حدود ومحدودية مقاربة بذاءة الخطاب اليومي في تونس
لحسن أوزين
قرأت باهتمام كبير المقال الذي كتبه وليد نعمان “عندما تنزع اللغة ثيابنا” (1). وقد تناول فيه ظاهرة البذاءة في الخطاب اليومي التونسي، كلغة مهيمنة في التواصل اليومي، بين مختلف الفئات المجتمعية. ولا فرق بين النساء والرجال في تداول البذاءة، بشكل عادي طبيعي، موروث تاريخيا واجتماعيا وثقافيا.
استطاع الكاتب بجرأة انتهاك المحظور، واختراق الطابو، في رصده للظاهرة. وتجميع المادة الرمزية واللغوية الخطابية، كما هي سائدة ومنتشرة، معجميا وتركيبيا ودلاليا وتداوليا، حسب مقامات وسياقات التلفظ ، وشروط وظروف الحوار والتفاعل الرمزي، خلال التواصل اليومي.
لكن مقاربة الكاتب للظاهرة في خلفياتها المعرفية والمنهجية، ضعيفة جدا. ومحدودة السقف التحليلي النقدي. لأنها لم تتخط حدود مستوى الملاحظة والمعاينة والرصد الأولي. واكتفت بتجميع المعطيات الميدانية المراد طرحها و مناقشتها. والأسوأ في هذا كله أن رؤية ماهوية جوهرانية تنظر الى الظاهرة كسمة طبيعية متجذرة في التاريخ التونسي، وفي التقاليد الثقافية والاجتماعية والتواصلية. كما لو أنها منزلة، وخارج منطق التاريخ، وجدلياته الاجتماعية والسياسية والثقافية. وأيضا دون أن يعمق الأسئلة بما يستلزم طرح الفرضيات العلمية القادرة على بناء إجابات موضوعية للتشكل التاريخي الاجتماعي للظاهرة. ومن ثمة الذهاب بعيدا في التناول النقدي للظاهرة بحثا، ومناقشة في الأسباب السياسية والاجتماعية والتاريخية، التي جعلتها تبدو قدرا طبيعيا تخص المجتمع التونسي.
لكن يفضل وليد نعمان النظر إلى الظاهرة، من زاوية الفكر الهووي الذي ينتصر للخصوصية، والسمات الاستثنائية، المفعمة بالشغف الذي يميز الشعب التونسي، دون غيره من الشعوب الأخرى.
كما أن الكاتب استعمل لغة استشراقية تذكرنا بإيديولوجيا السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الاستعمارية، في مقاربتها الثقافوية لمجتمعاتنا في قضاياها وظواهرها. لهذا يقول وليد نعمان: (ولمّا كان التونسيون شغوفين بالبذاءة فقد نتجت ظواهر صارت من مميّزات اللسان التونسيّ، ويمكن تحديد سبع سمات أساسية في البذاءة التونسية). وبمثل هذه العبارات المشحونة بأحكام معيارية يستثني ويميز اللسان التونسي. ويجعله على استعداد تاريخي، اجتماعي، ثقافي، في السير نحو اتساع وتضخم وانتشار البذاءة في الشارع العام.
يؤسس الكاتب وجهة نظره هذه، من خلال الاستناد الى البعد التاريخي والفقهي الديني، كمرجعية تدعم رؤيته وتصوره للظاهرة. لذلك يعود الى العهد الحفصي، و الى جرأة فقهاء تونس في اختراق محظور الظاهرة تفكيرا وتأليفا وتحقيقا. هكذا يعطي مصداقية معرفية، لتحليله الهووي المميز بخصوصية تونسية، الى حد أنها تصدم العربي القادم من الشرق المحتشم، المتخلق بالحياء والوقار. والذي لا تصل به الوقاحة الى هذا السفور التواصلي البذيء، في الشارع العام. والغريب في الامر أن يعتمد في تناوله المعجمي على إحالات في النت ليست لها أية مصداقية علمية. ووصل به التحليل المزاجي أن نسب بعض الكلمات العربية البذيئة الى الامازيغية، دون أن يحيل القارئ الى مرجع علمي موثوق به. في الوقت الذي أهمل كلمات أمازيغية وعربية متداولة في هذا الشأن البذيء. مع الإشارة الى فهمه الخاطئ لمعنى التحرر الذي يمكن أن يعلنه أي خطاب بذيء. فقد نعت في هذا الشأن الأمازيغ/ البربر بالتحرر. دون أن يدرك أنهم يعتبرون تسميتهم بالبربر قدحا وبذاءة عنصرية واستعمارية.
