المستشرق الاسبانيّ الكبير بيدرُو مارتينيثْ مُونتابيث.. وَدَاعاً
دردشة حول مقالٍ للفقيد مع نخبة من المُثقّفين اللبنانييّن
د. السفير محمّد محمّد خطّابي
كيف تغدو همجيات الحروب وقساوتها مادة أدبيّة؟ كان عنوان المقال الذي نشرته مخراً عن الأديب والمستشرق الاسباني الكبير الصّديق بيدرُو مارتينيث مونتابيث، الذي رحل عن عالمنا الارضي والتحق بالرفيق الأعلى، في عيد الحبّ 14 فبراير 2023 عن سنٍّ تناهر 89 عاماً، كانت تربطني به صداقة متينة خلال تقلّدي لمنصب المستشار الثقافي بسفارتنا بمدريد، ونظّمنا العديد من التظاهرات، والمنتديات، والملتقيات الثقافية والأدبية والشعرية معا ً فى إطار أنشطة (جمعية الصداقة الاسبانية – العربية) وفى مختلف المدن الاسبانية. كما كان مشرفاً على رسالة الدكتوراه التي أعددتها تحت توجيهه فى الأدب العربيّ والاسبانيّ المقارن فى جامعة مدريد المستقلة، أوائل الثمانينيات من القرن الفارط. اضطلع بدور كبير ومُميّز فى التعريف بالأدب العربي وضمنه الأدب المغربي بشكلٍ واسع فى اسبانيا وفى العالم الناطق بلغة سيرفانتيس والمعروف بمواقفه الثابتة إلى جانب القضية الفلسطينية وكل ّ الشعوب المقهورة.
حصل المستشرق “بيدرو مرتينيث مونتابيث ” على درجات الدكتوراة الفخرية من جامعات “جيّان” وغرناطة و”أليكانتي”، كما أحرز على لقب “شخصية السنة الثقافية لعام 2008″؛ و”جائزة التضامن مع العالم العربي من جمعية الصحفيين العرب في إسبانيا”. كما كان رئيساً بارزاً ونشيطاً في “جمعية الصداقة الإسبانية – العربية”، وكذا “للجمعية الإسبانية للدراسات العربية”. أسهم في إثراء مكتبة الدراسات العربية، وله العديد من الكتب عن تاريخ الاندلس وعن مختلف البلدان العربية، وقد نقل إلى لغة سيرفانتيس أعمال العديد من الشعراء العرب أمثال: عبد الوهّاب البياتي، ومحمود درويش، ونزارقباني، وللأديب اللبناني الذائع الصّيت جبران خليل جبران، والشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري وسواهم، يُعتبر رحيله خسارة فادحة للأدب العربيّ فى الديار الاسبانية .
كان المستعرب الاسباني الراحل المعروف «بيدرو مارتنيث مونتابيث» بالفعل قد نشر في الصحافة الإسبانية مقالاً أدبياً رصيناً بعنوان «في مزاد الموت»، وهو مستوحىً من استعاداتٍ لبعض أحداث الحرب الأهلية التي شهدتها لبنان في العقود الأخيرة، وركّز المستشرق الاسباني الحديث في مقاله على وجه الخصوص على الهجوم الذي كان قدمه له إقامة سفير إسبانيا في بيروت الذي لقي مصرعه رفقة الأديب القاصّ اللبناني توفيق يوسف عوّاد، فضلا ًعن وفاة إحدى بنات عوّاد في هذا الحادث المُؤسف، بينما عانت زوجة السفير الاسباني (وهي ابنة عوّاد الأخرى) من جروح بليغة جراء هذا الهجوم الهمجيّ. كان لهذا الحادث وقع كبير في لبنان منذ سنواتٍ خلت، ولكن لابد أنه – لفظاعته – ظلّ ماثلاً أمام العيان، يجثم بثقله على عائلتيْ كلٍّ من السفير الاسباني، والأديب اللبناني المعروف، وكذا على صاحب المقال المستعرب الاسباني بيدرو مارتينيث مونتابيث نفسه إلى أن فارق الحياة.
