سيمون دي بوفوار وعشاقها

سيمون دي بوفوار وعشاقها

رضا الأعرجي

   غالباً ما يتم استذكار سيمون دي بوفوار (1908) على أنها النصف الآخر من جان بول سارتر (1905) حيث شكلا معاً أشهر ثنائيين في تاريخ فرنسا الثقافي، لكن دون التخلص من النظرة الذكورية التي لا ترى فيها النصف الأفضل، حيث يكون هو الفاكهة الكاملة وربما تكون هي القشرة.

ظهرت أفكار بوفوار الأصيلة قبل لقائها سارتر، واستطاعت أن تطور فلسفتها الخاصة بمعزل عنه أو دون تدخل منه، وحين اكتشفت أنها تأخرت بالمشاركة في النشاط النسوي، اكتشف أيضاً قوة التزاماتها الأخلاقية التي تحولت إلى التزامات سياسية.

وسيرة بوفوار تؤكد أنها لم تكن تلميذة لسارتر بل نداَ له، وكثيراً ما اختلفت معه بعمق حول أفكاره وجوانب من فلسفته. سيرة عبارة عن تمرين يومي في التأمل والبحث الدقيق، ورفض المسلمات والتوصيفات البسيطة الجاهزة.

ولكن عندما توفي سارتر، أتى عدد قليل من الذين نعوه على ذكرها، وعندما توفيت بعده بستة أعوام، ظهر اسمه في جميع كتابات النعي تقريباً.

منذ سن الحادية عشرة، كانت بوفوار شابة ذكية تتمتع بالكثير من الحكمة وتفكر بالفعل بشكل فلسفي حتى أن والدها رأى أن لديها “عقل رجل”، وهو أمر ذو قيمة لدرجة أنه اقترح عليها أن تتزوج لأنها، في رأيه، لم تكن تتمتع بأناقة أو جمال أختها هيلين، أقرب شخص لها، إلا أنه شجعها على متابعة تعليم جيد، وكانت تدرس بجد، ونالت درجتها الأكاديمية بسرعة.

كانت مليئة بالشكوك لكنها قوية أيضاً، وتملك من القدرة ما يكفي للإصرار على وجهات نظرها. ومنذ أن كانت في الخامسة عشرة من عمرها شعرت بأنها ستكون كاتبة، وإن لم يعجبها دائماً هذا الطريق. وقد أشارت إلى ذلك في إحدى مقالاتها الأولى بقولها: لا أحد يريد الاستمرار بنفس الشيء طوال الوقت، ولا توجد لحظة في الحياة يتم فيها التوفيق بين جميع اللحظات.

ولم يكن تفانيها في كتابة الرواية ناتجاً عن شعورها بالنقص كمفكرة، بل نشأ من أفكارها لا سيما رغبتها في تحقيق “فلسفة يمكن عيشها”، وهي نشرت مذكرات وكتب رحلات ورسائل وسير ذاتية. وكان من الممكن أن تفكر في نفسها، وقد أتيحت لها مثل هذه الفرصة، بيد أن تفكيرها انصب على المرأة كما فعلت في أحد أشهر كتبها (الجنس الآخر).

في ذلك الكتاب الذي حطمت فيه أسوار المحظورات حين تحدثت عن أساطير النساء وتجاربهن الحية، وعن الجنسانية والجندر والسحاق والدعارة، أطلقت بوفوار مقولتها التي شقت الآفاق: “المرأة لا تولد امرأة بل تصبح امرأة“.

أدرج الفاتيكان كتاب (الجنس الآخر) على لائحة الكتب المحظورة، لكن هذا القرار لم يحل دون تداول الكتاب وانتشاره ليصبح مانفستو الحركات النسوية في كل العالم، وتصبح بوفوار أم النسويين. وقد مكنتها عائداته من شراء سيارة ومشغل أسطوانات.

