“ميلانين”: صرخة زنجية تونسية ضد التمييز العنصري
الشرقي الحمداني
رواية فتحية دبّش “ميلانين” الصادرة عن دار الكتاب (التونسية) سنة 2019 في 170 صفحة (جائزة “كاتارا لدورة 2020)، كان الأستاذ كزافيي لوفان Xavier Luffin عميد كلية الآداب والترجمة والتواصل بجامعة بروكسيل الحرة ULB أول من ذكرها لي السنة الماضية في أثناء جلسة عمل أكاديمي. رواية يهمني كثيرا موضوعها، ولم أوفق في العثور عليها لولا تفضل الكاتبة بإرسال نسخة منها بعدما علمت حاجتي الملحة إليها. نص سردي بديع في معناه، الذي يتناول “التمييز العنصري ضد الإنسان الأسود في تونس وكذا في فرنسا”، وهو أيضا نص جريء في مبناه الذي راود المستحيل بتجريب كتابة رواية متعددة الأصوات والمنظورات بلغة شاعرية في غاية الدقة والجمال.
1. هي رواية حاملة قضية، تعلن عن انتماء والتزام وجودي بمحاربة التمييز ضد ذوي البشرة السوداء ضمن مفهوم إنساني للهوية لا مغلق ولا جامد. تقول، في التقديم، بصوت الكاتبة ” هذه المساءلة ليست لي بوصفي تلك القادمة من الصحاري أحمل اسمي ومنفاي، فهي ليست سيرة ذاتية ولكنها سيرتنا جميعا، هي سيرة كل الذين دحرجهم التاريخ من ذات شموس إلى ذات ثلوج أو العكس” (ص8). هكذا ترسم الحدود بين الكتابة المباشرة عن الذات والكتابة الفنية التي تستثـمر مكوناتٍ سير-ذاتية لأجل تناول قضايا إنسانية عامة. وبهذا الاختيار تبين عن وعي فني وثقافي بالكتابة الروائية وعليه تؤسس نموذجا لطريقة بناء نداء من أجل هوية متحركة ومتحولة دون إيغال بعيدا في النهج الأطروحي.
2. يقتضي التقيد بإحدى قواعد الأدب الذهبية، التي تقول بأن “الأدب لا موضوع له”، الإقرار بصعوبة حصر موضوع هذه الرواية بكل يقين، اليقين عقيدة لا تليق بالأدب، هو الذي يفضل ألا تحده حدود ولا أن تقيده قيود. ولكن تردد عناصر تيـمـاتية في مجمل مقاطع الرواية، خلال السرد من باب التذكير أو التداعي النفسي والنقد الاجتماعي أو من باب حرص الكاتبة على إعطاء الحرية للشخوص للتعبير عن مواقفهم- التي هي في النهاية، بعد التركيب والتأويل، مواقفها- لأجل تجلية الموضوع من زوايا متعددة من خلال الحوار. أول تلك الموضوعات التمييز العنصري بسبب اللون و(الظلم الجندري)، وثانيها مسألة الهوية وعلاقتها بالوطن وسياق الهجرة، وإشكالات الحب والزواج في السياق الثقافي والاجتماعي العربي مقارنة مع الغرب، وتغريبة الجاليات العربية بالغرب مقارنة مع نظرائهم السود، والعلاقة مع مواطني الإثنية اليهودية، بالإضافة إلى قضايا أخرى من طبيعة أدبية تتعلق بالرواية عموما ومنجزها ونظريتها ونقدها الأدبي، ومشكلات السبرنطيقا والرقميات. كل هذا إضافة إلى إشكاليات ثقافية وحضارية في علاقة الشرق بالغرب ومفارقات ترتبط بالتركيبة الاجتماعية والنفسية للشخصية العربية، ذات تجليات سياسية وسلوكية، مقرونة برسائل عديدة ومواقف شتى تتجاوز المحلي والقومي إلى ما هو إنساني تتخلل مفاصل النص.
