المصحات الخاصة تحت مجهر مجلس المنافسة
عبد الحليم بنمبارك
خرج مجلس المنافسة مؤخرا أمام الرأي العام باستنتاجات مهمة وخلاصات صادمة حول وضعية المنافسة داخل السوق الوطنية للرعاية الطبية المقدمة من لدن المصحات الخاصة والمؤسسات المماثلة لها. وهذا الرأي، حسب المجلس، يأتي على ضوء تفعيل الإصلاحات الكبيرة ذات الصلة بقطاع الصحة ببلادنا وفي سياق تعميم نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض.
إن مبادرة المجلس بتسليط الضوء على فاعل أساسي في المنظومة الصحية ببلادنا يعتبر أمرا في غاية الأهمية ونقطة إيجابية تسجل لصالح مجلس المنافسة. فالمطلع على الرأي الصريح لهذا المجلس لا يمكنه إلا أن يثمن قيمته من حيث مضامينه الهامة ومخرجاته المثيرة، باعتباره جاء وكأنه ناطق بلسان المريض معبرا عن آلامه المزدوجة (صحة وتكلفة).
المجلس عرض علينا تقييما موضوعيا ودراسة تحليلية واقعية ورصينة حول بنية سوق العلاجات المقدمة من طرف هذه البنيات الاستشفائية الخاصة، السير التنافسي للسوق، تقديم حقائق إيجابية حول الدينامية التي سجلتها هذه السوق خلال السنوات الأخيرة، وكذا التجاوزات والممارسات غير المشروعة لهذه المرافق والاختلالات التي تحول دون اضطلاعها بدورها في المساهمة في النهوض بالمنظومة الصحية الوطنية.
مجلس المنافسة انتهى إلى مجموعة من الخلاصات أهمها:
- اعتبار المصحات الخاصة كجهات فاعلة رئيسية في سوق الرعاية الصحية؛
- اتسام التوزيع الجغرافي للمصحات الخاصة بعدم التكافؤ وغياب التوازن باستحواذ خمس جهات على 79% من المصحات الخاصة مع تسجيل خصاص كبير في هذه البنيات بجهات الجنوب والجنوب الشرقي؛
- عدم خضوع المصحات الخاصة إلى تتبع منتظم من قبل السلطات العمومية يؤكده عدم توفر وزارة الصحة على هيئة إدارية تابعة لها مختصة بتتبع هذه المؤسسات؛
- غياب إطار قانوني خاص بالمصحات الخاصة، الأمر الذي يشكل مصدر اختلالات ونزاعات ويفضي إلى تغيير فعالية ضبط سوق الرعاية الطبية المقدمة من قبل هذه المصحات وظهور عدة تجاوزات يتجرعها المرضى؛
- استمرار حواجز الدخول إلى سوق الرعاية الطبية المقدمة من قبل المصحات الخاصة والمتعلقة أساسا بتقادم التعريفة المرجعية التي لا تستند إلى تحليل للتكاليف الحقيقية للخدمات، غياب تحفيزات الاستثمار، ندرة العقار المخصص للتجهيزات الصحية مما يدفع المنعشين إلى البحث عن عقار تجاري أو سكني التي تتطلب مباشرة مساطر طويلة ومكلفة لدى المصالح الجماعية ومصالح التعمير. وهي إكراهات بنيوية تمس بالسير التنافسي لهذه السوق؛
- ندرة الموارد البشرية (الطبية وشبه الطبية) مما يؤدي إلى عدم إحداث مصحات خاصة في عدة جهات بالمملكة واللجوء غير القانوني إلى الأطباء والممرضين وغيرهم المنتمين للقطاع العام مما يؤدي إلى تحريف سير المنافسة في سوق الرعاية الصحية المقدمة من قبل هذه المصحات والتسبب في تغيير كبير في أداء وفعالية المرافق الاستشفائية العمومية؛
