الاندماج النووي صورة إنسانية
نجيب علي العطار
«الولايات المتّحدة قد حقّقتْ إختراقًا علميًا عظيمًا». بهذه الكُلَيْماتِ السَّبع أعلنتْ وزيرةُ الطّاقة الأميركيّة إعلانًا يُعيدُ إلى الأذهان الكلمات الأولى التي نطقَ بها الإنسانُ على سطح كوكبٍ غير كوكبِ الأرض؛ “إنّي أراها بُرتقالةً زرقاء”. وليسَ من باب الشَّاعريّة والأدب أن نستحضرَ الخطوةَ الأولى للإنسان على سطح القمر مع إعلان وزيرة الطّاقة الأميركيّة عن «الإختراق العلمي العظيم» في مجال الطاقة المتولّدة عن الإندماج النُّووي، إنّما نستحضرُ خطوةَ آرمسترونغ اليوم لأنّ هذا «الإختراق العلمي العظيم» يقول لنا بعبارةٍ انتظرَها الإنسانُ طويلًا؛ «ستغدو الرحلةُ إلى القمر نُزهةً في حديقة منزلكُم الأرض.. سيغدو الكونُ كوكبًا ذاتَ يوم».
بعيدًا عن الشّاعريّة، التي لا تخلو قوانين العلم ومبادئه من لمساتِها، شكّل إعلانُ وزارةِ الطّاقةِ الأميركيّة ثورةً حقيقيّةً في مجال الطّاقة؛ حيثُ أنّ علماءَ في «مُختبر لورانس ليفرمور الوطني» التّابع لجامعة كاليفورنيا قد استطاعوا، من خلال الإندماج النُّووي، إنتاج كميّة من الطّاقة أكبر من كميّة الطّاقة التي استُعملتْ لتحقيق هذا الإندماج، مُستخدمين أشعّة الليزر لتوفير الحرارة المطلوبة لإحداث الإندماج. وكما أشارتْ وزيرة الطّاقة الأميركيّة فإنّ الإستثمار من القطاع الخاصّ وحدَه، في مجال توليد الطّاقة عبر الإندماج النُّووي، قد بلغَ ثلاثة مليارات دولارٍ في العام الماضي فقط، وتُشير التقارير إلى أنّ عقدًا من الزّمن على الأقل يفصلُنا عن الإستفادة من هذا الإنجاز الهائل. فما هو الإندماج النُّووي؟ وما الذي يجعلُه هائلًا إلى هذا الحدّ؟
إنّ التفاعلات الأساسيّة التي تحدثُ على المستوى الذرّي هي اثنتان؛ الإنشطار والإندماج. وكما يوحي إسماهُما؛ الإنشطار هو أن تنشطِرَ/ تنقسمَ الذرّةُ إلى جُزأينِ أو أكثر، مُطلقةً بذلك طاقةً هائلة. هذه الطّاقة هي التي تُعرفُ بالطّاقة النُوويّة المُستخدمة اليوم في المُفاعلات النّووية السلميّة، وهي التي استُخدمتْ في تفجير هيروشيما النُّووي. وتكمنُ الخطورة في توليد الطّاقة من خلال الإنشطار النُووي في أنّ الإنشطار النُّووي يستخدمُ عناصر مُشعّة، مثل اليورانيوم، والتي تحملُ خطرًا كبيرًا على الإنسان إذا تعرّضَ لإشعاعِها. وممّا يزيدُ العناصر المُشعّة خطورةً هو أنّها تحتاجُ وقتًا طويلًا حتّى تفقدَ نشاطَها الإشعاعي؛ وعلى سبيل المِثال فإنّ اليورانيوم ذات الكتلة الذرّية 238 يحتاج إلى حوالي 4.5 مليار سنة حتى يفقد نصف نشاطه الإشعاعي. يكفي أن نُشير إلى أنّ هذا العدد من السنين هو تقريبًا عُمر كوكب الأرض.
