“هنا لندن”.. وداعا مدرستي الحلوة
اسماعيل طاهري
تمثل إذاعة bbc عربي مدرستي الأولى وربما الأخيرة في اكتساب أصول اللغة العربية، ثم الاقتراب من أبجديات العمل الصحفي، لدرجة أنني لم أعرف أنني اكتسبت بدون قصد أو تخطيط، طريقة الكتابة الصحفية المعتمدة على القصة. فعلا فمعظم الأخبار والتحاليل تعتمد على القصة الخبرية.
هل أعزي نفسي في إعدام إذاعة “البي بي سي” العربية وذهابها ضحية الانتقال الرقمي.
هل دقت ساعة البودكاس؟
كنت أحدس حدوث هذا الإغلاق/ الإعدام منذ سنوات بعد تخلي الإذاعة عن مجموعة من التقاليد والأعراف المميزة لها، التي كانت تجذب إليها مستمعي العالم العربي. وبدا أن اِدخال الدارجة إلى برامجها والسرعة في الكلام وقراءة الأخبار، وعدم التوفق في موسيقى جنيريك الأخبار وبعض البرامج، إضافة إلى الاتجاه نحو السطحية في عرض القصص، ربما عجل بنهاية هذه الإذاعة العريقة بعد 84 سنة من البث. مثلت فيها الإذاعة الأكثر موثوقية والأقرب إلى الموضوعية، بالمقارنة مع مختلف وسائل الإعلام الأخرى في جميع أنحاء العالم.
وكان صناع القرار السياسي في العالم العربي، في دوائر الحكم والمعارضة، يستندون إلى أخبارها وتحليلاتها في اتخاذ قرارات ومواقف سياسية ودبلوماسية حاسمة. وإذا أراد أحد منهم التأكد من صحة خبر يرجع فوراً إلى موجات “البي بي سي” (هنا لندن). لكونها أهم مصدر للخبر في السلم والحرب.
لقد نافسها في البداية موقع “البي بي سي” الإلكتروني، وكان بحق متميزا. ثم جاءت فضائية “بي بي سي عربي” لتغني التجربة، لكنها لم تكن لترقى لمستوى الإذاعة. لكن تغييرات حدثت في الإذاعة، وبدا أنها لم تكن كافية لضمان الريادة السابقة. كما أن الموقع الإلكتروني نفسه عرف بعض التراجع في الفترة الأخيرة، ومواده تتجدد ببطء، ولم يعد مغريا للقارئ كما كان في النسخة الأولى لإطلاقه. وأمام تنامي شكوى الحكومة البريطانية من العبء المالي لهيئة الإذاعة البريطانية، تم الإتجاه نحو إدخال الإشهار إلى مواقعها الإلكترونية لتحقيق بعض التوازن المالي، لكن القصة انتهت بإغلاق عشر إذاعات، وتسريح نحو 400 صحفي ومستخدم بهيئة الإذاعة البريطانية.
***
لا أحس بالندم على متابعة هذه الإذاعة لعقود.. الإذاعة التي كانت السبب في ولوجي عالم اللغة العربية الفصحى، وكذلك عوالم الإعلام والاتصال. ولا يخفى أن مشروع “الجزيرة” جاء مقلدا لـ”بي بي سي”، بل إنه استقطب بعض صحفييها الكبار، نظير سامي حداد وفيصل القاسم وجميل عازر… الخ
وأذكر أن أول مقال كتبته في حياتي بجريدة “أنوال” (رحمها الله)، كان تحت عنوان “الحوار المفتوح في البرنامج المفتوح” سنة 1992، أي قبل ثلاثين سنة. (البرنامج المفتوح هو برنامج يومي عوض في بداية التسعينات برنامج “ندوة المستمعين”.) وكم كانت فرحتي عارمة عندما نشرت لي الزميلة الغالية بديعة الراضي مقالي الأول هذا وكانت حينها رئيسة القسم الثقافي لجريدة “أنوال”.
***
مثلت “البي بي سي” مدرستي الحلوة التي لا تنسى، نهلت من معينها أخبارا وأفكارا وتحليلات عميقة لأحداث العالم. وكانت تشبع نهمي من الأخبار والتحليلات، وتمكنت بفضلها من الاطلاع على مختلف القضايا والأحداث التي تشغل العالم أولا بأول، خصوصا خلال اندلاع حرب الخليج الأولى سنة 1991. وهو تاريخ انتقالها للبث المستمر على مدار الساعة.
***
وداعا إذاعة “بي بي سي عربي” التي كنت أتابعها نادرا في السنوات الأخيرة، واستعضت عنها بقناة “بي بي سي عربي”. والموقع الإلكتروني العربي لـ”لبي بي سي”. ولكن كل ذلك لم يعد بشبع نهمي كما كانت تفعل “هنا لندن” في السابق.
العزاء لي.
ولكل عشاقها الكثيرين..
“هنا لندن هيئة الإذاعة البريطانية” إلى اللقاء.
هذه علامة من علامات نهاية دورة تاريخية، وانطلاقا من يناير السنة المقبلة لن نسمع دقات ساعة بيغ بينغ من قلب لندن لتعلم انطلاق نشرة الأخبار.
وعلامة من علامات أفول الإمبراطورية الإعلامية البريطانية، بعد قرار إغلاق عشر إذاعات من أصل أكثر من 50 قسم بمختلف لغات العالم.