- عدم احترام القواعد المتعلقة بإشهار الاتفاقيات المتعلقة بالتأمين الاجباري الأساسي عن المرض والقواعد المرتبطة بالتعريفة المطبقة؛
- رصد عدة ممارسات تدليسية تتعلق أساسا باتفاقيات لاستقطاب العملاء أو المرضى، ممارسات متعلقة بشيك الضمان المحظورة بموجب القانون الجنائي، أداء خدمات غير مدرجة في فاتورة العلاجات، فرض فواتير تعسفية مقابل الرعاية، تضمين فواتير الاستشفاء فحوصات متعددة مفروضة على المرضى والإفراط في استشارة رأي الأطباء المتخصصين من طرف زملائهم، فرض الدخول غير المبرر للمرضى إلى غرف الإنعاش، زيادة فاتورة المبيت ليلا، فوترة الأدوية غير المستهلكة،استخلاص الطبيب المعالج، ودون وجه حق، لمبالغ مالية إضافية غير مدرجة في فاتورة العلاج، من تحت الطاولة، أو ما يسمى ب{النوار}، عمليات تحويل وجهة المرضى من المستشفيات العمومية إلى المصحات الخاصة، وغيرها من الممارسات غير المشروعة. هذه السلوكات أفضت إلى إرساء نظام محاسبة مزدوج من قبل المصحات الخاصة.
الواضح أن النتائج الصادمة التي انتهى إليها مجلس المنافسة وبسطها بكل شجاعة ومسؤولية، لاسيما في شقها المرتبط بابتزاز المرضى على حساب وضعهم الصحي، هي خلاصات نجدها تتردد، بحرقة ومرارة، على لسان كل مريض اكتوى ويكتوي بنار هذه الممارسات غير المشروعة ولم يجد من يصون حقوقه ومصالحه ويحميه من هذه التجاوزات المكلفة.
لتجاوز هذه الوضعية غير المريحة ومعالجة الاختلالات المرصودة، ولتحسين جودة الخدمات المقدمة وتقوية نطاق عرض الاستشفاء الخاص، قدم مجلس المنافسة مجموعة من التوصيات الهامة.
الملفت في توصيات مجلس المنافسة أنه حمل، وبشكل مباشر، الحكومة والنيابة العامة والعديد من الأجهزة والمؤسسات الإدارية (المديرية العامة للضرائب، وزارة الصحة، مصالح المراقبة بمختلف مشاربها، الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي،….) الوكالة الوطنية للتأمين الصحي وكذا الجمعية الوطنية للمصحات الخاصة بالمغرب والمجلس الوطني لهيئة الأطباء وغيرهم من الفاعلين في هذا المجال، المسؤولية الكاملة عن هذه الوضعية بتقاعسهم في تنظيم المصحات الخاصة وتأطيرها وتحسين تدبيرها وتنافسيتها وكذا بتجاهلهم للممارسات غير المشروعة التي يعيشها هذا القطاع والتي يذهب ضحيتها المرضى، وتذكيرها بدورها وبواجب ممارسة صلاحياتها المحددة بموجب القانون.
مجلس المنافسة قدم مقترحات عملية تقتضي الإرادة والجرأة لمباشرتها. ولعل أبرز نقطة مرتبطة بمسؤولية الحكومة تتعلق بمراجعة الإطار التشريعي والتنظيمي المؤطر لنشاط المصحات الخاصة (قانون 131.13) لضمان من جهة، تأهيلها والتسريع من وتيرة النهوض بها وتجاوز المشاكل التنظيمية التي يتخبط فيها مع ما يترتب عن ذلك من ممارسات غير مشروعة، ومن جهة أخرى التمكن من الاطلاع على المعطيات المتعلقة بأنشطة هذه المصحات التي تعتبر إلى اليوم غير معروفة مما يجعل من الصعب تقييم مستوى استغلالها.