وكان الأديب اللبناني اللبيب الصديق جوزف جميّل قد كتب يقول في هذا الصدد: “من جديد تتحفنا الأديبة الصديقة مارلين وديع سعادة بقراءتها العميقة لمقال الأديب والباحث المغربي الدكتور محمد محمد خطابي حول الكاتب اللبناني الكبير الراحل توفيق يوسف عوّاد، وعن للمستشرق الاسباني المعروف بيدرو مارتينيث مونتابيث، قراءة في الصميم سلطت فيها الأضواء الكاشفة على أدبٍ كنّا ظنناّه قد أصبح منسياً وإذا المستشرقون يهتمّون به ويعيدونه إلى واجهة الثقافة العربية. شكراً للأستاذ الخطابي على بحثه القيّم. شكراً للصديقة مارلين سعادة على قراءتها المشرقة. شكراً للأستاذ جورج طرابلسي على رعايته الثقافية المتفانية. وإلى مزيدٍ من الإبداع والتقدّم في مختلف الميادين الفكرية والعلمية”.
وأجابت الأديبة مارلين عن هذا الإطراء الجميل الذي دبّجه بلديّها الأديب جوزف جميّل الذي وسمته بـ: “صديق الحرف ورفيق الإبداع”، تقول: شكرًا من القلب للدكتور جميّل على محبّته الصادقة وتقديره وتشجيعه الدائميْن. أضمّ صوتي إلى صوته لأزجي خالص الشكر والتقدير الفائق لكبيرنا عميد المفكّرين الأستاذ جورج طرابلي، وللصديق السفير الأديب الدكتور محمد محمد خطابي، أدامكم الله جميعاً، صداقتهم فخر لنا وشرف وسعادة.
فأجبتُ الأديبيْن اللبنانيين قائلاً: ماذا عساني أن أقول.. وماذا تراني أقول بعد هذا الفيض الهائل من اللطف الغامر، والنبل الزاخر اللذيْن غمرني بهما الأديب جوريف جميّل، والكاتبة مارلين وديع سعادة، والله، وبالله، وتالله، ولَعَمري- كما قال الجاحظ يوماً – : إنّ كلمات الإطراء تضيق بصدري فلا أعرف ماذا أنتقي منها لأنها تتدفّق، وتتسابق وتتلاحق دفعةً واحدة، لتفصح عمّا يجيش فى مكامن وأعماق هذا الصّدر من عميق الشكر وصادق الامتنان لكما عن هذا الإبهار، وهذا الإبحار االلذيْن هما فى الواقع انعكاس ورجعُ صدىً لما تعتمل فى نفسيْكما وفى قلبيْكما من جميل المشاعر االمترفة، ورقيق الأحاسيس المرهفة، ولا غرو، ولا عجب فكلّ إناء يرشق وينضح ويرشح بما فيه من كريم الصّفات والشيّم والشمائل، وحميد السّجايا والمزايا والفضائل.. المتجذّرة والمنحدرة لا محالة من أكرمِ جبلّةٍ، ومن أنقىَ نبعٍ، ومن أصفىَ مَعين.. والشكر العميق موصول للأديب الألمعيّ، والإعلامي البارز الأستاذ جورج طرابلسي الذي يسطع بيننا كواسطةِ عِقدٍ لهذه المحبة الخالصة، و هذا الفيض الغامر من الصفاء والنقاء. كالعادة سيادة السفير – وأنت خير من يحمل هذه الصفة وهذا اللقب- لم تنس أحداً، تهتم وتُحيي وترحّب بالجميع، ولا عجب فقلبك الكبير رحْبٌ واسعٌ مفتوح لكل الناس. أضمّ صوتي إلى صوتك، وكما تفضلت، الأستاذ جورج طرابلسي “يسطع بيننا كواسطة عقدٍ لهذه المحبة الخالصة” ، وجودك الدائم معنا هو لنا مصدر فرح وغبطة. أدامك الله”.