أمّا الإندماج النُّووي فهو العكسُ تمامًا للإنشطار؛ حيثُ تصطدمُ ذرّتان، تحت تأثير حرارةٍ وضغطٍ كبيرَيْن، لتُشكّلان ذرّة واحدة أكبر من الذرّتَيْن المُندمجَتَيْن. وأبرزُ مِثالٍ يُمكنُ أن يُضربَ عن الإندماج النُّووي هو شمسُنا، نحنُ مجرّة درب التبّانة؛ إنّ شمسَنا، كغيرها من الشموس، هي مفاعلٌ نُّوويٌ طبيعيٌّ يعملُ بإندماج الهيدروجين الذي يُشكّلُ 70% من وزنِها. في مركز الشمس تبلُغُ درجة الحرارة حوالي 15 مليون درجة مئويّة، ونتيجةً للحرارة والضغط الشديدَيْن تندمجُ ذرّتَيْن من الهيدروجين فتتشكّل ذرّة هيليوم واحدة، وينتجُ عن هذا الإندماج طاقةٌ هائلة هي السببُ في اشتعالِ شمسِنا طيلةَ 4.6 مليار سنة مضتْ، وهي التي ستبقيها مُشتعلةً لخمسةِ مليارات سنةٍ إضافيّة كما يُرجّح علماء الكَوْنِيّات.
إنّ إنتاج 1000 ميغاواط من الطاقة في يومٍ واحدٍ فقط يحتاجُ إلى تسعةِ آلاف طُن من الفحم، وينتجُ عن ذلك حوالي ثلاثين ألف طن من ثاني أكسيد الكربون (CO2) وغيرِه من الغازّات السامّة؛ مثل ثاني أكسيد الكبريت (SO2). في المُقابل، يُمكننا إنتاج الكميّة نفسَها من الطّاقة، عبر الإندماج النُّووي، باستخدام 1250 غرام فقط من الديوتيريوم (Deuterium) والتريتيوم (Tritium)، وهُما نظائر عنصر الهيدروجين.
هذا كان الإندماج النُّووي بصورةٍ موجزة، لكن ما الذي يجعلُه أكثر أهميّة من الإنشطار النُّووي؟ في الواقعِ إنّ عدّة عوامل أساسيّة تقفُ خلفَ هذه الأهميّة، وأبرزُها؛ أنّ الإندماج النُّووي لا يحتاج إلى عناصر مُشعّة كما هي الحالة في الإنشطار النُّووي، وبالتّالي فهو لا يحملُ خطرًا إشعاعيًّا على الإنسان والبيئة وهذا ما يجعلُه «طاقةً نظيفة كليًا». والعاملُ الثّاني هو أنّ العناصر المُستعملة في الإندماج، وهي الهيدروجين أو نظائرُه، مُتوفّرةٌ في الطّبيعة بشكلٍ كبير، على عكس اليورانيوم الذي يُعدُّ قليلًا نسبيًا في الطبيعة. والعاملُ الثالث، ولعلّه الأهم، هو كميّة الطاقةِ المتولّدة عن الإندماج النُّووي وهي طاقةٌ هائلة أكبر بحوالي 161 مرّة من تلك المتولّدة من الإنشطار النُّووي. ويُمكنُ فيما بعد استخدامُ هذه الطّاقة للسَّفر عبر النجوم، وربّما عبر المجرّات. أمّا “سلبيّات” الإندماج النُّووي فأبرزُها أنّ المُفاعلات النُّوويّة الواجب إنشاؤها لتوليد الطّاقة النُّووية الإندماجيّة معقّدةٌ جدًا ومُكلفةٌ جدًا.
لم يكُنْ إعلان وزارة الطّاقة هذا ثورةً علميّةً وحسب، بل هو خطوةٌ كبيرةٌ للإنسان على طريق الإستيطان خارج كوكب الأرض، وربّما خارج المجموعة الشمسيّة.
Visited 65 times, 1 visit(s) today