“السيد تحكيم” للإيطالي إيمانويل جيانيلي.. تمثال يحرض على التفكير والاختيار

“السيد تحكيم” للإيطالي إيمانويل جيانيلي.. تمثال يحرض على التفكير والاختيار

علي بنساعود

حين وصلنا إلى فلورنسا الإيطالية عائدين إليها من مدينة بيزا، وبُعيد نزولنا من القطار، متجهين إلى البيت، عبر شوارع المركز التاريخي للمدينة، وبينما نحن على مشارف ساحة سان لورانس، بدا لنا من بعيد، تمثال عملاق أبيض، سرنا صوبه، فإذا به يثير اهتمامًا كبيرا بين الناس، خصوصا السياح الذين كانوا متحلقين حوله، يصورونه من جميع الجهات، ويلتقطون معه صور سيلفي.

كان التمثال جميلا ومهيبا، وهو عبارة عن رجل عار̳ ضخم من مادة بيضاء كالرخام، واقف كما لو كان يتكئ على بناية قديمة في ساحة “سان لورانس”.

قلت لندى ابنتي، وكانت رافقتني إلى مدينة بيزا: لعل التمثال/ الرجل في وضعيته هذه يحاول دعم هذه البناية وكأنها آيلة للسقوط! وكان حريا بالمنظمين عرضه بمدينة بيزا لدعم برجها المائل!

ابتسمت وقالت: ولم لا تقول إنه يحاول دفع البناية وإبعادها والتخلص منها؟!

بصراحة، بدا لي تأويلها مقبولا أيضا، إذ لا شيء يرجح هذا التأويل دون ذاك…

وبينما أنا منصرف إلى التقاط بعض صور التمثال، وتأمل عضلاته المفتولة، ووجهه المتعب المكدود، وملامحه المتأرجحة بين الاستسلام والمكابرة، وملاحظة التناغم بين بياض التمثال ودرجات اللون البني للكاتدرائية والسماء الزرقاء، اقتربت ندى من مرشد يحدث مجموعة من السياح عن هذه المنحوتة… وسرعان ما عادت إلي لتقول إن اسم التمثال “السيد تحكيم” (M. Arbitrium) وأن ارتفاعه يبلغ زهاء 5 أمتار ونصف، وقاعدته هائلة تزيد عن مترين على أربعة أمتار، وأنه معروض، هنا، لمدة محددة تمتد من فاتح شتنبر إلى آخر أكتوبر، (تمددت في ما بعد إلى أواخر نونبر)… وأن صاحب التمثال هو النحات الإيطالي إيمانويل جيانيلي (روما 1962)، وهو فنان ذو مكانة دولية متميزة، يشتهر بمنحوتاته الضخمة التي تعرض بمختلف مدن إيطاليا (ميلانو، لوكا، فورتي دي مارمي…) وعواصم العالم، وهو فنان متعدد الأوجه تشتهر أعماله الفريدة بالمزج بين الكلاسيكية والنظرة المعاصرة. وأضافت أن التمثال معروض على الواجهة الخارجية لكاتدرائية سان لورانس…

وعن دلالة المنحوتة، قالت ندى: إن المرشد يقول إن وضعيته، يمكن تفسيرها بطريقتين: إما أن هذا العملاق يدعم المبنى أو أنه يدفعه! وأن رسالة النحات تظهر معضلة الإنسانية والتي هي: المحافظة على المؤسسة الدينية (الكنيسة هنا) بما ترمز إليه من ماض وثقافة وتقاليد ودعمها، أو نبذها ودفعها للتخلص منها إلى الأبد... وبالتالي، يضيف المرشد أن على الإنسان أن يحدد موقفه، ويختار ما يريده ويراه مناسبا للعصر وللتقدم إلى الأمام!

ومعنى هذا، حسب المرشد دائما، هو أن الفنان عبر تمثاله هذا يسائل الناس جميعا، وعلى رأسهم هؤلاء الذين يتفرجون عليه، بل حتى أولئك الذين يمرون غير مبالين به، ويقول لكل واحد منهم: “أنت، ماذا اخترت؟ في أي جانب أنت؟ هل تفعل شيئا ما للتمسك بالماضي ودعمه ونصرة الدين وإعلاء التقاليد أم أنك تدفعه وتبعده وتعمل ما في وسعك للتخلص منه بغير رجعة، ومقابله تحتضن أسباب التقدم والازدهار؟

بصراحة، بدا لنا أن اختيار عرض التمثال العملاق على واجهة الكاتدرائية لم يكن اعتباطيا، بل مفكرا فيه، وأنه تم انتقاؤه بذكاء ودهاء، خصوصا أن كاتدرائية القديس لورانس بفلورنسا هي أقدم كنيسة في المدينة، بنيت، لأول مرة، أواخر القرن الرابع الميلادي… وبالتالي، فهي أفضل حصن للتقاليد الأوربية… كما نعتقد أن اختيار فلورنسا مكانا لإعادة طرح هذه الأسئلة ليس اعتباطيا بل هو مقصود لأن هذه المدينة هي مهد النهضة الأوربية.

ولعل ما سلف يوضح لنا كيف أن الفن الأوربي الحديث مازال يقوم بوظيفته في تحريض الناس ودعوتهم إلى الانخراط في النقاش العمومي، واختيار مصائرهم، بحماية ثقافتهم وتقاليدهم أو الدفع بها إلى الخلف لإفساح المجال للحداثة فقط والانخراط فيها. ولعلها دعوة ذات راهنية، في وقت تحدث تغييرات هائلة بإيقاعات متسارعة…

ما يحتم على الناس، في كل مكان، أن يختاروا إما “كنس الكنيسة/الدين” كرمز للمؤسسات التاريخية الثقافية وللتقاليد أو دعمها والدفاع عنها.

وبالتالي فالنحات يحث على الوضوح والحسم بشأن المسار الذي يريد أن يتبعه الناس… أي أن على الإنسان أن يختار المسار الفلسفي والثقافي الذي يريد أن يسلكه.

للإشارة، فقد سبق عرض هذه المنحوتة بعدة مدن إيطالية وشكلت نقطة جذب بها، قبل وصولها إلى فلورنسا ومنها: سيرافزا وميلانو ولوكا وفورتي دي مارمي…

Visited 11 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

علي بنساعود

كاتب مغربي