عودة إلى انتفاضة مايّو الطلاّبية 1968 في ذكراها 55: كانَ يَا مَا كَان في غابِر الأزمَان والأوَان!
د. محمّد محمّد خطّابي
أخبار ثورة أو طفرة أو أحداث أوانتفاضة مايو الطلاّبية الفرنسية 1968، التي نعيش ذكراها الخامسة والخمسين هذه الأيام، كان لها تأثير سحريّ فوريّ وبليغ حين وقوعها على الطلبة، والمثقفين على اختلاف جنسياتهم، ومشاربهم، واتجاهاتهم، وانتماءاتهم الحزبية، والسياسية، والمذهبيّة في مختلف أنحاء المعمور، وصلتني أخبارُها وأنا أتابع دراستي العليا فى القاهرة في تلك السنين الصعبة والعصيبة التي تلت نكسة يونيو 1967 التي هدّت كياننا، وقضّت مضجعنا، و”لخبطت” عقولنا، تتبّعنا أخبارها المتواترة عن كثب بواسطة وسائل الإعلام العربية والعالمية المسموعة والمرئية، وما كان يكتبه آنذاك عنها في الصحف المصرية كتّاب وصحافيون معروفون في ذلك الإبّان من قبيل محمود أمين العالم، ومحمّد حسنين هيكل، وأنيس منصور، وموسى صبري،ولويس عوض، وجليل البنداري وآخرون.
انتفاضة غيّرت وتيرة الأجيال
على الصّعيد الجامعي في مصر المحروسة عمد إتحاد طلاّب جامعة عين شمس التي كنت أتابع دراستي في آدابها على وجه التحديد إلى تنظيم وقفات حاشدة فى ساحات، وباحات، وحدائق هذه الجامعة الفسيحة تضامناً مع الطلبة الفرنسييّن الذين فجّروا هذه الإنتفاضة دعماً وتأييداً لمطالبهم المشروعة والعادلة، إلاّ أنّ هذه التجمّعات الطلابية التي طبعها حماس منقطع النظير في بدايتها سرعان ما إنفضّت وخبَا أوارُها بعد تدخّل المسؤولين الجامعيّين، ومَنْ كان متخفياً تحت لوائهم من المخابرات المصرية النشيطة آنذاك التي كان يطلق عليها لقب (زوّار الفجر) والتي كان لها حضور مستور كبير، ومداهمات غير مُنتظرة، ونشاط ملحوظ في كنف الحرم الجامعي في مختلف المدن المصرية مخافة أن يتحوّل مسارُ هذه الإنتفاضة لمطالبات وأهداف وغايات أخرى غير محمودة في عُرفهم ومفهومهم.
كنّا لمّا نزلْ فى عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ذي الكاريزما الخاصّة، الذي كان يلهب حماس الجماهيرالمصرية والعربية التي كانت تعيش في مصرآنذاك بخطبه المطوّلة الرنّانة، كان أبناء بلده يسمونه بـ: (الريّس الفلاح) وقد أكّد ذلك العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ عندما غنّى أغنيته الحماسية عنه التي كانت تحت عنوان (ريّسنا فلاّح).. كان رجلاً طيّب الذكر عند البعض، وسّئ الذكر عند آخرين.
ما زلت أذكر أنّ “اتحاد الطلبة المغاربة” نظّم بمقرّه الكائن بشارع بنك مصر رقم 6 تجمعات وتظاهرات طلابية كبرى شاركتُ فيها إلى جانب ثلة من الطلبة المغاربة الأصدقاء، والأعضاء فى هذا الاتحاد، فضلاً عن بعض الضيوف من الاخوة الأشقّاء من كلٍّ من الجزائر، وتونس، وفلسطين، ومن بلدان عربية أخرى، حيث التقينا -غداة هذه الإنتفاضة الفرنسية – فى عدّة مناسبات، كما زارنا غير ما مرّة خلال هذه الفترة فى مقرّ الإتحاد الشاعر والمناضل الفلسطيني المشمول برحمة الله معين بسيسو (الذي كان مدمناً على التدخين بدون انقطاع)، كان الجميع يشعر بنوع من الحيرة، والقلق، والإحباط والتذمّر ممّا سبّبته لنا نكسة 6 يونيو 1967، وعادت هذه الانتفاضة الفرنسية التي فجرها طلاب تقدميون – على الرّغم من شحط المزار، والبُعد عن الديار- لتشكّل لنا فسحة من الأملٍ، وعودة الرّوح إلى ذواتنا المنهارة، وكانت هذه الانتفاضة ضرباً من الانفراج، وضخّ الحياة من جديد فى أفئدتنا المكلومة، وفى قلوبنا المهمومة، وفي نفسياتنا الحائرة المخذولة، كانت انتفاضة الطلاّب الفرنسيين أو بالأحرى، أو بمعنى أدقّ ثورة وكأنها غيّرت وتيرة حياتنا وحياة كلّ الأجيال ليس فى بلاد الغال وما جاورها وحسب، بل على ما يظهر فى مختلف مناطق، ومرافق، ومناحي، ونواحي، وبقاع، وأصقاع العالم.