ولضمان المنافسة في سوق الرعاية الصحية، حث مجلس المنافسة الحكومة على تطوير وتحسين وتوسيع نطاق عرض الاستشفاء العمومي، كما دعاها إلى تعزيز وتقوية أداء أجهزة المراقبة بمختلف مشاربها، وبشكل أساسي، تفعيل مقتضيات القانون رقم 31.08 المتعلق بحماية المستهلك، وذلك من أجل محاربة كافة مظاهر الاتجار في المرضى من خلال ضمان قواعد إشهار تعريفة الخدمات بالمصحات الخاصة وفرض فوترة واضحة ومفصلة للعلاجات والأدوية المستهلكة وغيرها، كما حث على محاربة الممارسة المتعلقة بشيك الضمان علما أن هذه الممارسة تقتضي تدخلا مباشرا من قبل النيابة العامة. كما أكد المجلس على ضرورة التنصيص على إلزامية التحمل الفوري للمرضى في الحالات المستعجلة مع ضمان شفافية الأعمال المراد إنجازها وتعريفتها.
وارتباطا بمجال الجبايات، أوصى المجلس بتعزيز المراقبة الجبائية وحث المصحات على إجراء افتحاص منتظم لحساباتها بهدف محاربة ظاهرة التصريح الناقص لرقم المعاملات المنتشر على نطاق واسع، على اعتبار أن المصحات الخاصة تقدم مساهمات جبائية منخفضة في حين لا يقدم عدد كبير منها تصريحات ضريبية صحيحة.
لا أحد يمكنه أن يشكك في دور المصحات الخاصة كجهة فاعلة ومكون مهم في سوق الرعاية الصحية وفي العرض الوطني للعلاجات الطبية، لكن هذا الأمر يقتضي من هذه المؤسسات إظهار مواطنتها وذلك بالتحلي بالمسؤولية والالتزام بضوابط وأخلاقيات مهنة الطب التي تحمل جميع المعاني الإنسانية السامية عبر تحسين جودة خدمات الرعاية الصحية والحرص على تحقيق الربح المشروع من خلال ضمان ولوج المواطنين إلى العلاجات بأسعار مدروسة وحقيقية وجعل مصلحة المريض فوق كل اعتبار.
في المجمل، تعتبر مبادرة مجلس المنافسة بإثارة هذا الموضوع الجد هام خطوة جريئة عرت من جهة، عن واقع مر وسلطت الضوء بوضوح عن اختلالات وتجاوزات عدة، كما سطرت توصيات تعتبر بمثابة خارطة طريق لتجويد أداء وتدبير هذه المنظومة الصحية.
فمجلس المنافسة، باعتباره مؤسسة دستورية، وضع المصحات الخاصة والمؤسسات المماثلة لها أما مسؤولياتها، كما جعل الحكومة/الإدارة والمشرع والنيابة العامة والقضاء بالإضافة إلى هيئة الأطباء، أمام تحد حقيقي للتعجيل باتخاذ كافة التدابير والإجراءات لمعالجة هذه الوضعية.
إنه ورش حقيقي من أجل إعادة النظر في المنظومة الوطنية الصحية،ومن بينها الرعاية الطبية المقدمة من لدن البنيات الاستشفائية الخاصة إلى جانب المستشفيات العمومية، باعتبار أن قطاع الصحة يمثل أحد ركائز الدولة الاجتماعية.
بإقدام مجلس المنافسة على خوض غمار مثل هذه المواضيع ذات الصلة الوثيقة بالمواطن، ودخول معترك قضايا مسكوت عنها من شأنه أن يعزز من مصداقية هذا المجلس ويرفع من أسهمه أمام الرأي العام الوطني التي طالما افتقدها، ويجعل منه مؤسسة دستورية فاعلة قوية قادرة على الزجر وعلى المساهمة بالرأي والمشورة والقوة الاقتراحية في العديد من المشاكل والقضايا ذات الطابع الاقتصادي والمالي والتجاري والتدبيري….