حصل كل من بوفوار وسارتر على أول منصبين بعد اجتيازهما الاختبارات الصعبة لشغل وظيفة “معلم فلسفة” على المستوى الوطني. كانت تبلغ من العمر 21 عاماً، أي أصغر منه بثلاث سنوات. وفي الواقع، أصغر المتقدمين إلى تلك الاختبارات، كما كانت الثانية بعد سيمون ويل الفيلسوفة والناشطة السياسية لاحقاً، وقبل موريس ميرلو بونتي الذي سيغدو فيلسوفاً وباحثاً في قضايا المحسوس والجسد في التجربة الإنسانية.

وسرعان ما أصبحت علاقة بوفوار بسارتر “اتحاداً”، وغدا بالنسبة لها “الصديق الذي لا يضاهى” ولعل هذا هو السبب في صعوبة التحدث عنها أو عنه أو عنهما دون ذكر الآخر. لقد أمضيا حياتهما في التفكير والكتابة والعمل معاً. قرأت عمليا جميع أعماله، وأحياناً، كانت تكتب مقالاته، على رداءة خطها. ومع ذلك، كان من السهل الفصل بين تفكير كل منهما بشكل منهجي.

ووفقاً لما وصل من نتف مترجمة لكتاب “أن تصبح بوفوار”، لأستاذة تاريخ الفلسفة والثقافة في الجامعات البريطانية كيت كيركباتريك، كان كثير من النقاد يميلون إلى وصف بوفوار بأنها أكثر أتباعاً وإخلاصاً لسارتر، بينما لم تكن من أتباعه وليست مخلصة له، لا فكرياً ولا عاطفياً، ولم تغب ذكرى صديقها المخلص وحبيبها زازا عنها أبداً. وتقول: في حياتها، تزامن اختفاء الله مع محبة وموت زازا، وأن كلتي الخسارتين تركت أثراً واضحاً على حياتها.

كتبت دي بوفوار بإسهاب عن نفسها في مؤلفاتها ومنها (مذكرات فتاة رصينة) و(أنا و سارتر والحياة) و(قوة الأشياء) لكن هناك الكثير من الأشياء غير الواضحة تماماً، لأن صورتها قد تعرضت للتشويه، حتى من جانبها خصوصاً ما يتعلق بحياتها الجنسية. هناك من يعزو الأمر إلى التواضع أو محاولة الابقاء على الخصوصية، لكن الاحتمال الأكثر اقناعاً هو أن بوفوار قاومت فكرة أن تكون نموذجاً يحتذى به.

تشكلت الصورة العامة لبوفوار بل تشوهت بسبب قصتين الأولى من عام 1929، عندما التقت سارتر وعقدت معه “ميثاقاً” مبتكراً من المستحيل ربطه بفكرة الزواج باعتباره شكلاً من “أشكال حب البرجوازية التقليدي” وحيث “الأسرة هي عش الانحرافات” من وجهة نظرهما. كانت مدة “الميثاق” سنتين مع تفاصيل أخرى مثل قضاء إجازة شهري أكتوبر ونوفمبر في روما، وسيكون كل منهما “حب الآخر الأساس” لكن يسمحان لأنفسهما بـ “الحب العرضي” أي الحرية المطلقة باقامة علاقات حب مع الغير. والقصة الثانية، عندما قررت الافصاح عن أفكارها حول أخلاقيات سارتر، والتشكيك بقدراته الفكرية، ووصفه بأنه رجل شبه ميت، مدمن على المخدرات والنساء. وظلت الرابطة بينهما تتدهور لاسيما عندما تبنى سارتر أرليت، وهي مراهقة، واختيارها وريثة لحقوقه الأدبية.

عندما نُشرت مذكراتها والرسائل التي وجهتها إلى سارتر بعد وفاتها في عام 1990، لم تكن المفاجأة أقل: كان لديها العديد من العلاقات المثلية، مع من كن طالبات أو صديقات، وقد شاركتهن أحياناً مع سارتر.

