مأزق “الدولة الوطنية”!
حسن زهير
تابعنا جميعا كيف فرضت جائحة “كورونا”، في بدايتها، على الإنسانية كثيراً من العجز ونزعت عنها مظاهر القوة، التي ظنت أنها قد تسلّحت بها في العصور الحديثة، بعد أن كانت تعتقد امتلاكها القدرة الهائلة على مجابهة كل الآفات والكوارث والحروب والأمراض والأوبئة. لقد ظهرت الإنسانية، خلال تلك الفترة، أضعف من المتوقع، ومع الانتشار الواسع للجائحة بدت وكأنها تهدد الأمن والسلم والاستقرار داخل المجتمعات، وفي خضم توالي الأحداث وإحصاء الضحايا اتجهت الأنظار والتطلعات إلى الأنظمة الاقتصادية والسياسية لمؤسسات الدولة من أجل مراقبة تفاعلاتها وردود أفعالها السلبية والإيجابية، وهكذا توجهت الأسئلة الكبرى كلها صوب الممارسات والأجوبة التي قدمتها “الدولة الوطنية” لمواجهة الوقائع الخطيرة، واستيعاب التخوفات والرهانات التي أصبحت تجابه مؤسساتها القمعية والأيديولوجية. كل ذلك كان بهدف النظر في سلوكياتها، وفي القيم والمبادئ التي تقوم عليها لتحقيق توازناتها مع مطالب الأفراد والجماعات، التي تتحمّل مسؤولية تمثيلها أو حمايتها أو رعايتها.
إن الاهتمام الأعظم، إذن، فلسفيا، سياسيا، اقتصاديا وسوسيو-ثقافيا، كان قد وُجِّه نحو “الدولة الوطنية“ كمفهوم وكأنظمة وكسلطة وكآلية شمولية تتحكم في الاختيارات الاستراتيجية للمجتمعات. إن أبرز ما ثمّ ملاحظته وتسجيله عن الدولة الوطنية الحديثة هاته، في تعاطيها مع الفترة الصعبة من جائحة كورونا، هو اللجوء إلى وظائفها التقليدية، إذ ظهرت متمسكة بأساليب تعود إلى قرون ماضية من قبيل فرض العزل على المرضى والمصابين، بل وتعميمه على المواطنين شيئا فشيئا إلى أن وصلت إلى الحجر الكلي والتام. لقد تذكرت الدولة، هنا وهناك، أنها تحتاج إلى “عنفها المشروع” ليُمكِّنها من مراقبة كل شيء داخل حدودها، وكانت ردود الفعل تجاه ممارسة الدولة لهذا “الأسلوب التقليدي” متنوعة ومختلفة استراتيجيا ومرحليا، إذ طُرح الحديث، حينها، عن مآلات الدولة الوطنية مفهوما وهوية ومؤسسة، إضافة إلى الإشكاليات التي يفرضها عليها، أصلا، العصر الراهن من تحديات العولمة الاقتصادية إلى تفكك السيادة الوطنية، بل شاهدنا كيف تناسلت الأسئلة حول علاقاتها المصيرية بحرية الأفراد، وبالتضامن الإجتماعي وبالعيش المشترك داخل مجالها المحدد، إلى غير ذلك من المفاهيم الأخرى المرتبطة بها، والتي اقترح البعض، للإجابة عليها، العودة إلى أفكار كانت قد نُسيت أو تمّ الاعتقاد ببطلانها، كالاشتراكية أو “الدولة الحامية” أو “الدولة الاجتماعية” أو غيرها من المصطلحات القريبة.
تلك هي بعض الهواجس والأسئلة التي طرحتها “كورونا”، وستطرحها دون شك الأزمات المقبلة، حول وظيفية “الدولة الوطنية” وأنماطها وأدوارها ومفاعيلها، خاصة وأن العديد من تلك الجوانب تهم كل مواطن في صميم حياته اليومية، اعتباراً لكون مفهوم الدولة، في عصرنا، يحتل مكانة متميزة في التجربة الانسانية، ذلك أنه بقدر ما كانت الدولة توشك أن تغطي المجتمع بأكمله، بقدر ما أصبحت التجربة الإنسانية كلها تجربة سياسية مرتبطة أساسا بالدولة الوطنية؛ لكن اليوم في مجتمعاتنا الحالية: ماذا تعني هذه الدولة الوطنية، إذ يشاهد الجميع تفككها وفقدانها لكل فاعلية ونفوذ داخل مجالها المحدود، لأن الخوف كل الخوف هو أن الإنتماءات اليوم باتت تميل إلى المذهب، إلى العرق، إلى السلطة القبلية أو في أقصى تقدير إلى الفيدرالية الهشة، لا إلى الدولة الوطنية المركزية. إن التراجع الملاحظ في مفهوم الدولة الوطنية، اليوم، هو الذي دفع المفكر المغربي عبد الله العروي إلى التساؤل باستنكار عن البديل: “أهو اللادولة كإطار عتيق أم الدولة الأممية كما تخيّلها لها فلاسفة القرن الثامن عشر الأوروبي؟ “.
يكتسي السؤال خطورته عندما نتأمل و نرى مع الأستاذ العروي: “أن كل أزمات الأرض تُختزل في انحلال مفهوم الدولة الوطنية”، كما تبلور وتمثل في التاريخ الإنساني الحديث. هذا المفهوم الذي أصبح يعيش، في منطقتنا، مأزقا فعليا و خطيراً بين “مطرقة” الخارج التي تُضعفه و “سندان” الداخل الذي يُفككه.