3. لعل عنوان “ميلانينMélanine ” يوجه بوصلة المعنى بشكل صريح نحو الموضوع الرئيس للرواية: لون البشرة الأسود. وبما في تكرار اللفظ من بلاغة التوكيد على هذه القضية بلغتين، العربية والفرنسية، ومن انفتاح دلالي على مقصدية صريحة وضمنية تمثل في الآن نفسه تفسيرا علميا وتعليميا لسبب دكانة لون البشرة واسوداده لمن لا يعلم، وردا مفحما لكل التباس أو لجاجة مما ظلت تنشره مصنفات الأدب الجغرافي من تفسيرات وتقاسيم تنميطية لدى ابن بطلان وابن خرداذبة وابن رسته وابن فضلان وابن الفقيه والإدريسي والبيروني والدينوري والقزويني والمسعودي والمقدسي والمقريزي والنويري وسواهم.
4. تعلن الرواية انتماء- السارد.ة، ومن خلالها الكاتبة- للون الأسود، ومصالحة مع الذات وممانعة وصراع من أجل الاعتراف والإنصاف. ومن أول صفحة تطالعنا جملة فيها مفارقة برزخية، مما تثير التوجس والترقب والحذر: ” البرد حارق خارج الطائرة، وجسدي الصحراوي لا يحتمل لسعاته”(ص11) وهي مفارقة تبعث التعاطف مع هذه الذات المنتزعة من جذورها وهي ترتمي في عزلة المفرد العاري المقرور. ثم تعيّن منبت ومحيط البطلة الجنوبي وتؤكده ” وأنا القادمة من قرية بعيدة بين بحر وصحراء” (ص13).
1.4 لا تتردد الرواية في إدانة الذات الإفريقية، أولا، بسبب ” صمت التاريخ على جرائمها في بيع أطفالها قديما للقوافل العربية ثم للبواخر الغربية واليوم على ظهور قوارب الموت] …[ وتحولت البضاعة السوداء إلى بضاعة ملونة ” (ص15). ومع توالي الأحداث نقف على تصريح يقربنا من غاية هذه الكتابة ” أطمح إلى فكرة العدل وإنصاف نفسي أولا وانتزاع هويتي من العالم..” (ص24).
2.4 فضح سلوك الإقصاء والتحايل في إخفائه: إذ نقف على الحيف المسلط على ميلانيــّي البشرة وعلى تحايل العنصريين لإخفاء عنصريتهم وتبريرها للضحايا بعبارات مراوغة ترددها الضحية”السبب يعود إلى مخالفتي الشروط في بعض تفاصيلها”. (ص42). نعود إلى ذكريات مُرّة ” تلك المرارة التي أورثنيها ذلك الاختلاف الذي لا أستطيع إخفاءه، بل أؤكده بأضمومة ضفائر إفريقية.] .. [ أكثر من مرة أباغث رأسي، وأنا طفلة، متلبسة بالسؤال الكافر: لم فعل الله ذلك ورضي به، أيكون الله عادلا وهو يبتلينا بلاء لا نملك له حولا ولا قوة، فلا نحن من الأسوياء مثلهم ولا نحن من ذوي الحاجات الخصوصية والعاهات كالأعمى والأعرج وفاقد العقل؟” (ص45).
3.4 ضد العنف والمواقف التمييزية: عنف ومواقف تصدر، أحيانا، عن نخبة المجتمع، وهي لا تنحصر في بلد مهما تقدم في سلم الحضارة، مما يستدعي ردود فعل مضادة، فهذا أستاذ جامعي فرنسي يمعن في التقصي والفضول: “سألني أحد أساتذتي الجامعيين عن جنسيتي. قلت: “تونسية”، اقترب مني وأضاف: “أقصد جذورك…” قلت في كلمة واحدة وبإصرار: ” تونسية”. لم يكن يخطر ببالي أنهم في الغرب أيضا يتقصون الجذور… قال: أقصد هل كان أبواك تونسيين؟ وأجدادك؟ يعيدني سؤاله إلى لوني، وكـأن سوادي يتعارض مع تونسيتي، الكل يعرف تونس العربية المسلمة البيضاء؟ هكذا تبدو في الكتب والصور، لا أثر للسود والبربر واليهود على الخارطة السياسية ولا حتى على شاشة التلفزة.” (ص68).
