المخطوف
جورج الراسي
اذا كنتم تظنون ان شارعنا الصغير (شارع المدور في منطقة الأشرفية في بيروت)، مقتصر على الشخصيات المحلية فأنتم مخطؤن، فقد دخل العالمية من أوسع أبوابها بفعل عمليات الخطف التي ضج بها العالم في اواسط ثمانينيات القرن الماضي، والتي كانت بيروت مسرحا لها.
فهل تعرفون من سكن في شقة الشيخ موريس الجميل بعدما إضطر للإنتقال إلى شقة أخرى حين قرر دخول معترك السياسة؟
إنها عائلة Carton الفرنسية. عائلة Paul Cartonوما أدراكم ما Paul Carton لقد التقيته بعد اكثر من عشر سنوات عند هجرتي إلى فرنسا وقد أصبح رئيسا لمعهد العالم العربي عندما كان السياسي والكاتب اللبناني باسم الجسر مديرا عاما للمعهد. هل يعني لكم شيئا إسم Marcel Carton سوف تتذكرون قصته بعد قليل.
عائلة Carton المقابلة لنا كانت مكونة من صبيين وبنت.
البنت كان أسمها Sophieفرنسية.. typiqueشعر أشقر يلمع عن بعد، مسدل حتى آخر أطراف العامود الفقري، عينان خضراوان، جسد نحيف يسمح بآبراز ما هو مهم من تضاريس، يعني بإختصار بريجيت باردو محلية الصنع.
عندما يجعر الأوتوكار صباحا للم أولاد الحي، كان المراهقون من بينهم يتسابقون لتحميلها الرسائل، واحد يعطيها موعد في الحرش، آخر تحت القناطر، ثالث عن مدخل البناية، وصولا لدعوتها إلى رحلة في ترامواي بيروت طيب الذكر .المسكينة لم تكد تصل إلى باب المدرسة إلا وحقيبتها محشوة بالرسائل.
أتصورها تضحك ملء رئتيها وهي ترى كل ذلك “الهبل”، لا أدري كيف كانت تستطيع التركيز على دروسها بعد هذا كله، كما لا أعرف بالتحديد من فاز في ذلك السباق المحموم، لكن من المؤكد أن أخي الأصغر لم يخرج خالي الوفاض واستخدم حق الشفاعة حتى آخر نفس، على اعتبار أن بابنا على بابها، وهذا ما يمكن أعتباره وفق التشريعات الحديثة منافسة غير مشروعة.
في 22 آذار ــــ مارس من عام 1985 أقدمت منظمة تطلق على نفسها إسم “الجهاد الإسلامي” على آختطاف دبلوماسيين فرنسيين يعملان في بيروت هما Marcel Carton و Marcel Fontaine
كان carton يعمل في خدمة الدولة الفرنسية منذ أربعين عاما، دخل سلك القنصلية العامة في شهر أيلول ــــ سبتمبر من عام 1949، ثم تسلم رئاسة البروتوكول التابع للسفارة بدءا من العام 1968 .
من مواليد مدينة اللاذقية السورية في 22 حزيران ـــ يونيو 1923 يعني في بدايات الآنتداب الفرنسي، لكنه أمضى معظم حياته في لبنان حيث أكمل دراسته، تزوج عام 1952 ورزق بثلاث بنات وصبي واحد.
عندما خطف كان بصحبة أكبر بناته السيدة Danielle Perez التي ما لبث الخاطفون أن أطلقوا سراحها في 31 مارس ــــ آذار 1985 أي بعد حوالي الأسبوع.
قيل حينها أن عملية الخطف ترمي إلى مبادلة المخطوفين بـ 17 موقوفا من منظمة “الجهاد الإسلامي” في الكويت بتهمة تنفيذ إعتداءات العام 1983. ووجهت المصادر الفرنسية حينها تهمة الضلوع في العملية إلى اللبناني عماد مغنية.
بعد ذلك بشهرين في 29 أيار ـــ مايو تم إختطاف فرنسيين آخرين هما الصحافي Jean-Paul Kaufmann وعالم الإجتماع Michel Seurat الذي توفي لاحقا في الأسر.
إتضح بعد ذلك أن المسألة أكثر تعقيدا وأن اطرافا عديدة محلية وإقليمية ضالعة فيها وأن ما جرى منذ أربعين عاما لا يختلف كثيرا عما يجري تحت ناظرينا اليوم.
صراع بين فرنسا وإيران
الوجه الأول لعمليات الخطف تلك التي شهدتها آنذاك الساحة اللبنانية كانت تصفية حساب بين آيران و فرنسا.