واعتقاده في الخصوصية التونسية، هو نتيجة جهله بالخطاب اليومي في شمال افريقيا، في المغرب والجزائر وتونس وليبيا. وجهله بأشكال الخطاب المناطقية واللغوية البذيئة المتنوعة في البلد الواحد. الشيء الذي يعني قبل الخوض في هذا الموضوع أن يطلع على المعطيات الوضعية الميدانية، وعلى الدراسات السابقة المنجزة حول الظاهرة، قبل إطلاق الاحكام الانطباعية الجاهزة. وتكريس التفكير المعياري، الرافض، دون وعي، لسفور الخطاب، كعنف رمزي أنتجته سياقات وأسباب كثيرة. من بينها القهر السياسي الاستبدادي، والحرام الديني المتسلط، الى درجة التحكم في القلوب والرغبة والجسد، والطابو الجنسي، المنتج للقمع والكبت. هكذا يأتي الخطاب البذيء نتيجة مختلف أشكال القهر والهدر هذه التي ناقشها بوعلي ياسين في الثالوث المحرم، ومصطفى حجازي في الانسان المقهور والمهدور، وأيضا صادق جلال العظم في ذهنية التحريم وما بعد ذهنية التحريم. هذا على سبيل المثال لا الحصر. فما تعريه اللغة قد طاله الفساد السياسي، والاقتصادي والاجتماعي…، لطبيعة النظم الاستبدادية، والنيوليبرالية الجشعة التي سلخت من الناس قيمتهم الإنسانية. وهذا ما دفعهم كرد فعل لفضح وتعرية النفاق الديني والأخلاقي والاجتماعي. والتحرر من سطوة التحكم الإيديولوجي الأخلاقوي، من خلال منطق وآليات التعبير البذيء. خاصة وأن واقع جنوب وشرق المتوسط يعيش فضيحة الفساد السيادي. حيث تنازل الاستبداد عن الوطن، والمناعة السيادية للبلد، ولم يعد يملك قرار المسار والمصير، فأي بذاءة ومذلة ومهانة، أكثر من هذه التي يعري الخطاب الشعبي البذيء حجابها ووقارها الأخلاقوي الكاذب. متحررا من سطوة القهر، والتحكم، والفضيلة الجوفاء، ومكارم الاخلاق القهرية.
لكن رغم هذه النزوع التحرري التي يسعى إليه خطاب البذاءة الشعبي، فإنه غارق في اللغة والتفكير الذكوري، لمجتمع أبوي بطريركي يعمل على التأثير السيء على كل مقاومة للتسلط والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي. هذا يعني أنه يسقط، بدون وعي، في معاودة إنتاج ما يرفضه ويتمرد عليه في البنى المادية والفكرية والعلاقات الاجتماعية المسيطرة، في الوقت الذي يهدف الى تأسيس النقيض من ذلك. لأن اللغة والدلالات والنسق الثقافي والفكري الذي يؤسس به وجوده، يتخذ من دونية وقهر وتبخيس قيمة المرأة، وسلخ قيمتها الإنسانية، أرضية لإنتاج البذاءة. فأغلب الصيغ والأساليب والمصطلحات، والانزياحات الدلالية، تشتغل كعنف رمزي. يعني هذا أن لغة البذاءة تنطلق من المس بكرامة وقيمة وحصانة المرأة جسدا وروحا ودلالة في السب والشتم والتعيير. وهذه طاهرة تنتجها المجتمعات الاستبدادية الأبوية. الشيء الذي يحد، ويفرغ من قيمة البعد التحرري لخطاب البذاءة الشعبي.
لذلك نرى أن تطبيع ظاهرة اجتماعية ما، وإسقاط مفاهيم الهوية والخصوصية عليها، الى حد الاتكاء على البعد التاريخي والثقافي والديني المحلي، لتثبيت الظاهرة في قوالب نمطية مميزة، وخصوصية، دون النظر في مبدأ التناقض المجتمعي الذي يفيد كثيرا في فهم وتحليل ونقد الظواهر الاجتماعية. سيؤدي بنا الى السقوط في الفكر الماهوي الجوهراني الطبيعي الذي يعجز عن رؤية التشكل الاجتماعي السياسي والثقافي للظاهرة. فمن يصدمه تعهر اللغة والخطاب اليومي، فهو عاجز عن الاعتراف بتعهر الواقع الحي. كما أن الحياء والقرف الأخلاقي الزائف نابع من التناقض الوجداني، المعذب بهوامات المسلم الأعلى، في انتمائه الى قناع أخلاقيات مكارم الأخلاق، والشرف الرفيع، لخير أمة أخرجت للناس.
لا يمكننا التستر على زبالة تعهر الواقع الحي اليومي لنظام التفاهة، بحجاب لغوي ورع أخلاقي، خوفا من سفور حقيقة خطاب البذاءة الشعبي، وإلا ماذا سنفعل للرائحة بهذا الحجاب العفيف، الذي يريد البعض منه أن يحافظ على سمع الزائر ( الشرقي) المتخلق الكريم، من الخدش والصدمة؟
البذاءة ليست خصوصية تخص شعبا دون آخر، وفي جنوب شرق المتوسط بمختلف المكونات السوسيولوجية والثقافية و الاثنية واللغوية والدينية… حيث القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي متشابه، يعد خطاب البذاءة من بين التعبيرات الشعبية كالزجل والنكتة الساخرة…
هذا يعني أننا أمام حيز اجتماعي ينتج خطاباته السرية والعلنية في الرفض والسخرية والتمرد… وانتهاك الخطوط الحمر، للمحرمات البائسة التي تحالف فيها التجريم السياسي، والتحريم الديني، والموروث الأخلاقي والثقافي، للسيطرة على الوعي والتحكم في الإدراك، لإنتاج الميوعة والتفاهة والبذاءة المنحطة.
https://aljumhuriya.net/ar/2022/08/24/%D8%B9%D9%86%D8%AF%D9%85%D8%A7-%D8%AA%D9%86%D8%B2%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%AB%D9%8A%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%A7/