4.4 تسميات متعددة وجارحة لإنسان واحد: تلك هي الحالة التي تعرضها الرواية: ” أقلية نحن كما يقولون في فرنسا، ولكننا في تونس لسنا حتى أقلية مرئية، بل مجرد ظلال تستمد تاريخها من لغة الناس والشارع حين نسمع كلمات لا تثير حفيظة أحد، بل يستخدمها حتى السود فيما بينهم ( عبيد أو وصفان، شواشين) أو كلمة (عقيق) التي رغم ندرة استخدامها في الحيز العام إلا أنها لا تزال مرقونة على أوراق البعض الثبوتية، تسميات تعكس عنفا تصالح الجميع معه وما عاد يخدش حياء أحد، ولا احتجاجا من أي كان، وكأن الطبيعة والميلانين وحدهما المسؤولان على هذا التقسيم.” (ص69-70)
5. إمعان في القسوة والمساءلة يقابلها بحث عن جذور هوية وقع طمرها عمدا : تستعيد الرواية حادثة وقعت للبطلة من قبل بلغة تقريرية مباشرة ” ثم إن القسوة، كل القسوة هي أن يصر الآخرون على اختلافك، فلا تدري أين تضعه من النعمة أو النقمة، وأن يطمس التاريخ قصة أجدادك وألا يعلم المرء من شجرة عائلته أكثر من أجيال لا تعد حتى على أصابع اليد الواحدة…” (ص70) يمتزج في استعادة تلك الواقعة السرد بالحوار وكأن الزمن بقي هو ذاته زمن الواقعة مع ما يوحي به ذلك من ألم وقسوة كمن يتجرع سم حكاية ترضية لأنانية السائل المستمع المريضة. “قلت: تونسية أنا… وأبي تونسي أيضا… وكذا جدي… ولكن جدي قبل الأول، صحراوي من أرض السودان. أبوه تاجر بعير كان، وقد نسيته القوافل في الجنوب التونسي غرا بعد وفاة أبيه- في خلال الرحلة- مات كما يقول جدي إثر صراع خاسر مع بعض علل تسللت إلى مخدعه، كبر وترعرع في الصحراء بين رمل ناعم وشمس حارقة، تشققت أقدامه من الهرولة في المزارع والواحات إلى أن وقع تزويجه من إحدي الفتيات ومنهما تبرعمنا، ولم يبق من جدي الأول سوى لونه متدرجا بيننا، فحتى الاسم تغير.” (ص70-71). تصف الراوية الذهنية الطفولية لقلقي الهوية ذات نقاء الأصل المزعوم، بنقد ما بين الضمني والصريح، من خلال وقع الحكاية على السائل القلق وقد اطمأن على هويته المحصنة بما يبدو على طفل استمع إلى خرافة من خرافات الجدات. تقول” ومهما يكن فهي رواية مختلفة عن تلك التي قرأها صغيرا كأبناء العم توم، ومختلفة عما تقوله اللغة وتاريخ القوافل العربية والقوارب الغربية التي ساقت من السود أجيالا نحو (التحيين الهوياتي)” (ص71) إنها أدانة واضحة لجهتين تتحملان المسؤولية التاريخية في ما حصل ويحصل للسود من تمزق وشتات. هذه الإدانة يتحملها أيضا “التاريخ المكتوب – عنوة- يعمل حتى الآن على وأد ما ينام بين دفتيه من حكاياتنا الافريقية السوداء.” (ص71)
6. تنطلق الرواية في سرد حياة البطلة أنيسة عزوز (اسم فيه إحالة على البوعزيزي) من نقطة تمثل، زمنيا ومنطقيا، ما قبل النهاية لتعود إلى استذكار ما فات قبلها. ومن خلال مبتدإ الحكاية تذكرنا البطلة-الراوية ، وهي تستأثر بالحكي نيابة عن الكاتبة، بسفر سابق لها وهي تحت دهشة الاكتشاف “كبيرة جدا باريس وأنا القادمة من قرية بعيدة بين بحر وصحراء. عندما غادرت مارث إلى تونس العاصمة للدراسة في معهد الصحافة وعلوم الإخبار كنت أشعر بالتيه لفرط اتساعها واكتظاظها. هو الشعور