الإسلام دين الدولة
عز الدين العلام
إذا كانت الفصول الدّستورية التي تشير إلى إسلام المغاربة، وإلى السياسة الدينية للدّولة لا تنبئ، رغم ظاهر الأشياء، عن أي طابع ديني للدولة المغربية، بما أنّ الأولى تتحدّث عن واقع إسلام مدني، عن دنيا الدين، إن جازت العبارة، والثانية تتحدّث عن سياسات عمومية تهمّ وجها من أوجه حياة المغاربة، فإنّ بيت القصيد كما يُقال، هو تنصيص الدستور المغربي الجديد على أنّ المملكة المغربية دولة إسلامية (ديباجة الدّستور)، وأنّ الإسلام هو دين الدّولة (الفصل 3)، كما أنّ ملك المغرب هو أمير المؤمنين وحامي حمى الملّة والدين (الفصل 41).
هل هناك معنى ما لعبارة “الدّولة الإسلامية”؟ وهل يمكن لدولة تقول عن نفسها أنّها حديثة أن يكون لها دين ما؟ وأيّ معنى لإمارة المؤمنين التي هي التّجسيد الفعلي لإسلامية الدّولة المغربية؟
بدءا تجب الإشارة إلى أنّ الدستور الجديد (مثل الدّساتير القديمة) ينصّ على إسلامية الدّولة المغربية وإمارة رئيسها دون تفصيل. والتّفصيل الأساس الثّاوي وراء كلّ هذه النّعوت الدينية ليس شيئا آخر غير ما نعرفه جميعا تحت اسم البيعة.
لم تكن البيعة حسب وقائع التاريخ، تعاقدا اجتماعيا بالمعنى الذي يمكن أن يتلاءم مع الأسس الدستورية للدولة الحديثة، وكل المحاولات لجعلها في تلاؤم مع مقتضيات هذه الدولة هي مجرد تمرين ذهني. كيف نزيل عن البيعة جوهرها الديني، والدولة الحديثة في أساسها “لا دينية”. ألا يظلّ الفارق بين النظام السلطاني التقليدي والنظام السياسي الحديث قائما، والتعارض بينهما موجودا؟ كيف نوافق بين مبدأ “تحريم الخروج” عن طاعة السلطان الموجود في أساس الدولة السلطانية، ومبدأ “الحق في المقاومة” الذي أسّس عليه “جون لوك” عقده السياسي؟ الدولة الحديثة كما أكدت نفسها عبر التاريخ، تعاقد اجتماعي، والدولة المغربية التقليدية كما قدّمها لنا تاريخها استبداد سياسي. لتعاقد الدولة الحديثة مرجعه النظري المتمثل أساسا في كون مستودع السيادة ومصدر السلطة هو المجتمع (الأمة، الشعب…)، ولاستبداد الدولة التقليدية مرجعه النظري أو بالأحرى مسوّغه الشرعي المتمثّل في البيعة.
ما الحكمة في نسب الإسلام إذن، وهو دين كسائر الأديان، إلى دولة ما؟ وهل صحيح، كما تردّد الألسن بلا كلل، أنّ الإسلام دين ودولة؟ وكيف تسمح الدولة لنفسها ما تمنعه عن غيرها؟ إنّ احتياج الدولة للدين يبرز نقطة ضعفها في كونها عاجزة عن أن تتقدّم أمام مواطنيها عارية عن كلّ المساحيق الدينية والأخلاقية، أن تجعل من نفسها “قيمة” مستقلة في حد ذاتها عمّا عداها من القيم. وهو عجز لا يعود حصرا لها وحدها كدولة، بل يسري أيضا، وهذا موضوع آخر، على ما نسميه بـالمجتمع المدني الذي يعيش بدوره مخاض التّحوّل من مجْمع الرّعايا إلى مُفرد المواطنة.
إنّ أكبر هاجس يملك الدولة هو الإقلاع الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي، وهي اليوم، ربّما أقل لجوء للدين ممّا تفعله بعض الجماعات. وحتى إن لجأت إلى الاستنجاد بالدين، فلضعف تاريخي يسكنها. وهو ضعف لا يمكن تجاوزه بقرار سياسي بين عشية وضحاها. فبقدر ما تتأسّس دولة الشيء العام La chose publique بقدر ما سيخبو استعمال الدين من أيّ جهة كانت. وبقدر ما يتبلور مجتمع مدني مستقل بذاته بقدر ما سيجد في الدولة الحديثة صورته، ويصبح الشأن الديني مسالة شخصية.
وأخيرا، إذا كان “الخيار الديموقراطي” يفرض نفسه على الجميع، وإذا كان “النظام الملكي” لا يشكّل في حدّ ذاته نقيضا لهذا الخيار، وإذا كان “الوطن” هو ما يجمعنا كمغاربة، فإنّ التّنصيص على إسلامية الدولة، وإمارة المؤمنين، ليس بالثّابت المطلق. ذلك أنّ الدولة الحديثة لا دين لها، أو لنقل لها كلّ الأديان دون أن يكون لها أي دين بالتحديد لأنّ إدخال دين محدّد في صلب الدستور يتناقض مع عموميتها. أمّا التنصيص على “إمارة المؤمنين”، فيتطلّب شيئا من الاستفسار. فإن كان مجالها ينحصر في شؤون الدين، فلا ضير في ذلك، بل تكون فائدتها أعم وأشمل، (تماما كما هو حال وضع الكنيسة في الكثير من دول أوروبا الغربية). أمّا وأن تعكس ظلالها على المجال السياسي، كما حدث في عهد الملك الراحل لأسباب لا مجال للتفصيل فيها، فذاك شأن آخر…