ماكِينَة الأوهام
سعيد بوخليط
كلما انكمشت آفاق مساحة الكرامة الإنسانية، اتسعت بسخاء رقعة سلطة الأوهام. بقدر مايتراجع وازع التأمل والتأويل الذاتي الحر، انبعثت ضمنيا وظاهرا مثيرات الأوهام العظيمة التي يشبه مفعولها الهدام أفيونا من النوع النادر.
عندما، تتوارى إلى الخلف أسباب الحرية وتجلياتها الوضَّاءة وممكناتها، حسب دلالاتها المدنية الشاملة، سيتصدر طليعة المشهد عمى صناعة الأوهام والتفنن المَرَضي بخصوص تكريس التِّيه والتمادي، نحو دَرَكِ العدم غاية انغماس كل شيء بين طيات ظلام حالك؛ ليله كنهاره، ثم يختلط كل شيء بكل شيء. يضيع العقل. تنهار الحقائق .تتساقط البناءات القويمة تباعا. ينتهي الجميع عند جحيم غير كل أنواع الجحيم المعهودة.
صناعة الأوهام وبثِّها وإشاعتها والانتصار لها، مرجعية الجبناء، وديدن ضعاف النفوس. الشخص الشفاف، الشجاع، السوي، المنسجم مع قناعاته الذاتية، ينصحكَ بالقول الصادق، ويفصح عن مايريد الإفصاح عنه دون تقليص ولاتمطيط ، وأنت حرّ في المجاراة أو الرفض.
الحقيقة، ابنة النبل والتسامي، ثم تجاوز الشخص لبذاءة الاكتفاء بمستواه الغريزي.
حتما، رافقت الأوهام باستمرار الوضع البشري، وسادت وفق هذه الكيفية أو تلك حسب شروط السياق المعطى، بحيث بررت حجم حضورها ومستويات امتداده بناء على صراعها جدليا مع: العقل، المعرفة، الحرية.كلما، تقهقرت مقومات هذا الثلاثي، ازدهرت عكسها جينات الأوهام، وأينعت ثمار الزيف. هكذا، ينساق الناس كالقطيع خلف الأكاذيب والمنظومات الواهية، المتلاشية حتما جملة وتفصيلا، حين هبوب أولى رياح إشعاع الحقيقة.
حبل الأوهام، قصير جدا.خط الحقيقة، يبلغ مداه مدى درجات قصوى من الاستعلاء عن صغائر اللغة. تراهن الأوهام على دغدغة مشاعر الأفراد، وتمنحهم سكينة ملغومة وطمأنينة كاذبة. طريق الحقيقة شاق وطويل؛ ومتعبة مكابدته. بيد أنه سبيل لاغنى عنه بتاتا لبناء البشر والحجر.
تختزل الأوهام مشارب الكيان الإنساني بمختلف تعقيداته و نزوعاته إلى مجرد بطش خلاصة واحدة، بمعنى تقوِّض جذريا الطبيعة الأصيلة لهذا الإنسان المجبول أصلا على التعدد والاختلاف.
الأوهام مجرد لغة محنَّطة، في غاية العوز، تتطاير شرارتها بغير كابح تدبُّر شعرية رحيمة، مستندة على الإقرار بدل التفكير، الشمولية عوض الجدلية، المعيارية دون الاستقراء و التأويل. المصادرة على حساب حق الاختيار،التعميم وليس الاختلاف. الجاهز المنغلق عوض المنفتح الواعد.
الأوهام هدم. الحقيقة إرساء راسخ. الأوهام بِركة آسنة، مستنقع نثن. الحقيقة نهر، متدفقة خصوبة شرايينه وروافده اللامتناهية، فتحيطه من كل الجوانب مساحات خضراء. زاخرة بمنابع الحياة.
الأوهام صحراء قاحلة، لا أخضر معها البتَّة. يأتي زحف كثبانها الرملية على موارد الحياة تلك. الحقيقة، حيوات متدفقة تلاحق تلابيب النور أينما تجلى مكمنها، قصد الاهتداء بالإنسان صوب موطنه الأول ، حيث ينبغي له أن يكون، ويجدر به أن يحيا حياة تليق بكنهه وتتماهى مع جوهره النوعي.
توهِم الأوهام أصحابها بمعطيات قابعة فقط بين طيَّات أذهانهم، تختصر عليهم بإجحاف جل معاني الحياة الفياضة، حيث الكد والبذل والبحث والسعي والتطلع والظفر والعطاء والاقتناع والإقناع. الأوهام، وجهة مضادة تماما لمختلف ذلك. موت دون شرف أو بالأحرى تحلّل بطريقة ممسوخة.
الحقيقة خطوة أولى نحو الولادة، ثم خطوة ثانية بهدف الانبثاق وتثبيت الممكنات. أخيرا، خطوة لاغنى عنها، تستدعي باقي الخطوات كي تبقي الإنسان سيد نفسه ومصيره. وقد تراجعت بكيفية فظيعة دواعي النضال المبدئي في سبيل مناصرة الحقيقي المشترك وترسيخه، ستهيمن ضدا على المسار الطبيعي وثوقية هرطقات الأوهام، التي راهنت وتراهن على كرنفالات المستذئبين فيما يتعلق باقتلاع منطلقات الذكاء البشري، ثم تبعاته الايجابية المترتبة عنه بخصوص استمرار روح الفرح وجسده ، وفق تكاملهما الحيوي.
استأسدت آليات الإنتاج الميكانيكي، التي تفرز دون هوادة مرتكزات البلاهة والتنميط والتوجيه المبرمج والبروباغندا الصماء والإخضاع والحشو والإقصاء والتنميط… نحو غاية واحدة تتمثل في استتباب منظومة البعد الواحد. بالتالي، حشر الجميع عند خندق زاوية واحدة ضيقة جدا، كي يمتثلوا بنفس الطريقة. يكررون بحياد الأموات الأصنام اللغوية نفسها، يجترون ذات السائد، ليس اقتناعا ولاتمحيصا ولافهما، بل انقيادا أو غباء أو نفاقا أو انبطاحا أو تزلُّفا.
حينها، يتداعى العالم كليا فوق رؤوس الجميع، إلى غير رجعة.