أغنار عواضة تتلمس الغياب في “طعم الحب”
ياسر مروّة
صدر عن دار الفارابي ديوان شعر جديد بعنوان “طعم الحبّ” أغنار عواضة، وهي صحافية خريجة كلية الاعلام والتوثيق – الجامعة اللبنانية، من بلدة الخيام الجنوبية. وقد وقعت إصدارها الجديد في معرض بيروت الدولي للكتاب الماضي، وحوى89 نصاً تميزت بكثافتها وحبكتها السهلة.كتبت الشاعرة نصوصها بأسلوب معبر عن نضج التجربة والرؤية وبتمعن، وظهرت في العديد من القصائد القيّمة والمعبرة رمزية غائبة في الساحة الشعرية أثبتتها مرة أخرى في ديوانها الثاني بدقة، وسجلت نقلة نوعية متفردة سباقة بين الشاعرات، أمتواطئة هي مع وجدانها وقلبها ودماغها الذي ينطق بقلم تخدم كلماتها الساحرة وطريقة السخرية والتعابير القاسية بشكلٍ حنون يعيدها إلى ماض وينحو بها نحو المستقبل.
تهدي أغنار عواضة كتابها الجديد “طعم الحب”، “كلماتها ولن يبقى غير الكلمات نحو الزمن السائل بين الحنين وجنباته، إلى أحفادها القادمين بعد حين، وأيضاً إلى روحّي جدتها مريم وجدها يوسف الملهمتين الشاعرتين. اما الغلاف فكان عبارة عن لوحة تجريدية (ديجيتال آرت)، لرامي البقاعي، رسام يعبّر عن أحاسيسه المدهشة بالألوان والأشكال – (متخصص في الهندسة المعمارية) – وهو وضع غلاف كتابها الأول أيضا، لوحة رسمها بداخل روح نصوصهاالشعرية: “بماء عينيك كتبت”، فهو كان يرسم إنتقاء خطوطه الحنين والعتق والتجدد في فراغ الأزمنة ونضال السنين وعذاب المقاومين، لوحة حفرت في الوجدان والذكريات، حاجبا العينين القاسيتين حول بيضاء الثلج، دفء عينيه، وهو مستوحي من رسم فوتوغرافي كمال البقاعي والده الذي أثر فيه.
مقدمة الكتاب الجديد “طعم الحبّ” كتبها الفنان الصديق مرسيل خليفة وهي لأروع ما كتب من نصٍ محكمٍ ودقيق:”الغياب علّمها الشعر مذهب (خيامها)/ وحدها القوافي نَسَباً صريحاً/ من جرح (كمالها) وُلِدت كلماتها/ نرى وجهه في مرآة قصائدها/ يبقى البيان دمعتها وغصتها/ صور واستعارات “طعم الحبّ” على إيقاع الجرح ينقذ لحظة إنسانية من الضياع/ وما على الشِّعر إلا أن يتذكر”.
فقد قدمت الشاعرة أغنار عواضة ولها من ديوانها الشعر القديم باكورة أعمالها سمته، “بماءعينيك كتبت” سنة 2018، النصوص التي تمسك بها الدهشة الأولى وجذور بداياتها وبواكير الأعمال الأولى والإيقاع للدلالة على شعور بوجود حركة داخلية ترددية حيث تأثرت الشاعرة بالشعر الغربي لـ”راينر ماريا ريلكه 1875- 1926″ (شاعر نمساوي عاصر الأدب الألماني، ركّز في قصائده على المراقبة الدقيقة لتفاصيل الاشياء وصعوبة التواصل في تجارب العزلة لعصر القلق،و”ريلكه”الذي قتلته وردة فيها أشواك جرحته، فبعد فترة قصيرة توفيّ من جراء مرض الدم اللوكيميا) فقد ظهر تأثرالشاعرة ب”ريلكه” أكثر من الشعراء “العرب” وكان الأقرب إلى أسلوبها ـــ كما قالت في نصها:
“لتمسك نجمةً
تهدي لعينيّ الحزينتين
أجمل قصيدة
حبيبي الذي لم يغب ولن يغادر
سبق وكتبت الشاعرة هذا النص الرائع بيديّها الناعمتين المتوترتين على الورق وضمته بين ثنايا كتابها، أهدته إلى رجل بألف رجل، كمال البقاعي زوجها الحبيب الرفيق والمُغرم والمغامر والقائد الذي قاد جزءاً مهماً من العمليات البطولية في إدارة رئيسية من بطولات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية السرية ضد العدوان الأسرائيلي.
عند النصف بعد الثمانينات المنصرم حاصر النظام السوري المسيطر على لبنان وفرضت تحويلها إلى مقاومة إسلامية وسرعان ما قضت تدريجياً إلى الأقصى، فخفتت المقاومة الوطنية، فنشبت المعارك الدموية بين الميليشيات التابعة لها في إغتيال واستشهاد معظم الكوادر المهمة، وصفت الشاعرة واقع الحال في كلّ الحكايات القاهرة والقاسية والمؤلمة، كل بيت قصفته الرياح والعواصف، وتلك الأعمار التي تسربت في جروحها وحزنها وقلقها وهربها وبكائها، فتوجهت أغنار عواضه في نص:
“بئس هذا التاريخ”
للتاريخ التي حفظته حرفاً حرفاً
من سيكتب قصتنا الرسمية وحكاياتنا الشعبية.