إضراب طلاّبي وعُمّالي شامل
كان لهذه الانتفاضة تأثير بليغ وواضح – كما هو معروف- على العديد من الكتّاب، والمفكرين التقدّميين على وجه الخصوص في فرنسا وفى مختلف أنحاء العالم، من بينهم العديد من الكتّاب والمثقفين المغاربة والعرب، سواء كانوا داخل بلدانهم أو خارجها، وفيما يتعلق بتجربتي الخاصّة فقد شاءت الاقدار أن ازور باريس بالذات قادماً إليها من القاهرة في نفس السنة التي تفجرت فيها هذه الانتفاضة مباشرة، وعلى اثر وصولي الى العاصمة الفرنسية رفقة بعض اصدقائي الجزائريين الذين كانوا يتابعون دراسلتهم العليا هم الآخرون في مصر، أذكر منهم الطالب الصديق العزيز المُجدّ السيد “الحسين بن عبد الجليل” الذي لا يحيد عن ذاكرتي منذ ذلك الأوان، والذي كان والده قبل هذا التاريخ يتقلد منصباً سامياً في بلدية مدينة الجزائر العاصمة وضُبط وهو يسلّم الأسلحة للثوار الجزائريين البواسل فحكمت عليه فرنسا بالإعدام شهيداً من أجل بلده ووطنه الغالي، ولم نفترق أنا وصديقي السّي الحُسين لمدّة الثلاثة أشهر التي مكثناها في باريس إلى أن شددنا الرحال للعودة الى القاهرة من جديد. بادرتُ ساعتها خلال وجودي بفرنسا الى كتابة مراسلات حول ردود الفعل التي خلفتها انتفاضة مايو 1968 لجريدة “الطلاّب” التي كانت تصدرعلى الصعيد الجامعي بمصر (انطلاقاً من جامعة عين شمس)، حيث كنتُ أشرف على القسم الثقافي بها، كما نشرتُ بعض المقالات، والقصص القصيرة من وحي هذه الانتفاضة، ومن وحي قضية فلسطين التي كانت تستأثر باهتمامنا، وتتغلغل فى أعماق وجداننا وكياننا فى جريدتيْ “العَلَم” و”المُحرّر” المغربيتين (هذه الصّحيفة الأخيرة أصبحت اليوم تحمل اسم (الاتحاد الاشتراكي).
كانت الشرارة الأولى لهذا الغليان الثوري طلاّبيةً بحتة، انطلقت فى الثالث من مايو من جامعة نانتير بضواحي باريس، ثم سرعان ما عمّت جامعة السّوربون الشهيرة وكليّاتها، وتحوّلت فى غضون أيام معدودات من طفرة تلقائية حاسمة (فى اليوم الثالث عشر من مايو) إلى إضراب طلاّبي وعمّالي شامل شلّ الحياة اليومية فى باريس، وفى يوم (السابع عشر من مايو) بدا الجنرال شارل دوغول (رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة) حائراً، مرتبكاً، متردّداً بين الرّضوخ أو التصدّي لهذه الانتفاضة ، وفى آخر المطاف أرغِم على حلّ الجمعية الوطنية، وإجراء إنتخابات تشريعية.
مرّ اليوم على هذه الانتفاضة خمسة وخمسون عاماً بعد أن انبثقت عفوية من زخم الشباب، وحماسه، ودَأبِه، وهدَره، ولجَبِه، وتلقائيتِه، انطلقت ليس بهدف تغييرالأوضاع الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية والعمالية فى فرنسا وحسب، بل وفى العالم، على ما كان يبدو لنا فى ذلك الزمن الغابرالبعيد الذي مرّ بأهله، وأناسه، وذويه وحيداً وئيدا.
المثقفون الفرنسيّون والانتفاضة
استقطبت هذه الانتفاضة الطلابية مختلف الحركات والتيارات، وساندها منذ انطلاقها صفوة من المثقفين، والمفكّرين، من العيار الثقيل حيث انضمّ إليها أكبرالكتّاب، والفلاسفة، والشعراء، والفنانين الذين كانوا يحظوْن بصيْتٍ واسع وشهرة واسعة إبانئذٍ أمثال الفيلسوف الوجودي المعروف جان بول سارتر، ورفيقته الكاتبة سيمون دي بوفوار، وبول ريكور، وميشيل فوكو، وجيل دولوز، و ألان باديو، و ناتالي ساروت، و مارغاريت دُورَاس، وبوتور، ولوفيفر، وفرانسوا مُورياك، وأندريه مالرُو وسواهم، كلهم شكّلوا جداراً حصيناً ضدّ السلطة المطلقة، وضدّ كلّ النماذج المَذهبيّة التي كانت سائدة فى ذلك الأوان، هذا المدّ الهائل من التظاهرات، والاحتجاجات أحدث تغييرات جذرية عميقة (بين ما كان قبل الانتفاضة وبين ما سيكون بعدها) فى الحياة الفرنسية حول مختلف المفاهيم السياسية، والحزبية، والنقابية التي كانت مُهيمنة فى ذلك الوقت التي لم تعمل قط على تقريب الهوّة التي أمست سحيقة وعميقة بين الأسياد (الرأسمالييّن) وبين طبقات البروليتاريا الكادحة، العاملة، العَسيفة، المُستلبَة، والمُستغَلّة أسوأ استغلال وأبشعه.
