عَوْدٌ والعَوْدُ أَحْمَدُ
نجيب علي العطار
لو أرادَ مُريدٌ أن يَعمدَ إلى مِعيارٍ يُعيِّرُ به، أو مقياسٍ يَقيسُ عليه، مرونةَ العقلِ الإنسانيِّ، أو البَشريِّ على وجهِ الدقّة، فإنّه، أيِ المُريد، في حاجةٍ، شِبهِ ضروريَّةٍ، لأنْ يأخُذَ بعَيْنَيْ الإعتبارِ عاملًا أساسيًّا يُمكنُ أنْ نَصوغَه بأنّه؛ «استجابةُ العقلِ البَشريِّ للمُفارَقة»، بحيثُ تزدادُ مرونةُ العقلِ البَشريِّ كُلَّما ازدادَتْ قُدرتُه على الإستجابة الصَّحيحةِ للمُفارَقةِ وتجلِّياتِها. وإذْ نترُكُ المُريدَ، لصفحةٍ لا أكثر، في مَشغَلِه الذِّهنيِّ، إذا جازَ التَّعبيرُ، فلْنُبقِ بينَ طَيَّاتِ مَشاغِلِنا الذِّهنيَّةِ أنَّ إحدى سِماتِ العقلِ السَّليمِ هي «إدراكُه للمُفارَقةِ»، ويُقابلُها في العَقلِ الخَبيثِ «ممُارسةُ المُفارَقة» إذا جازَ التَّعبير. وإذا صحَّ أنْ نَنْسِبَ إلى أرضٍ دونَ سِواها اتِّسامًا بكَثرةِ المُفارقاتِ وتناسُلِها واعتِياشِ النَّاسِ علَيْها، فنقولُ أنَّها «أرضُ المُفارقات» أو ما يُعادلُها معنًى واصطلاحًا، لَمَا كانَ في هذه الأرضِ مِن أرضٍ أحقُّ مِن «لُبنانَ» بهكذا نِسبة.
ثَمَّةَ في «لُبنانَ» ما يُمكنُ أنْ نَصطَلِحُ عليه بـ «مُفارَقةِ الشَّيطان». وعِلَّةُ الإصطلاحِ أنْ ثَمَّةَ شَيطانٌ، بالجَمعِ مرّةً وبالإفرادِ مَرَّاتٍ، يَعبثُ بكُلِّ ما لا يجوزُ به العَبَث. ورَغمَ أنَّ التَّخصيصَ جائزٌ هنا، إلّا أنَّه ليسَ مِن بابِ التَّخصيصِ أنْ يكونَ الحديثُ عنْ «شيطانٍ»، بالإفراد، بدلًا من «شَياطينَ»، بالجَمعِ أو بالتَّجميعِ بلُغةٍ «ثَورَجِيَّة». ولعلَّ مَرَدَّ عَدَمِ التَّخصيصِ هو أنَّ «لُبنانَ» لا يزالُ على سِيرَتِه الأولى؛ ثُلَّةَ طَوائفَ طَوَّافةٍ بهذا الـ «لُبنانِ» ذاتَ الشَّرقِ وذاتَ الغربِ وذاتَ الـ «ما بينَهُما». على أنْ لا يُنسى، وبعضُ النِّسيانِ إجحافٌ، أنَّه ثمَّةَ منْ يَطوفُ بـ «لُبنانَ» طَوافَ السُّكارى وثَمَّةَ من يَطوفُ به طَوافَ مَجنونٍ يُمارِسُ جُنونَه عن وعيٍّ منه. وثمّةَ أيضًا، والعُهْدَةُ على الـ «مَحْمَلِ الحَسَن»، من يَطوفُ حولَ لُبنان طَوافَ العابِدينَ الذينَ لا تخلو أرضٌ مِنهم وإنْ نَدَرُوا.