وكتبت الأديبة اللبنانية الرقيقة الأستاذة سهير شعلان أبوزيد في ذات السياق عن مقالي عن المستشرق الراحل تقول: “دمتم بهذا التفاعل الثقافي والتناغم الإبداعي سالمين، رائعين، صادقين! حقيقة مقالة “ثلاثيّة الأبعاد” للصديقة الرقيقة الأديبة مارلين سعادة فتحت لنا ساحة فكريّة على أبعاد متنوعة.. ثقافية وجغرافية وإبداعيّة وبالتالي نفسيّة راقية! تشابكت جميعها عبر علائق إنسانيّة بين أساتذة أمناء على الأدب ومعنيين بالوعي والفكر والذوق، غايتهم الجمال للجمال ليتبيّن لنا من خلالهم أنّ الجمال هو الانسان”، وأضافت: “الشكر العميق لكم جميعاً الأستاذ محمد محمد خطابي باحثًا ومبدعًا راقيًّا، الأستاذ جورج طرابلسي ناشرًاً وحاضنًا وراعيًا للثقافة، الدكتور الرائع جدًّا جوزف جميّل معلّمًا وداعمًا، والأديبة المتميّزة والمتألقة إبداعًا مارلين .. الشكر لكم على هذه المتعة الكبيرة التى تمنحونها لكلّ شغوف بالأدب وراغب في العلم”.
وكان عليّ ان أردّ التحية بمثلها فقلت: شكراً جزيلاً من سويداء الفؤاد الصديق الأبرّ… الأديب الأريب جوزف جميّل الذي يقطرُ أدبه، ويسيلُ شعره عطراً، وسحراً ، وفكراً وإبداعاً جميلاً… ولا غرو، ولا عجب فذاك الدرّ من معدنه، وذاك الاسم الكريمُ من أثله، ونابعٌ عن مُسمّاه، فالجمال اسمُه، والجمَال ديدنُه، والجمال إبداعُه ومرامُه ومرادُه… والذي يندّ حديثه الطليّ شهداً مُصفّىَ.. ويزدان بياناً مُقفّىَ.. كلماته مع خلاّنه، وأصدقائه، وأحبائه، ومحبّيه وما أكثرهم.. بلّورية المنزع، نقية، صافية، موفية مختارة، مصطفاة، ومنتقاة ككلمات بلديّاته، وأبناء طينته وجلدته فى الزّمن الغابر الجميل فى قرض الشّعر الجميل المشمولين برحمة الله بشارة عبد الله الخوري المعروف بالأخطل الصّغير، أو إليا أبي ماضي، أو ميخائيل نعيمه، أوعقل، الذين كانوا مثل جدّهم الأبعد فى فنّ الإبداع الخلاّق أبي تمّام الطائي… يختارون كلماتهم بالمِجهر، ويثقبونها وينظمونها فى العِقد النظيم كاللؤلؤ المَسُنون، ويرصّعونها فى الحَجر الكريم كالزُمرّد الموضُون… شكراً جزيلاً على إطرائك الجميل، وثنائك النبيل النابعيْن من صميم قلبك الطيّب الطهور، والمفعميْن بفيضٍ غامرٍ من الصفاء، والنقاء.. زدنا من نهل ما أفاء الله تعالى به عليك من عذب بيانك الذي تندّ به أفنان يراعك، وتزدان به أطراف بنانك.. ودم وأسلم فى الأعالي السّامقات جاراُ للنّجم الثاقب ، ومجاوراً للثريّا، والسِّماكِ الأعزلِ الذي حدّثنا عنه العبَسيّ وعن همّته العالية فى الأيّام الخوالي، وغابر الأزمان.
وأجاب الأديب جوزف جميّل يشير: في الحقيقة، يعجز اللسان عن التعبير، والقلم عن التحبير، والشكر الكبير، لفيض الدرر التي أطلقها عليّ سيّد الكلمة ومروّض المعاني الجامحة من عقال المغاني، التي ذكّرتني بمارون عبود وميخائيل نعيمة. كلماتك سيدي الناقد الألمعيّ د. محمد محمد خطابي فيها الكثير من الورد وعبقه الأبيّ، فيها سلاسة لغة الأمينيْن نخلة والريحاني، وبراعة الهمذاني، ورجاحة فكر الأصبهاني. فيها من التواضع ما يرفع صاحبها إلى مرتبة عالية من القداسة اللغوية. سلام لك صديقي الناقد صاحب السعادة، السفير فوق العادة، تزرع في قلوبنا وقلوب من عرفوك ّ شمائل الوفاء.