“الإنسان ذو البُعد الواحد”
الفيلسوف الألماني “هربرت ماركوز” كان قد تعرّض فى كتابه “الإنسان ذو البُعد الواحد” إلى الفئات الجديدة التي ستشكّل قطب الرّحى فى هذا التغيير ضدّ الرأسمالية، وما أفضت إليه المجتمعات الصناعية من استلاب وإذعان للإنسان تحت وطأة الأنظمة المطلقة السائدة رأسمالية كانت أم شيوعية، كان لأفكاره تأثير بليغ على الحركات الطلابية في أمريكا وأروبا وفى فرنسا بشكلٍ خاص، فضلاً عن تأثيره فى الفنون، والسّينما،والشّعر، والإبداع، والرّسم، والتصوير الفوتوغرافي التوثيقي، والوثائقي، والجداريّات، وسواها من مجالات الخلْق والإبداع، من بين الدّواعي التي حدت بالطلبة الفرنسيّين، ومَنْ معهم من الأجانب الذين ساندوهم للانتفاض، والانقضاض على المفاهيم البالية السّائدة آنذاك الحرب الجائرة التي كانت تدور رحاها آنذاك فى فيتنام بعد أن شنّتها أمريكا ظلماً، وعدواناً، وإجحافاً عليها، بينما كان هوشي مينه، وماو تسي تونغ، يتغنيان بالثورة الثقافية التي وصلت أصداؤها إلى فرنسا، والتي كانت تأخذ بألباب الطلبة، وتدغدغ عواطفهم، وتشحذ هِمَمَهم ضدّ الاتحاد السوفييتي وأمريكا على حدٍّ سواء، فضلاً عن اغتيال إيرنيستو تشي غيفارا (1967)، ومارتن لوثر كينغ (1968). وسواهما من رموز التحرّر، وأرباب الفكر التحرري المستنير فى مختلف أرجاء المعمور بما فيه العالم العربي، وسرعان ما انضمّ إلى انتفاضة الطلبة الباريسيّين إتحادات العمّال الذين شاركوا بحماس فى إضرابٍ عامٍ شامل في الثالث عشر من مايو، وقفز عدد المُضربين تدريجيّاً من مئتيْ ألف إلى نحو المليون شخص، ثم تجاوزعددُهم مليونيْ عامل، وما لبث أن وصل إلى عدّة ملايين بشكل حارت معه وله ومن أجله كلّ العقول.
الانتفاضة متاريس منيعة فى طريق الأمبريالية
والخلاصة، لقد شكّلت هذه الثورة أهمّ حراكٍ طلاّبيّ اجتماعيٍّ شامل في تاريخ فرنسا في القرن العشرين، ولا يتّسع المجال لسرد كلّ الكتب التي حاولت وتحاول تقديم قراءات أعمق، ومفاهيم أدقّ، ودراسات أشمل لتلك الأحداث التي كانت فى البداية ذات طابع اجتماعي، وثقافي، وأخيراً سياسي لتصبح فيما بعد بمثابة متاريس منيعة، ومُزعجة فى طريق الرأسمالية، والأمبريالية الأمريكية لتقويضهما، كما شكلت هذه الثورة سبقاً تاريخياً فريداً، ونصبت صُوىً، أو أقامت صوّاتٍ وقطائعَ فاصلة حيال الثقافة السّائدة ومختلف أنماط العيش والتعايش التي كانت تطبع المجتمع الفرنسي فى مجمل مؤسّساته التقليدية آنذاك، وعلى غرار العبارات التي ظلت راسخة فى أذهان كلّ مَنْ شاهد فيلم (كازابلانكا) الشّهير، أمثال العبارات التي كان يرددها بطل الفيلم ألفريد بوجار لخليليته إنجريد برجمان من قبيل: “ودائما تبقى لنا باريس”، أو “اعزفها ثانيةً يا سام “! كذلك أمست بعض شعارات هذه الثورة أمثلة مشهورة، وأقوالاً سائرة مأثورة، وحِكما متداولة منتشرة ما فتئت تردّدها الألسن إلى اليوم من قبيل (كونوا واقعييّن، أطلبوا المستحيل) أو (المنع محظور)!، ولا ريب أنّ هناك مَنْ يحلو له اليوم المقارنة بين انتفاضة مايو فرنسا 1968، وبين أحداث الرّبيع العربي 2011 الذي شهد هو الآخر هزّاتٍ مُقلقة، ورجّاتٍ عنيفة، وهبّت خلاله أعاصير صاخبة وتوابع، وزوابع، وعواصف رعدية رهيبة، ما زلنا نسمع صخبَها وضجيجها، وأصداءَها، ورنينها، وردودَ فعلها المُحيّرة والمُذهلة الى يومنا هذا المشهود.