كلنا يذكر تلك الحرب الشنيعة والمدمرة التي اندلعت بين العراق وإيران منذ العام 1980 والتي كانت على أشدها في تلك المرحلة. وقد إنحازت فيها باريس بشكل كامل آلى بغداد، إلى درجة إنها زودت القوات العراقية بخمس طائرات Super-étendard أخذتها من ترسانة سلاح البحرية لكي تستخدم في تدمير منشآت النفط الإيرانية. ثم جاءت قضية أنيس نقاش لتزيد الطين بلة.
أنيس لبناني ناضل في صفوف المقاومة الفلسطينية، ثم تبنى الفكر الماركسي قبل أن ينخرط إنخراطا كاملا في الثورة الإيرانية قولا وفعلا، عندما كان يكمل دراسته في باريس كان شديد المتابعة لما يجري في المنطقة بخاصة كل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية.
اذكر أنني في تلك المرحلة، مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، كنت أصدر في باريس، من ضمن منشورات عديدة، نشرة توثيقية نصف شهرية، عن العالم العربي، عنوانها Actualité Arabe توزع بالاشتراك على مراكز القرار من سياسيين ودبلوماسيين ومراكز أبحاث وما شابه، وكان إشتراكها السنوي مرتفع نسبيا، فكتب لي يسألني كيفية الآطلاع عليها، فأرسلتها له مجانا.
في 18 تموز ـــ يوليو من عام 1980 أقدم أنيس على عملية جريئة في باريس إذ قاد كومندوس من خمسة أشخاص (لبنانيان وإيرانيان وفلسطيني) بهدف إغتيال شابور بختيار آخر وزراء الشاه تنفيذا لفتوى كان قد أطلقها الخميني. لكن المهاجمين أخطأوا الهدف. فتم القبض عليهم وحكم على أنيس ورفاقه بالسجن المؤبد. ومنذ ذلك الحين أصبح إطلاق سراحهم مطلبا إيرانيا دائما. أضف إلى ذلك أن إثنين من كبار المعارضين كانا يقيمان في العاصمة الفرنسية بحماية البوليس الفرنسي وهما اول رئيس للجمهورية الإسلامية أبو الحسن بني صدر ومسعود رجوي رئيس جماعة “مجاهدي خلق” المعارضة.
أضف إلى ذلك كله أن طهران كانت تطالب بإسترداد مبلغ مليار دولار كان الشاه قد أقرضها عام 1975 إلى شركة Eurodifللإستحصال على 10% من أسهمها.
كل هذه التراكمات أين انعكست؟
في بيروت بالطبع، وتواصلت الردود.
بعد إسبوعين فقط على تسليم طائرات الـــ Super ètendard في 23 تشرين الأول ـــــ أكتوبر 1983 على وجه التحديد، جرى تفجير ثكنة القوات الفرنسية في بيروت Drakkar الذي ذهب ضحيته 58 عسكريا فرنسيا. وكانت القوات الفرنسية قد ساهمت في عملية إخراج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت في آب ــــ أغسطس من عام 1983، كما ساهمت في تشكيل قوة مشتركة مع قوات إيطالية وأمريكية بعد مجزرة صبرا وشاتيلا.
في 31 تموز ــــ يوليو من عام 1984 جرى خطف طائرة بوينغ تعمل على خط فرانكفورت ـــ طهران. ولم تتم تسوية الأزمة إلا بتدخل مشترك من أبو إياد ( صلاح خلف ) الممسك حينها بجهاز المخابرات الفلسطينية ورفيق دوست قائد الحرس الثوري.
في 22 أيار ــــ مايو 1985 تم خطف Kaufmann و Seuratحتى وصل مجموع عدد المخطوفين الفرنسيين إلى 11 شخصا.
وبث الخاطفون خمس فيديوهات للمخطوفين في الأسابيع القليلة التي اعقبت 14 آذار ــــ مارس من عام 1986، الأمر الذي اعتبر دعوة للحوار من طرف الجهاد الإسلامي دون أي جواب.
هذا الوضع أثار إبنة مارسيل كارتون السيدة سيمون الخوري التي اعتبرت ان الحكومة الفرنسية لا تفعل شيئا لإطلاق سراح مواطنين Non assistance à personne en danger
وكانت المفاوضات لإطلاق سراح كومندوس أنيس نقاش قد قطعت شوطا متقدما، فتم الإتفاق على إطلاق سراحه منفردا دون بقية افراد فريقه، لكنه رفض الخروج دونهم. ولم يرضخ للأمر إلا عندما قيل له أن تلك هي رغبة الإمام الخميني. وبالفعل تم إطلاق سراحه وحيدا في 4/ 1 /1986.