همجيّات الحروب وفظاعاتها
يشير الراحل بيدرو مارتينيث مونتافيث في مقاله إلى أنه لم يكن على علم بأن الأديب اللبناني توفيق يوسف عوّاد كان حمى السفير الاسباني السابق في لبنان، ولم يعرف بهذه القرابة إلا بواسطة الأخبار التي كانت قد تناقلتها آنذاك وسائل الإعلام والصّحف الاسبانية حول الحادث. يقول «المستشرق الاسباني مونتافيث» إنه تعرّف منذ زمن بعيد بواسطة القراءة على توفيق يوسف عواد الأديب اللبناني الرقيق الذي يكتب القصص منذ حوالي نصف قرن، والذي يحتل بكتاباته الرائدة مكانة مرموقة في بانوراما الأدب اللبناني والعربي المعاصر، على الرغم من طبعه الذي يميل إلى الصّمت، وانقطاعه عن الكتابة منذ مدة قبل وفاته في ذلك الحادث الإرهابي المؤسف الآنف الذكر .
يقول المستشرق الإسباني عن توفيق عواد: «إنه كان يمثل جمالية أسلوب الأدب العربي الحديث وفتنته، هذا الأسلوب الذي يجري على يراعه منساباً جميلاً تطبعه مسحة من الحزن والمعاناة والغموض، وتغلفه غلالة من الكآبة والقلق». وبعد أن يثني الباحث الاسباني على نوعية الكتابة عند الأديب اللبناني، يقول: هذه هي السّمات التي كانت تميز أكثر من كاتب لبناني ينتمي إلى جيله على وجه العموم .يقول مونتافيث إنه عندما قام بمراجعة جذاذاته وأوراقه ومراجعه ومظانه التي جمعها منذ سنوات خلت حول حياة هذا الأديب، وجد في تصريحاته التي كان قد أدلى بها إلى صحيفة لبنانية مرموقة، حيث يثير فيها موضوعاً مأساوياً ذا مغزىً عميق ما فتئنا نعيشه إلى اليوم، بل إنه ازداد تفاقماً وهلعاً وتوتراً في اتجاه غير معقول على مرّ السنين وتعاقبها إلى درجة التناوش والاحتدام اللذين عاشتهما، وما فتئت تعيشهما لبنان على وجه الخصوص، وكذا العديد من البلدان العربية والإسلامية في وقتنا الحاضر، وعن هذه الأحداث الدامية يتفتق، أو ينبثق ويُطرح سؤال لا يخلو من صعوبة وتوتر ونغوص وهو: كيف تتحول همجيات الحروب والاعتداءات الإرهابية ورعونتها وقساوتها وفظاعتها إلى مواد من مختلف الأصناف والأجناس والأغراض الأدبية؟ ويشير الكاتب الاسباني إلى أن الحروب الأهلية التي عرفتها لبنان في العقود الأخيرة، والتي تعاقبت على هذا البلد، ترجع جذورُها ودواعيها لأسباب داخلية وخارجية في آنٍ نظراً لعوامل متعددة منها طبيعة تنوّع فسيفساء المجتمع اللبناني الذي يتألف من أجناس وأعراق وإثنيات وديانات وطوائف ومعتقدات ومذاهب متباينة، ولهذا يعتبر هذا المجتمع من أكثر المجتمعات العربية تركيباً وتعقيداً، ومع ذلك فهو من أكثرها إشعاعاً وتميزاً، وإمتاعاً في مختلف الميادين الإبداعية فنّاً وأدباً وثقافة وشعراً وبحوثاً، وهذه التركيبة المجتمعية الغريبة في هذا البلد تعود لسنين بعيدة، نظراً للحضارات المتعددة والثقافات المتباينة التي تعاقبت وتواترت عليه، والتي انصهرت وتعانقت في بوتقة هذا المجتمع اللبناني المتعدد الألوان والأطياف كما نعرفه اليوم.
