني الوقائع. ويترتب عن هذا أمر بالغ الأهمية، مفاده أنه يحق للجميع التمسك بقوة الأمر المقضي به للحكم، باعتباره عنوان الحقيقة، بينما لا يجوز التمسك بسبقية الَبت في النزاع سوى من أطرافه. وبناءً عليه، يكون الحكم حجة على الجميع بما أثبته من وقائع إلى حين إثبات العكس، وهو ما يتلائم مع أحكام الفصل 418 ق ل ع الذي يجعل من الأحكام القضائية المغربية والأجنبية، أن تكون حجة على الوقائع التي تثبتها، حتي قبل أن تكون واجبة التنفيذ، فهي ملزمة للجميع بهذا المعني، وهو أيضا ما ينسجم مع القراءة السديدة لنص الفصل 126 من الدستور، إذ لا يمكن بداهة إلزام غير المحكوم عليه على تنفيذ حكم لم يكن طرفا فيه، مما يجعل من التعديل الذي أدخلته عليه المادة 15 غير ذي جدوي، بصرف النظر عن أنها وردت خارج سياق النص وعدم دستوريتها، لاسيما وأنه أزاح جملة من الأحكام القضائية من سياق النص الدستوري، دون أدنى تبرير مسوغ، كما هو الحال بالنسبة للأحكام التي لا تخضع للتنفيذ الجبري (الأحكام المنشأة، الأحكام التقريرية، الأحكام المعدلة لالتزام قانوني، (عبداللطيف مشبال نشرته بموقعي بتاريخ 9/9/2018).
يبدو بالرجوع إلى نص الفقرة الأخيرة من المادة 15 المذكورة أنه تم إدخال تعديل عليها من طرف واضعيه، كما يتجلى بالرجوع إلى نص القانون المذكور المنشور بالجريدة الرسمية عدد 7108 بتاريخ14 /7/2022 فأضحت كالتالي: “تعتبر الأحكام النهائية وكذا الأحكام القابلة للتنفيذ الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع”. فأزاح التعديل، العيب الذي شاب المشروع وراعى مجمل ملاحظاتي التي أوردها تعليقي، ولو كان من الأجدى الاكتفاء بتكريس ما ورد في الفقرة الأولى من الفصل 126 من الدستور لشمولها جميع الأحكام الصادرة عن القضاء دون أي تمييز، إذ أن عبارة “الأحكام القابلة للتنفيذ” مجرد تزيد متى كان النص الدستوري يشملها، حفاظا على جودة النص، من جهة، ولأحكام الفقرة 3 من الفصل 6 من الدستور، التي تجعل من مراعاة دستورية القواعد القانونية وتراتبيتها مبدأً ملزما، يمنع بالتالي تعديل نص دستوري ولو بالإضافة لتلافي كل تأويل غير مناسب للنص القانوني.