صراع فرنسي ــــ فرنسي
كان وراء الأكمة ما وراءها، فلم تعد المسألة إيرانية ــــ فرنسية بل تحولت إلى فرنسية ـــ فرنسية، إضافة بالطبع الى الأدوار التي لعبتها أطراف اقليمية وعربية.
كانت فرنسا تعيش حالة مساكنة بين الرئيس الإشتراكي فرانسوا ميتران ورئيس وزرائه الديغولي جاك شيراك الذي فاز حزبه في تشريعيات العام 1986، فكان من الطبيعي أن يشكل الحكومة. وكان موعد الرئاسيات المقبلة يحل بعد عامين في 1988.
فتحولت قضية الرهائن إلى ورقة سياسية يريد أن يلعبها كل طرف لمصلحته، وشهدت باريس بعد تلك الانتخابات سلسلة عمليات فيما يشبه التنبيه إلى جاك شيراك بضرورة الإلتزام بتعهداته.
وكانت الدبلوماسية الإيرانية في تلك الأيام تعيش أحلى ساعاتها فقد تواجد في طهران في آن واحد وفدان واحد أرسله ميتران والآخر من جماعة شيراك أوكل اليه تلك المهمة وزير داخليته شارل باسكوا، لم يكن أي وفد يعلم بوجود الوفد الآخر، فكان الديبلوماسيون الإيرانيون ينتقلون من غرفة إلى غرفة لمفاوضة كل وفد على حدة، حتى يروا أي الطرفين يمكن أن يعطيهم أكثر، فيعلنوا إطلاق الرهائن على يديه ويحسنوا بذلك حظوظه في الانتخابات المقبلة. هكذا أضاعوا عامين من عمر الرهائن المحتجزين. وفي النهاية كانت جماعة شيراك تفتخر ان 10 رهائن أطلقوا خلال رئاسته للوزارة في حين ان الحادي عشر توفي وهو Seurat
وبالفعل تم في 4 أيار ــــ مايو 1988 تحرير الأسرى، حيث اقتيدوا إلى فندق “سمرلاند”، مقر القيادة السورية في بيروت. وكانت الانتخابات الرئاسية مقرر بعد 4 أيام في 8 أيار 1988، ففاز فيها ميتران في دورة ثانية بنسبة 54،1 مقابل 45،9 لشيراك رغم كل جهوده.
اسعد حيدر … واسكندر صفا
بما أن للبنان “قرص في كل عرس” فقد لعب لبنانيان أدوارا مهمة بعيدا عن الأضواء .الأول هو زميلنا الصحافي اسعد حيدر، فهو الذي تلقى تعليمات من قائد الحرس الثوري دوست تقول له ان يؤمن إتصالا مع قصر الإليزيه لمناقشة الموضوع.
كيف تريدون لأسعد ان يقتحم القصر الرئاسي الفرنسي لينقل رسالة بهذه الأهمية وهو مجرد “مهاجر”، وربما كانت أوراق إقامته فاقدة الصلاحية. إتصل اسعد بصديق صحافي آخر هو آريك رولو الذي عمل مدة طويلة في جريدة “لوموند” يلاحق الأحداث العربية، والذي عينه ميتران سفيرا في تونس لمراقبة منظمة التحرير الفلسطينية بخاصة وأن علاقة قوية كانت تجمعه بصلاح خلف، وبالفعل استوعب رولو أهمية الرسالة وأوصلها إلى حيث يجب وطار في 16 أيلول ــــ سبتمبر 1985 بصحبة أسعد حيدر إلى طهران لمقابلة رفيق دوست وتعبيد طريق المفاوضات.
اما اللبناني الثاني فهو المتمول اللبناني اسكندر صفا الذي يملك مصالح كثيرة في فرنسا في مجالات عديدة من بينها الصحف والمطاعم والخدمات والعقارات …الخ. فقد رافق رجل باسكوا المدعو Jean- Charles Marchiani إلى طهران للغرض ذاته. وهكذا يكون لبنان قد أدى قسطه للعلى مرة أخرى على حساب أمنه وإستقراره وراحة شعبه.
هذه هي قصة جارنا المخطوف مختصرة إلى أبعد الحدود، فلم تعد المسألة مسألة مخطوف من هنا أو من هناك، بل هي مأساة وطن مخطوف بأمه وأبيه يبحث عمن يدله على باب الخلاص.