نفسه الذي تلبسني وأنا أحط بطموحاتي في معهد الصحافة هنا قبل سنوات من اليوم.” (ص13) هذه المرجعية الذاتية تتضافر مع مرجعية موضوعية، ففي مدينة الأنوار يصدمها تذكير الناس لها بأنها مختلفة. وتقف لتحتج كيف لا يكون الربيع عربيا ولا إفريقياً. فالتاريخ وإن صمت يسجل “جرائمها في بيع أطفالها قديما للقوافل العربية ثم البواخر الغربية واليوم على ظهور قوارب الموت.. تحولت البضاعة السوداء إلى بضاعة ملونة”(ص15). توحي هذه البنية الدائرية للزمان في المحكي بعبثية التاريخ عندما لا يتقدم الإنسان نوعيا في تجاوز مشكلاته حتى وإن تغير المكان والسياق. ومن هذا نتبين جانبا من رسالة الرواية بأن التمييز ضد سودان البشرة يظل هو هو في شمال المتوسط مثل جنوبه.
7. وهي رواية تونسية بسياقها وبتفاعلها مع مستجدات البلد السياسية، تحتفي بثورة الربيع المجهضة، تروي قصة بناتها وأبنائها ذوي اللون الأسود وكذا قصة الأقلية اليهودية. تتبعهم من بلد المنبع إلى المهجر الفرنسي، وبه تفتح نافذة على المشترك المغاربي: تونسيون وجزائريين ومغاربة في نفس البوثقة هاجروا من بلدانهم من أجل شيء هو في نهاية العمر كالاّشيء، عاشوا حياة اللاستقرار والفقر في الهامش، يتأرجحون بين ضفتين في سفر وإياب.
8. ميلانين فضلا عن ما تزخر به من مضامين مختلفة تجعل منها كبسولة غاية في الكثافة بما احتوته من قضايا وأبعاد ورسائل، تحتفي بالشكل الفني للرواية وتبدع فيها. وهذا دليل وعي فني بصنعة الرواية، ووليد عمل متواصل مؤكد وتجريب بلا كلل، نجد له قرائن في هذه الرواية في طبقات من السرد، كل طبقة يتولاها سارد.ة، مثلما تتولى الكاتبة مهمة التأليف. تقوم السارد.ة بدور المايسترو الذي يوزع الأدوار بين شخوص الرواية، وكأننا أمام جوق موسيقي يعزف بالتزامن ثم بالتناوب ما سطره المؤلف والملحن. نحن إذن أمام مستويات من السرد تمثل مرصوفة من عناقيد قصصية تتجاور وتتتابع ثم تتلاحم وتتشابك محتوية بعضها بتناوب محكم.
8. هي رواية، كما سبق القول أعلاه، تجريبية بل نضيف، عالمة وتعليمية، تروي لأجل الاستدلال والإقناع بقضية، وتعلم معنى التجريب في كتابة الرواية، بل هي تعلم القارئ كيف يقرأ ويـميز بين طبقات من السرود والرواة. تتوسل الكاتبة “حيلة فنية” بعد اختيار تقنية ” اليوميات” قصد الرجوع إليها كلما استدعت بلاغة السرد ذلك. تفتح دفترا فتعثر على مخطط رواية باسم ( ملف رقية) مستوحى من تدوينات صفحة فايسبوكية لأنيسة عزوز. وأمام الملف تطرح “معضلة الكتابة بين مطرقة الرقمية وحينيتها وسندان ثقافة الرقيب والممنوعات المتعددة التي تتحكم في القول وطرائقه.”(ص26) وبتفكيرها في مقولة R.Barthes البنيوية عن موت المؤلف تنحت مقولتها الخاصة بــــ” قتل البطل وقتل القارئ” وعن الكتابة باعتبارها “نوعا من الجنون” أو “نوعا من الانتصار” أو عن ” أنانية الكتابة التي لا تحتمل الشريك”. هكذا تنتقل بنا الرواية نيابة عن الكاتبة في تأمل فعل الكتابة وفلسفته. تهمس وتوضح بأننا ” نتوهم كثيرا عندما نفكر بأن الروائي هو صانع الرواية. إنها في الحقيقة تصنعه، تعريه وتتحداه تكشف قوته وضعفه..” (ص32).
