مَن سرقَ المصحف؟
نجيب علي العطار
يسيرُ حاضرُ الإنسانِ هاربًا من تقلُّباتِ المستقبل إلى ثباتِ الماضي، بصورةٍ لا يُمكن أن نُشيرَ إليها كواحدةٍ من تجليّات العبث، إذ أنّ مرورَ الزّمنِ علينا، أو مرورَنا نحنُ في خطِّ الزّمن، محكومٌ بأسباب وسُنَنٍ قوانينَ أدركَها الإنسانُ قديمًا ولم تزلْ تتكشّفُ له بصورٍ أكثر عُمقًا واتّساعًا للمُعطيات. وتتجلّى لنا هذه القوانينُ أكثرَ كلّما انتقلنا من “الإنسان” إلى “المجتمع” فـ “النوع الإنساني” لسببٍ لعلّه أنّ حاضرَ المجتمعات أطولُ بكثيرٍ من حاضر الإنسان؛ ولعلّ هذا ما يُفسّرُ أنّ احتماليّةَ تداركِ الأزمات العامّة، إن جاز التعبير، أكبرُ بكثيرٍ منها في تدارُك الأزمات الشخصيّة، على أنّ تدارُكَ الأزمات، كما الخلاصُ منها، لا يُمكن أن يكون مُتفلّتًا من قوانينَ/ سُننِ صيرورة المجتمعات التي ترسمُ مسارَ التاريخِ ومصيرَنا.
ليس غريبًا، إذاً، أن يصيرَ لبنانُ إلى الحال التي صار إليها الآن، إنّما الغريبُ أن لا يكون كذلك. وليس من الغرابة في شيء أن يجدَ الإنسانُ في نفسِه ثقةً ليقول؛ إنّ حالَ لبنان اليوم ليست إلّا نتيجةً حتميّةً، أو طبَعيّةً على الأقل، لوجود الطبقة السياسيّة الحاكمة فيه. ومن باب نعتِ المنعوتِ بما هو أهلٌ له؛ لا إثمَ على من ينعتُ المنظومة السياسيّة اللبنانيّة بما شاءَ من نعوتٍ لا صلةَ لها بالمعنى الجوهري للإنسانيّة، إذ أنّ منظومة الطُغاة هذه ليست أهلًا إلّا لذلك. وليس الغرضُ من استعمال عبارة “المنظومة السياسيّة اللبنانيّة” أن يكونَ الحديثُ عامًّا خاليًا من تسميّة المُفسدين بأسمائهم؛ فغيابُ الإستثناء من العبارة لا يدلُّ إلّا على شموليّتها. بعبارة أكثرَ مُشاكسةً؛ “كُلّن يعني كُلّن” هو الشعارُ الأكثرُ واقعيّةً في التعبير عن الحالة السياسيّة القائمة في لبنان بعد انسحاب الإحتلال السوري منه. فمنظومة الطُغاة، وفقَ التحديد السابق، هي توليفةٌ فاسدة ابتدعها أُمراءُ الإقتتال الأهلي وأباطرة نهب المال العام وأسيادُ القتال بالوكالة، فعادلوا بين الفساد والسلاح وتقاسموا بالقِسطِ كلَّ معاني الإرتهان للشرق والغرب وما بينهما من اتّجهات، فابتدعوا لُبنانَهم الغريب عن لبنان وبنَوْهُ على طائفيّة رعناء وتاريخٍ ضبابيٍّ وضعوا ملفّاتِه تحتَ أرجلِهم حرصًا على الوفاق الوطنيّ الذي امّحتْ أمامَ صِيَغِه الفوارقُ بين الوفاق والنفاق.
تُشكّلُ الطائفيّةُ التي ينفثُها زعماءُ الأحزاب وأبواقُهم في عقول أنصارِهم أوكسيجينًا يستحيلُ بغيابِه بقاءُ منظومة الطُغاةِ على عرشِها الذي بنتْه بدماء اللبنانيين وعرقِهم. وقد نجحتْ المنظومة من خلال توافق زعمائها من جهة، واختلاف أنصار الزعماء من جهة أخرى، في تحويل المجتمع اللبناني عمومًا إلى مجتمعات لبنانيّة هي اقربُ إلى القِطعان منها إلى الحشود الشعبيّة. ولو أردنا اجراء إحصاء يشمل خطابات الزعماء، كلّن يعني كلّن، لوجدنا أنّها تدور حول ثلاث كلمات، أو ما يُعادلُهُنّ؛ الطائفة، الطوائف والطائفيّة. وليست الأزمةُ في وجود الطوائف ذاتِه، وإنّما في واقعِ أنّ الطائفة لا تلعبُ دور الدولة في الحماية وحسب، بل في أنّ الطائفة تحمي المُتَطيِّفينَ بها من الدولة نفسَها.
وعلى سبيل الختام الذي لا بدّ منه، يشتركُ زعماءُ المنظومة السياسيّة، كلّن يعني كلّن، في توجيه التُهم بالفساد والإفساد إلى الطرف الآخر الذي يُعبَّرُ عنه دائمًا بضمير الغائب “هم” أو ما يُعادلُه. ومن باب أنّ تاريخَ الفاسدين والمجرمين يُعيدُ نفسَه باستمرار؛ تحكي رواياتٌ، تختلفُ في تفاصيلُها وتتفقُ في معانيها، أنّ مالكَ بن دينار خطبَ بالناس يومَ جُمعة فتأثّروا كلُّهم حتّى البُكاء، ثم صلّى الجُمعةَ بهم. ولمّا انتهى من صلاتِه تفقّدَ مصحفًا كان يحملُه معه، ولمّا لم يجِدْه عرفَ أنّ مصحفَه قد سُرق، فقام وقال للناس؛ “ويحكم، كلُّكُم يبكي فمن سرقَ المُصحَف؟”.