وفي نص أخر بعنوان: “والجرار خاويات”،
حين تنتهي الحروب
ويعود من تبقى من الرجال
الأشداء منهم ماتوا شهداء
وتتابع في نص”سرمد”
العبرة في الخلاصات
الثرثرة لا تجدي
وفي “جدل”:
ما خبأته العيون
ما الحياة
أكتب سطراً فيك
ثمّ أمحوه
يكون ولا يكون
أين أنت مني
وفي الشعر الحديث عند كل واحد من الشعراء فلسفته الخاصة مع “الظل” ومنها الشاعرة استخدمت (الظل، الظلال، ظلانا، ..) ولوظيفة إعتياديّة في نص “ظلانا”:
وأنت تقفز من ظلك
إلى ظلي
لا تنظر إلى عين الشمس
فصور الصمت للصمت في الأسطورة خدمت صوراً من التفاصل للتفاصيل في الميثولوجيا والحياة الهاربة وفصول الأرض وإشتياقها للمحبين وهمسات ظلالهم ونورها نحو ظلّها الخفيف.
كتابتي عن “طعم الحب” للشاعرة أغنار عواضة في زاويتي الثقافية “السؤال الآن” هو كلام ينبض نبضات الحسية الروحية لأن قصائدها لمست أمكنة نابضة، جمالية، فيها أحاسيس تنتهي نهايات قاسية وتُحلّق في بداياتها نحو آفاق وفضاءات لا قيود فيهما ولكنها تجنح إلى نظريات فلسفية ورمزية.
في نص”آمان آمان”:
“بين التجريب والتجريد
تسقطُ روح وينأى جسد
ولو أنني كنت شاعرة
كما أدعت عينيك المغلقة في تلك اللوحة
لكنتُ بدل كلّ هذا الهراء الذي أفعله
كتبت موالاً عراقياً وحيداً على مقام غريب
يسمونه “دشت”
وليس فيه آهة واحدة
ولا # آمان آمان آمان #
وتدل الصور التي تعيد الماضي وحاضرها على تنظيم فوضى الدلالة،
كما في النص التالي، “سربُ نساء”:
“أنظر
أفكر
أحلم
أمشي
أتذكر
أتخيل
أجرؤ
أخجل
أتسرع أندم
أحبك أحياناً
كما أيّ امرأة
ترتكب عشرة أفعال في وقت واحد
و”ترصّع” استعارات جملة تحاكي ما في الروح من نسق فوضويّ يشيّد الخيال، وحقيقة الواقع التي تستند على فظائع متكررة في الحرب، النص الواضح في “أنواتي”:
وقد تختفي رهافتي
ونصف رومنسيتي
وأذوي خجلاً
ويظل الخاطفُ مجهولاً
والفاعلُ مجهولاً
كما السبعة عشر ألف مفقود ومخطوف في الحرب
وآلاف المهجرين الذين لم يعودوا
وبضعة آلاف بين جريح ومقعد
وتعيد سيناريو ذكرى وذكريات الحرب الأليمة وبمخيلتها صور أيامها الفظيعة القاسية، كادت تكون رقماً مضافاً من هؤلاء ضحاياها، وفي نص “فصامي” وهو متقدم من العمر بعد الخمسين لانفصام الشمس عن القمر لوسواسها متعلقاً بالشخص الذي كان وقتها مالىء الدنيا بها.
وفي نص “قسوة”:
لسنا متعادلين
تعال نقس ما لدينا
عمر دون الثالثة
من يشتاق أكثر
الطفل أو النهدان
شوق فسيح مثل الشعر..
تلك القسوة من قساوة الاشتياق وكل واحد من البشر مختلف عن الآخر ولسنا بحاجة إلى أزمنة مثل زمن البدايات قابيل يقتل هابيل قساوة البداية إلى الآن “تعالي نرتكب الخطايا/ من ينكأ جرحاً” لسنا متعادلين في أيّ شيء، ومن سيشتاق هو أو هي، أم نعيش فوضى الأزمنة القاسية، تطير فراشات القصائد وعصافير الحبّ وهي لا تصدق الأحلام، فهل تصدقين؟ تقول فريدا كاهلو:” لا تعرني اهتمامك/ لا تفعل/ أنا امرأة لا تثير الأهتمام/ لأنني آتية من كوكب آخر” لا أصدق من فراشاتنا ولكنني موّلعة بالأساطير والحكايات الشعبية، ومن أين يجيء كلّ هذا الصمت، هكذا قطعها “فان غوغ” الرسام لكي يجرب سمعه، وعقلها الذي رسمتها له، رَسَمَ لها درجاً لتصعد للموت القادم و تبني لها برجاً من سراب، “اهدأ/ فثمة خطأ ما يدور حقيقة الحقائق هو العجلة أعظم اختراع للبشرية/ اهدأ قليلاً أيها القلب/ . أما الآن وأنا أقرأ ديوان جديد “طعم الحبّ” لأغنار عواضة الذي يكاد يتفرد بشعرها تُخصص لمواضيعها المختلفة مثل قسوة الشوق ورتابة الحنين وإيقاع الحرب وطعم الحبّ في قصائد “رامبو” الشاعر ونهاية البداية في عذاب البروليتاريا في حقول سيريلانكا بجمال سوريالية الفن، وفي إختلاف مواضيعها الفرق والفراق القائمتين في طريقة التناول والأسلوب، فكان جوهرها الفنيّ تغلب عليها ظاهرة تصويرية أو أفلاماً لتصوير الحقائق الملفتة، وأزيد أخيراً من نص المحبب لي”جدي يوسف”:
جدي لم يقرأ حلاّق إشبيلية
رغم أنه كان حلاقاً
لم يقدّم لجدتي وردة
رغم رومانسيته
لكنه كرجل عاشق
كتب حبه ودسّه في عجز القصيدة وصدرها بدراية الخبير
حين تكبر الحكايا وتنضج
جدي كان خلاّقاً