9. وهي رواية تبدي رأيا ذوقيا وأدبيا في حق روايات أخرى سابقة بل تساهم في مناقشة التنظير للرواية. تقول” أستحضر استهلالات موسم الهجرة إلى الشمال، الغريب، المزحة، الياطر، شرق المتوسط وغيرها من الروايات الحبيبة إلى ذائقتي، ولكنني أعود دائما خالية الوفاض. لا توجد نظرية خالصة ولا استهلال خالص. كل رواية تستهل نفسها بنفسها وكأنها تتحدى الكاتب نفسه وهو خالقها.” (ص49). هذه المقتطفات تدل على وعي الكاتبة بأن” الرواية جنس لم يكتمل بعد”.
10. هذا الوعي بإشكاليات الكتابة عموما والكتابة الروائية خصوصا، جسدته الكاتبة فعليا بالخوض في موجة التجريب والدفع به إلى أقصى الحدود مما يجعل من روايتها أنموذجا لما مافوق-الرواية Méta-roman، رواية تروي وتناقش ما تروي من الناحية الجمالية والفلسفية. لنقرأ هذا الحوار بصوت شخصية رقية القايد وأحد الرواة بشأن الراوية الناظمة والتي تمثل شيئا ما الكاتبة، تقول:” تبحثين عن قدَر تصنعينه لك، لتجعلي من اختلافك سبيلا لائتلافك في مجتمع ما زال يعرفك بلونك وكأنك بلا اسم. قدر تصنعينه لك قبل أن تصنعيه لي دون أن تفقهي أنك لا ترين غير ما أمنحه لك، ورغم ذلك فإن هناك خيطا يربط بينك وبيني، هو ذلك الهاجس الخفي الذي يرسم رحلة الإنسان بين الرضوخ والوعي بالذات…”(ص84) أو كما يكشف هذا الحوار: ” أنا فقط لا أحب أن أمارس الغباء ثانية، ولا أن أتحول إلى مجرد دمية تحركها أنيسة عزوز كما كان يحركها سهيل. لا أرغب في أن تكتبيني فأنت لست أنا! مهما تتبعتني ودسست أنفك في أسراري، تظلين مجرد راوية لروايتك، ولا أرضى أن تحمليني رسالتك، ولا أن تحملي قدري عني. فالكتابة قدر وكل يحمل قدره.” (صص87-88).
11. ويبلغ مستوى العلم بالرواية وتعليمها أقصاه حينما تتحول الرواية إلى “رواية داخل رواية”، نقرأ بعد مشهد تعريض شخصية رقية للدهس :” تخفت الأصوات برهة ثم تتعالى، وأنا بين الأجساد أتسسل في ذهول، يربكني هذا الجمع المتجمهر دون تخطيط مني وهذا التحول المفاجئ في الأحداث، صار الجميع يتلاعب بي، يهتك إرادتي في سير الأحداث إلى حيث أريد ويضطرني للحذف أو الزيادة…”(ص55).
12. تمارس الرواية نقدا اجتماعيا للذات الجمعية، من خلال مناقشة صعوبة اندماج أفراد الجاليات العربية المسلمة في فرنسا، بصوت زميلها نيكولا الطالب الفرنسي، يقول إنهم “ظلوا متمسكين بعاداتهم القبلية وبأفكارهم الخرافية…ساقهم إليها الفقر والجوع حتى إذا شبعوا تنكروا لبلد آمنهم من جوع…بخلاف السود.”(ص17). وهو نقد يتسع ليشمل البنية النفسية لإنسان المجتمع الشرقي، إنسان الجنوب المصنف غنيا في مجال القيم الروحية حيث نقف على فقره المزدوج روحيا وماديا، فلا وجود لمشاعر الحب وسلوكاته خارج مؤسسات المجتمع التقليدية الكئيبة. فهذا الإنسان يحمل معه عاهاته حيثما انتقل ومهما تبدلت أحواله لا تتغير عقليته، يظل يجر خيمته وقبيلته فهي حماه. ” كل شيء يكشف ذلك الارتجاج الساكن جماجمنا، نحلم بالحرية ونهابها، نبرع في خنق أنفسنا والغير، نحلم بالصوت ونستمرئ الصمت، جميعنا نختفي وراء هدأة التلقين ننتظر أن تتغير أقدارنا بعصا سحرية.” (ص52).