عَوْدًا على شَيطانِنا، وليس العَوْدُ ههنا بِأَحْمَدِ، وببعضٍ من المُقابلةِ، أو المُقارنةِ، بينَ «شَيطانِ القرآنِ» و«شَيطانِ لُبنان»، إذا جازَ التعبيرانِ، يتبيَّنُ أنّه لا فارقَ يُعتَدُّ بدلالَتِه على الفَرْقِ بين الشَّيطانَيْن الآنِفِ ذكرُهما. فأما وقد خَلا كُلُّ شَيطانٍ بحزبِه، وخلا شيطانُنا بِنا ولَسْنا بحِزبِه، وتَوَلَّانا ولَسْنا بأوليائه ولا هو بوَلِيِّنا، وإذْ يَرانا هو ومُخبريهِ مِنْ حيثُ لا نراهُم، واستحوَذَ علينا فأنسانَا ذِكرَ لُبنانِنا وأَضلَّنا عنْه بعدَ إذ جاءَنا، فإنّه لم يزَلْ، ولعلَّه لن يزالَ حتّى يزولُ، يُمَنِّينا، ويَمْتَنُّ عَلينا، بشَجَرَةِ الحُكْمِ ومُلْكٍ لا يَبلى، ويَعدُنا المَفازَةَ أنّى خُضْنا، وما يعِدُنا إلّا الفَقرَ وما يأمُرُنا إلّا بما فَحُشَ عندَ أهل التَّقوى والفَحْشَاءِ على حدٍّ سَواء. ولم يزل يُزيّن لنا أعمالَه، وأعمالَنا، ويقولُ «لا غَالِبَ اليَوْمَ مِنَ النّاسِ وإنِّي جَارٌ لَّكُم» و«لا أُرِيكُم إلَّا ما أرى»، ثُمَّ يومَ الْتَقَى الجَمْعَانِ نَكَصَ لِسَانُه على عَقِبَيْه وقالَ، داريًا أو غَيْرَ دَارٍ، «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أرى ما لا تَرَوْن». ثُمَّ تَرَكَنا نَهيمُ على وجوهِنا في كُلِّ بَلَدٍ، لا نقومُ فيها إلّا وهو يتخبَّطُنا مِنَ المَسِّ، كأنّه إذْ قالَ للّذينَ توَلَّوْه اكْفُرُوا فلمَّا كَفروا قال؛ «إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين». وهو، إذ يُلبِسُ آذانَنا، آناءَ اللّيلِ وأطرافَ النَّهارِ، مِنْ سُنْدُسِ المَبادئ وإسْتَبْرَقِ القَضايا، وإنّما يُريدُ أنْ يوقِعَ بينَنا العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ في المبادئ والقضايا، ونحنُ لا وِجْدَانَ لِعَزْمٍ فينا فلم نزلْ نَعبُدُ ما أوجَدَهُ آباؤنا.
ومِنْ إحدى الكُبَرِ أنْ لا فارقَ يُترَكُ ولا فَرْقَ يُدرَكُ بينَ الدِّينِ والسِّياسةِ على هذه الأرض. وفي «حَضرةِ غِيابِ» الفارِقِ، بعدَ الاستِئذانِ من محمود درويش، تَمَّحي الهُوَّةُ الهائلةُ، افتراضًا، بين القَداسةِ والدَّناسةِ، وبين الدّناسةِ والسياسة، وبين رَجُلِ السّياسة و«رَجُلِ الدّين»، وبينَ دينِ الإنسانِ و دينِ الشَّيطان، فيُصبِحُ الشَّيطانُ مُقدَّسًا، وإذ لا تَقديسَ بِلا دِينٍ، يمّحي الفارقُ بينَ «رَجُلِ الدِّينِ» ورَجُلِ السِّياسةِ والشَّيطان، ويتجلَّى الثَّلاثةُ في واحدٍ مُشكّلينَ ثالوثًا مُدَنَّسًا ومُدَنِّسًا على حدٍّ سَواء. وأمام هذا الإمّحاءِ ليسَ ثَمَّةَ كَبيرُ فَرْقٍ بينَ أَلوانِ العِمامةِ الدِّينيَّةِ أو السِّياسِيَّة، وإنْ كانَ قُربُها للأَسْوَدِ أولى من قُربِها لغيرِه من الألوانِ، وعلى حدِّ تَعبيرِ أَحَدِ المَغضوبِ عليهم؛ «سُودُ العَمائمِ والنَّوايا والهَوى… أمَّا القُلوبُ فسُخْمَةٌ وسُخَامُ»، مع مُطلقِ التَّقدير للَّونِ الأَسودِ وما فيه مِنْ سِحْرٍ كفَرَهُ العَبَثُ الحاصلُ فيه مُذ خافَ الإنسانُ منَ اللَّيلِ للمرَّةِ الأولى.
واستدراكًا على شِعرِ الشَّاعرِ أعلاه، لا يُنسى، وهذا يَصحُّ أيضًا في حضرةِ الهُوَّةِ الضَّروريَّةِ بينَ الدِّينِ والسِّياسةِ، أنَّه ليستِ العِبرةُ في لَونِ العِمامة سواءً كانتْ سَوداءَ أو بيضاءَ أو خضراءَ أو حتَّى بألوانِ قَوْسِ قُزَح، وإنَّما العِبرَةُ، التي يُعتبَرُ منها، في الرَّأسِ الذي يحمِلُ هذه العِمامة، وعلى وجهِ الدَّقة؛ العِبرةُ، كُلُّ العِبرةِ، في ما في هذا الرَّأسِ من عقلٍ، وما في هذا العقلِ من قلبٍ، وما في هذا القلبِ من سَلامة.
وعَودًا على صاحبِنا المُريدِ، ورُبَّ عَوْدٍ يُحْمَدُ، وأما وإنَّ الحَمْدَ حَمْدٌ والشُّكْرَ شُكْرٌ، يَقولُ المُريدُ؛ «… وعلى ذِمَّةِ اللُّبنانيين، ذَكَرِهِم وأُنثاهُم، وعلى حدِّ قَوْلِهم وفِعلِهم؛ الحَمْدُ للهِ والشُّكْرُ للشَّيطان».
Visited 4 times, 1 visit(s) today