هوامش [سيرك الحيوانات المتوهمة] لأنيس الرافعي
مصطفى الحسناوي
يمعن أنيس الرافعي في الإيغال عميقا في مناطق التجريب القصوى شأنه في ذلك شأن المنتمين لسلالة الكتاب – السحرة. نصوصه ليست مجرد قصص قصيرة بل هي إبداعات /نصوص تمائمية عميقة وباذخة تضمها تلك المتون القصصية التي يسميها كتبا والتي تضاهي ما ينجزه المبدعون في فن البرفورمانس. آخر إصدارته في هذا السياق هو كتاب [سيرك الحيوانات المتوهمة] والذي هو عبارة عن حقيبة رسومات ومونولوجات مصاحبة برسومات للفنان الأردني محمد العامري [دار خطوط وظلال، عمان، 2021]. هذا الكتاب سرد متميز واستثنائي، تتماهى فيه ألعاب السيرك، بالوقوف عند أنماط سلوك الحيوان ونمذجتها، ماحيا الفرق بين الإنسان والحيوان. [الحيوان كما جاء في قاموس لسان العرب لابن منظور هي إحدى مرادفات الحياة]، أو بين نظام الثقافة ونظام الطبيعة. سيرك أنيس الرافعي هنا إبداع جديد لكتاب الحيوان. في النص الافتتاحي المكون من شذرات بعنوان [تذاكر مجانية للدخول إلى السيرك] يقول الكاتب: [ينهض مفهوم “السيرك الحيواني” في هذه الحقيبة على معارضة مفهوم “السيرك البشري” بمعناه الروماني القديم، القائم على إذكاء حطب العنف الحيواني لدى الكائن البشري. نحن نقلب الصورة تماما، فنسعر لهيب النزعة الانسانية لدى المخلوق الحيواني… الحيوان هو الجزء غير المخلوق من الانسان، لذلك أشكل عليه على الدوام … لا يمكن رسم خرائطية حيوانات السيرك إلا داخل المساحات الرمادية للاوعي المؤلف] [ص:14-15] إنه دفتر الصور الجديدة لحديقة الحيوان، نوع من الميثاق الاستعاري الأسراري بين صنافة الأنواع الحيوانية ودليل الوحوش الخارقة في كل زمان ومكان. لا ذاكرة معلومة لهذا السيرك فهو دائم التنقل والتحول. أخطر ما يقع لسيرك ما هو الاستقرار داخل ذاكرة منتهية، تحت السقف المطلق لعنوان واحد. كنت في طفولتي ومراهقتي أحد المولعين بسيرك شعبي يحط رحاله وخيمته في أرض خلاء، مولعا شأن آخرين بفأر السويرتي(الحظ ) ، باسويرتي مولانا الذي كان يدير عجلاته ، كما العادة آنذاك ، فتى مخنث يرتدي لباسا نسائية ويضع مكياجا نسميه “ماذكالا” باسم الفيلم الهندي الذي شاهدناه آنذاك مرات منذ نهاية الستينيات. سيرك أنيس الرافعي هذا المبدع المراكشي الفذ الذي يجاور في تجريباته الممارسة المينيمالية للكتابة القصصية عند رايمون كارفر، سيرك أنيس ينتمي لسلالة نعثر فيها على أسماء بورخيص.ابن المقفع، فريد الدين العطار صاحب) منطق الطير، (هوفمان الكاتب الألماني، كافكا الذي انسكنت حكايته بالمجاورة المقلقة الغرابة بين الكائن الإنساني والكائن الحيواني، وبارنستو ساباتو حيث تنزع أوصافه لشخصية أليخاندرا بطلة الجزء الثامن من ثلاثيته إلى الحيوانية، كأنها أفعى ثم وصف لطائفة العميان في الجزء ذاته على أنهم من ذوي الدم البارد أي ينتمون لنوع الزواحف والعظايات. نجد أيضا أسلافا لأنيس في مجال الفنون التشكيلية في لوحات جيروم بوش، شاغال، غويا، فرانسيس بيكون وغيرهم هذا السيرك نصوص أدبية، متعة بصرية عبر رسومات محمد العامري، وفرجة سينمائية يمتاح فيها أنيس الرافعي مادته من ثقافته السينيفيلية الباذخة [محمد العامري] وأنا: مناورة سردية – فنية مشتركة في منطقة جمالية منزوعة السلاح] [ص: 29]. هذا ما يقوله الرافعي مستعيرا قاموسه من معجم / تجربة الحروب الماحقة كما يحدث الآن