13. ومن الجوانب الفنية الأخرى التي تثير الانتباه، الانشغال بتوزيع السرد على أصوات متعددة، تتقاسم فيها الشخوص عملية السرد فتتحول من أداء دور في القصة إلى رواة على نفس الدرجة من الأهمية الممنوحة للسارد الناظم الذي يتحول إلى شخصية محكية بل شخصية تتم مناقشتها في موقعها واختياراتها داخل نسيج النص والخطاب، تقول ” لا أرغب في أن تكتبيني فأنت لست أنا؟ مهما تتبعتني ودسست أنفك في اسراري، تظلين مجرد راوية لروايتك، ولا أرضى أن تحمليني رسالتك، ولا أن تحملي قدري عني.”(ص88) وهطا من جوانب القوة في هذا العمل نخصه بفقرة لاحقا ضمن هذه الورقة.
14. تمت صياغة هذه الرواية بلغة عربية جمعت بين انتقاء الألفاظ الدقيقة المعبرة والمطابقة للمقام وأساليب مبتكرة في تركيب الجمل السردية ومناوبتها ما بين الوصف والحوار. الحوار الذي حرصت فيه على نقل المثاقفة والازدواج اللغوي اللذين يقتضيهما سياق المهجر، فجاءت الحوارات باللغتين العربية، بدوارجها المغاربية، مترادفة مع نظيرتها الفرنسية، مدرجة بدورها، لنقل الشحنات التعبيرية والمواقف التي يقتضيها المقام موضوعيا وفنيا. فضلا عن ذلك، تتخلل معظم مفاصل النص مقاطع، بل صفحات شعرية من الروعة بمكان، حتى لنكاد نجزم بخلاسية نصين سياميين تلتف فيهما شعرية الروح بنثرية الحياة.
15. وبما أن الرواية عالمة، كما سبقت الإشارة، فهي تحيل، صراحة وضمنا، إلى مرجعيات ثقافية، منها أسماء أعلام كتاب وفنانين وموسيقيين ورسامين وعناوين كتب، منها: موسم الهجرة إلى الشمال، الغريب، المزحة، الياطر، شرق المتوسط، جوزفين بيكر، بوردالو، جورج صاند، فيروز، إيديث بياف…
حاولنا في هذه الورقة تقريب رواية ميلانين وبعض قضاياها الأساس مع بيان أوجه قوتها على مستوى التناول الفني وما عبرت عنه من وعي بصنعة الرواية حيث استطاعت أن تقارب قضية التمييز العرقي على أساس لون البشرة الأسود. وهي بلا شك من الأوائل الذين أعلنوا الانتماء إلى هذا المكون الزنجي الإفريقي، تستحق عليه التنويه والإشادة. وقد وفقت في جعل هذا اللون ميسم انتماء وهوية، تقول “حمرة دمي الممزوجة بسواد الوشم…تلك الرسوم البربرية التي خطت بعناية على زندي”(ص98). وبمشاعر لا تخلو من تشاؤم وفجيعة ترثي الحال، فتقول: ” وحده السواد ينتشر على الوطن ويكفننا”(ص107) كما ترثي المؤسسات التي يعول عليه المجتمع لنشر التنوير ودفع قاطرة التقدم إلى الأمام ” حتى الجامعة صارت عشا للغرابيب السود…لا أحد كان ينتظر أن يكون رذاذ ربيع الياسمين حمما…”(ص107).
Visited 34 times, 1 visit(s) today