طواحين بيروت
كان الأديب اللبناني توفيق يوسف عوّاد قد نشر قصة له بعنوان «طواحين بيروت» نقلت إلى الإنكليزية تحت عنوان «موت في بيروت»، وهذه القصة كانت وكأنها تتنبّأ وتترصّد التطاحن الأهلي الفظيع الذي كان وشيك الحدوث، في ذلك الوقت، كانت هذه قصة «طواحين بيروت» تبدو في الحقيقة نوعاً من رجع الصّدىَ، أو إرهاصاً لما سيحدث، كما أنها كانت نتيجة صراع مسلح آخر حدث قبل ذلك بكثير مباشرة بشكل متواتر ومتشابك مرتجّ وصادم وهو حرب الستة أيام في شهر يونيو 1967. كان الأديب عواد مثل الآخرين يدين بشدة تلك «الحروب البليدة» التي كان الجميع مجرميها وضحاياها في آنٍ واحد. كما أنهم كانوا موضع لهوٍ فيها كما لو كانوا بمثابة أطفال صغار يعبثون. كان توفيق عواد ممّن يفكرون أن الوضع المتردّي كان نتيجة تدهور النظام، وبسبب الخلافات العقائدية والتخلف كان يقول: «تلك الحروب الهمجية العبثية تخلو من أي معنى، وليس لها أي نتيجة يمكن أن تنتهي إليها، إلاّ أن الثورة لم تكن قد بدأت بعد». كلمات مثل هذه صادرة عن لبناني مثله كان لها وقعها الخاص، ومدلولها العميق في المجتمع الذي يعيش في كنفه وخارج لبنان أيضاً.
نقعُ الأيام وعَجَاجُها
يرى المستشرق الإسباني بيدرُو مارتينيث مونتافيث من جهة أخرى أن العمل الأدبي المتألق عند عواد قوامه القصة على وجه التحديد. ويورد عناوين لبعض أعماله منها ديوان شعر بعنوان «قوافل الزمان»، و«غبار الأيام»، و«فرسان الكلام»، و«الصبيّ الأعرج»، و«مطارالصقيع» و«قميص الصوف»، و«العذارى»، وروايته «الرغيف»، وسيرة ذاتية بأسلوب روائي جذاب بعنوان: «حصاد العُمر»، هذه الأعمال جعلت منه خير من يمثل القصة اللبنانية في ذلك الإبّان ، ويعترف له بهذه المكانة المرموقة ناقد جيد معروف معاصر له وهو مواطنه وبلديّه سهيل إدريس.
ويضيف الباحث الاسباني مونتافيث قائلاً: إن القصة في لبنان، بل تقريبا في سائر البلدان العربية بشكل عام، كانت توجد في ذلك الوقت تحبو في مرحلة النهوض، أو على الأقل كانت في بداية الظهور بمظهرها المتماسك الناضج والمتين. ويصف مونتافيث أعمال توفيق عواد الابداعية بأنها ذات «ألوان محلية»، إلا أنها أعمال إبداعية رفيعة المستوى، جليلة الشأن نستجلي فيها ومن خلالها بوضوح الحسّ الاجتماعي والإنسانيّ البليغ الذي كان يطبع أعمال عوّاد، وجوانب مضيئة من التحليل النفسي. ويعتبر الباحث الإسباني قصة «الرّغيف» لعوّاد من الإسهامات الأساسية للرواية العربية المبكّرة وقتئذ، على الرغم من افتقارها الجزئي إلى تقنية وبنية القصة، بيد أن ذلك لا ينتقص من قيمتها إذا ما قورنت بقصص أخرى محلية في كل من سوريا والعراق وفلسطين ومصر وسواها من البلدان العربية الأخرى. ويشير الكاتب الاسباني إلى أن موضوع هذه القصة في العمق هو الحرب العالمية الأولى حيث عاشت بلاده مأساة وفظائع وأهوال هذه الحرب الضروس (كان الناس يموتون جوعاً في الطرقات)، كما أن هذه القصة تطفح بعاطفة متأججة وطيبة جياشة وهي ليست ذات بُعد لبناني صِرف، بل إنها تتخطى الحدود اللبنانية.