في أوكرانيا، لكن الأمر لا يتعلق سوى بحرب ساركازمية لا يموت الناس فيها سوى من الضحك. إنه منطق الانسكان بالحيوان، تماما كما ينسكن الراقصون والعازفون في ليلة اكناوة وخصوصا إبان طقس الملوك بأمراء وأميرات الجن: [حتما، إن الكثيرين من راقصي البالية القديرين لا يتفطنون إلى أنهم مسكونون تحت جلودهم، مثل المتلبسين بالجن، أو المعالجين “الشامانيين” ببعض الضواري والوحوش والجوارح الرهيبة] [ص: 50]. سبق لأنيس الرافعي الاشتغال على الطقوس الجنائزية المرتبطة بنقل الأموات إلى مثواهم الأخير، وعلى الريباخا والعميان، والصدف العمياء التي تجعل حدثا ما غريبا يحتل مكان حدث ما آخر عادي ، والاشتغال أيضا على العاهات والدمى. يلزم القول أيضا بأن إحدى أسلافه في هذا السياق هو والتر بينيامين الذي كان مولعا بتجميع تماثيل الجنود الرصاصية الصغيرة والعديد من الألعاب وكتب عنها أيضا. هناك الفيل الطاعن في أحلامه أو هلوساته، الفيل المهووس بشكله … اندفعت تارة أزيل الحجر من حول جسمي إلى درجة التحول إلى حيوان من نفس سلالتي غير أنه يتميز أنه كان أصغر مني حجما وشأنا، وتارة أخرى أغور عميقا داخل هذا الشكل الذي جئت على تنفيذه حتى أصير حيوانا آخر شديد الضآلة والقزامة] [ص:64]. هذا فيل يعيش دون شك علاقته مع شكله كوعي شقي. هناك أيضا تلك البقرة الغريبة الأطوار، البقرة – الساردة التي تقول أرجو أن لا تذهب بكم الظنون مذهبا جانحا، أني مجرد بقرة قروية عادية كسائر البقرات المجترات، الضاحكات، واضعات الحلقات المعدنية في آذانهن… بل على النقيض من هذا، أنا بقرة مزودة بسبع أرواح، عابسة جدا، وغير ميالة بالمطلق لإرجاع الطعام، وغير مبالية نهائيا بتحفيز زوجي ضرعي المنتفخين لاستدرار الحليب الطازج] [ص:175]. إنها دون شك بقرة مختلفة جذريا عن منطق ) لقد تشابه البقر علينا. (أهم ما يميز حيوانات أنيس الرافعي المتوهمة هو أنها قابلة للتحول باستمرار وللانذغام في صيرورات حيوانية متنوعة، مثل البقرة التي تتحول إلى زرافة ، إلى طاووس وغراب وإلى فراشة ونسر وأرنب. لنستحضر في هذا السياق بأن سبينوزا الفيلسوف الهولندي كان مولعا بالتفرج على العناكب وهي تفترس الذباب الذي يعلق بشباكها، ولنستحضر صنافة حيوانات نيتشه، الحمار النسر الجمل الثعبان وغيرها ، ثم الحيوانات السياسية التي رأى ميكافيلي بأن “أميره” يجب أن يتحول إليها للحفاظ على سلطته، ثم ضيعة الحيوانات لجورج أورويل وغيره. اللافت للنظر في هذا العمل الخلاسي كما وصفه صاحبه، والذي يتعذر تصنيفه ضمن أي من الأجناس الأدبية هو الخلفية المعرفية واللغوية التي تسنده والتي منها بمتاح أسانيده، بحيث يبدو هذا السيرك العالم) بكسر اللام (شبيها باشتغال وثائقي عميق تدل عليها الشروحات والحواشي والتنبيهات الواردة كهوامش أسفل صفحات الكتاب. إنه كتاب ماكر، ذو نزعة نشكونية ، يبرز بشكل ملموس الثقافة الأدبية التي بلغها صاحبه وتذكرني إلى حد ما بمطلع إحدى أغاني بوب ديلان].
[Man gives names to all the animals in the biginning]هذا ما يقوم به أنيس الرافعي في [سيرك الحيوانات المتوهمة]، إنه يعيد تسمية الحيوانات انطلاقا من قدرته التخييلية الخلاقة لإنقاذها عبر حملها في سفينته. إنه أيضا سيرك الحياة، سيرك .التجاور الملغز بين الإنسان والحيوان، وبالتالي فهو سيرك العالم
Visited 25 times, 1 visit(s) today