كان سارتر يتمتع ببعض الشهرة حين التقته بوفوار، وكان قصير القامة وقبيحاً، لكنه كان أيضاً متعجرفاً شديد الاغترار والاعتزاز بنفسه، وكان اقتراح “علاقة مفتوحة” أمراً جيداً بالنسبة لها، لأنها لم تكن منسجمة معه تماماً، كما كانت مترددة في الابتعاد عن رجلين آخرين في حياتها العاطفية الحافلة بالرجال: ابن عمها جاك شامبينيول وزميلها الآخر رينيه ميهو.

في عام 1997 ظهرت رسائلها الموجهة لعشيقها الكاتب الأمريكي نيلسون ألغرين (1909 ـ 1981) الذي التقته عام 1947 في شيكاغو خلال جولتها التي استغرقت عدة أشهر لإلقاء محاضرات في الولايات المتحدة بدعوة من عدة جامعات أمريكية.

وفي عام 2004 ظهرت رسائلها لعشيق آخر هو جاك لوران بوست الذي حافظت على صداقته رغم علاقتها بسارتر خلال العقد الأول من اتفاقهما.

كان بوست الطالب وقتذاك والصحفي لاحقاً يبلغ من العمر 22 عاماً أما بوفوار فكانت في التاسعة والعشرين.

وثمة رسائل أعلن عنها في 2018 لمن يفترض أنه آخر عشاقها المهمين، والذي يصغرها بـ 18 عاماً، كلود لانزمان وهو صحفي وناشط صهيوني ومخرج الفيلم الوثائقي الشهير عن الهولوكوست، المحرقة. وكانت تخاطبه: طفلي العزيز، أنت حبي الأول المطلق الذي يحدث مرة واحدة فقط في حياتي، أو ربما لا يحدث أبداً!

كانت بين بوفوار وسارتر صداقة أكثر من حب

كان سارتر زير نساء غير مخلص، وكانت علاقاته النسائية “المتفرّقة” كثيرة ومتنوّعة، ومنذ وقت مبكر جداً من حياته حتى وفاته تقريباً. لم يكن يحب بوفوار كثيراً. لقد أحب الصغيرات، وفضل الإغواء أكثر من الجنس. لكن بالنسبة لبوفوار، كانت رغباتها الجنسية المبكرة بمثابة مشكلة.

من منتصف الثلاثينيات إلى أوائل أربعينيات القرن الماضي، أقامت بوفوار علاقات حميمة مع شابات أصغر منها سناً، وجميعهن كن من طالباتها، وقد تمت معاملتهن في نفس الوقت من قبل سارتر: الشقيقتان الروسيتان أولغا وواندا كوساكيويس، والبولندية بيانكا بيننفيلد والفرنسيتان ناتالي سوروكين وبيانكا لامبلين.

في هندسة الحب المعقدة هذه، توصلوا إلى أشكال أكثر تعقيداً من مجرد مثلث أو مربع: أصبح بوست الذي سبقت الاشارة اليه عاشقاً لأولغا، ولكي يسترضي سارتر غروره الجريح قام بإغواء أختها واندا، وانتقلت بيانكا من طالبة إلى حبيبة عندما بلغت من العمر 17 عاماً، وكان سارتر يغويها أيضاً. فيما قامت ناتاليا سوروكين بما يلزم لإغراء سارتر وكذلك بوست.

انتهى الحفل، وأسدل الموت الستار

توفي سارتر عام 1980..

وتوفيت بوفوار عام 1986 ..

وعلى الرغم من أن بوفوار كانت ملحدة، كانت تعتقد أنها رأت شيئاً يتجاوز الفكر والفلسفة، شيئا ميتافيزيقياَ: “موته يفرق بيننا، وموتي سوف يجمعنا”.

Visited 200 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

رضا الأعرجي

صحفي وكاتب عراقي