الصّداقة والصّديق وشجرة الأَرز
يحكي لنا المستشرق بيدرو مارتينيس مونتافيث أن صديقاً له من أصل لبناني عاش ردحاً من الزمن في اِسبانيا كان قد أهداه مرّة تذكاراً جميلاً علقه على أحد جدران مكتبته بمنزله، وهو عبارة عن قطعة خشبية جميلة مستديرة مكتوب عليها بخطٍّ بهيج ما يلي: «الصديق تنمو صداقته كنخلة، كشجرة الأرز في لبنان»! ونقول نحن معلقين على هذا القول الجميل: هذه الشجرة، بل هذه الدوحة الأسطورية السحرية، الأوروكية، والجلجاميشية لابدّ أنها ضاربة جذورها كذلك في عمق الثرىَ، ناشرة أغصانها المائسة اليانعة، وأوراقها الباسقة الخضراء، في عنان غابات أرز المغرب الشامخ سواء في جبال الأطلس الشاهقة، أو في مرتفعات وآكام كتامة الشمّاء في بلاد الريف الوريف أو في أيّ بلد عربيّ أو أجنبيّ آخر، وكلها تجسّد أو ترمز إلى معنى الصداقة الحقة، التي نحن أحوج ما نكون إليها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، ولكن: ما أكثر الخلاّن حين تعدّهم /ولكنهم في النائبات قليل!
حياة وأعمال توفيق عوّاد
درس الأديب اللبناني الراحل توفيق يوسف عواد رحمه الله (1911 – 1989) مبادئ القراءة والكتابة في قريته (بحرصا في – المتن – جبل لبنان)، ثم انتقل إلى كلية القديس يوسف في بيروت لمتابعة دروسه الثانوية التي أنهاها عام 1928 – ثم التحق بمعهد الحقوق في دمشق ونال إجازته منه عام 1934. عمل في الصحافة التي شكلت له منبراً خصباً للدفاع عن الحقوق التي درسها وتمرّس بها، وفتحت له المجال للتعبير عن موهبته الأدبية التي تفتقت منذ نعومة أظفاره، أسهم بقسط وافر كتابةً ونشراً وإبداعاً في العديد من الجرائد اللبنانية منها «العرائس»، «البيرق»، «النداء» و«القبس» ـ وأصبح رئيسا لتحرير صحيفة «النهار» البيروتية الشهيرة منذ تأسيسها عام 1933 حتى عام 1941، وفي هذه السنة أسّس عوّاد مجلة أسبوعية تحمل عنوان «الجديد» التي استقطب فيها المواهب الشابة، التي ما لبثت أن تحوّلت إلى صحيفة يومية. يتميز أدب توفيق يوسف عوّاد باغتراف إبداعاته ونهلها من واقع الإنسان اللبناني، ومن بيئته المحلية ليبلغ بعد ذلك عمق التجربة الإنسانية في شموليتها وأبعادها، وكان لثقافته الواسعة وتكوينه المتين أثرهما البالغان في صقل موهبته الأدبية وتفرد إبداعاته، وكانت منظمة الأونيسكو العالمية قد أوصت بترجمة نماذج من أعماله الأدبية التي اعتبرتها عن جدارة من آثار الكتّاب الأكثر تمثيلاً لعصرهم، مثل روايته الشهيرة «طواحين بيروت»، كتب القصة القصيرة الناجحة التي تعتمد على منهج التحليل النفسي والاجتماعي، وقال له الأديب اللبناني الكبير مخائيل نعيمه اعترافاً منه بذلك في رسالةٍ بليغة على أثر صدور قصته «الصبيّ الأعرج»، قال: «كأنكَ ما خُلقتَ إلاَّ لتكتبَ القصّة”.