في ذكرى مهدي عامل!؟

في ذكرى مهدي عامل!؟

محمود القيسي

“إذا الشمس غرقت في بحر الغمام

ومدت على الدنــيا مــوجة ظــــلام

ومات البصر في العيـون والبصايــــر

وغاب الطريق في الخطوط والدواير

يا ساير يا دايــر يا ابــو المفهومــــية

ما فيش لك دليـل غير عيون الكلام”.

     “غوي مينهاي”.. الكاتب والناشر الصيني – السويدي المسجون في الصين، والذي اكتسبت قضيته بعداً إنسانياً وسياسياً عالمياً، وطالب العديد من الدول وزعماء العالم، الصين بإطلاق سراحه.. كتب قصيدته الأشهر “أرسم بأصبعي باباً على الجدران” لابنته الجميلة إنجيلا، التي ترتدي ثوباً أبيض كما وصفها وهو في السجن خلف القضبان.. القصيدة التي تحولت مناسبة لإطلاق قضيته عالمياً ودعمه في عزلته بين أربعة جدران من أجل رأي… مجرد رأي: “أرسم باصبعي باباً على الجدار.. أرسم على العتبة فتاة جميلة ترتدي ثوباً أبيض وشعرها فاتح اللون.. الفتى التائه في العالم يرسم باباً تلو باب على الجدران.. هو النهار الأشد قصراً والليل هو الليل الأشد طولاً.. عالم جليدي بلا نهاية.. الزمن يلتف حول عنقي مثل حبل في الليل الشتائي القارص ليس لدي سوى بيجاما.. نظاراتي أخذوها ولا قلم لدي ولا ورق.. منذ وقت طويل أنا هنا.. أضجر أمام الجدار.. في الليل الأسود الحزين أذرف دموعاً سوداء.. إنني على يقين من أن الظلمة ستكف عن الانتشار في الأرض والوديا.. وأن شمساً مستديرة ستشرق في سماء وردية”.

     الاغتيال السياسي هو ظاهرة إستخدام العنف والتصفية بحق شخصيات فكرية وسياسية كأسلوب من أساليب العمل والصراع السياسي ضد الخصوم، بهدف خدمة أتجاه أو هدف سياسي معين. وبالطبع فإن ظاهرة اللجوء إلى العنف لتصفية الخصوم في العمل السياسي أو القضاء على الخصوم قديمة ومستمرة ولن تتوقف، إلا أنه من الملاحظ أن هذا الأسلوب أصبح أكثر شيوعاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما أنتشرت الأفكار الفوضوية والهامشية والعدمية، وهما حركتان سياسيتان أقرتا الاغتيال كأسلوب مشروع وفعال في تحقيق الأهداف السياسية. تعتمد الحركات والنظم الديكتاتورية والفاشية والشمولية في عصرنا الحالي كثيراً على هذا الأسلوب لإرهاب خصومها والقضاء عليهم، وإن كان ذلك لا يقتصر على تلك الحركات والأحزاب والنظم والأنظمة. حيث إنه من المألوف في تاريخ الثورات و النهضات أن اليقظة العقلية تسبق دائما النشاط السياسي والاجتماعي في حين الاغتيالات السياسية تسبق الجميع .

     ليس هناك متسع من الوقت.. نعم للأسف، ليس هناك متسع للوقت لمشاكلنا وأزماتنا وأمراضنا المزمنة (الصغيرة) على مقياس ريختر المشاكل والأزمات والأمراض العالمية (الكبيرة) المزمنة… هذا زمن القضايا العالمية (الكبرى) المريضة بكل أنواع الأمراض (الوجودية) الكبيرة المزمنة..!؟ في مقدمة كتابه الذي صدر عام  ١1981 “أزمة الحضارة أم أزمة البرجوازيات العربية”، يقول مهدي عامل: “إن التراث شيء، ومعرفة التراث شيء آخر، ولا يصح الخلط بينهما. فمشكلة التراث ليست في إحيائه أو في العودة إليه – وفي الحالتين استحالة – ؛ بل هي في إنتاج المعرفة العلمية بهذا التراث الذي هو موضوع معرفة. وفي هذا طرح جديد يختلف جذرياً عن كل طرح سابق يرى في التراث نموذجاً يجب تقليده أو الاهتداء به أو استلهامه، أو يفرض على الحاضر، باسم الأصالة والأمانة للذات، ضرورة أن يكون امتداداً للتراث يعيد إليه استمرارية تاريخية كانت قد انقطعت في فترة زمنية معينة، أو يرى في التراث عناصر ينتقي منها ما يخدم الحاضر، ويسقط منها ما لا يخدمه، فيشوَّه التراث والحاضر معاً.

    ولعل أخطر طرح لمشكلة التراث في هذا الطرح الذي يبحث في الماضي وفي عناصره التراثية عن مبدأ تفسير الحاضر، فيجد، مثلاً، في فكر الغزالي ونظام مفاهيمه مفتاح فهم الفكر العربي المعاصر، من حيث أن الفكر الديني واحد في الاثنين، وهو فيهما المسيطر – أو السائد – في تماثله بذاته، متكرراً لا يتغير، على امتداد ألف سنة أو أكثر، برغم تغير الشروط المادية التاريخية واختلافها؛ أو يرى إلى الواقع الاجتماعي العربي الراهن بعين المفاهيم الخلدونية، كأن التاريخ لم يعرف في بلادنا شيئا اسمه الرأسمالية أو الامبريالية أو التحرر الوطني أو سيرورة الانتقال إلى مرحلة أكثر تقدمية… تشترك هذه الأشكال المتعددة من طرح مشكلة التراث في أنها، كلها، تغيَّب علاقة الاختلاف بين الماضي والحاضر، وتقيم بينهما علاقة من التماثل يكرر الحاضرُ فيها الماضي، أو يظهر كأنه امتداد خطَّي له. وفي هذا، كما قلتُ، تشويه للاثنين معاً.” في الثامن عشر من أيار عام 1987 اغتيل مهدي عامل في أحد شوارع بيروت، وهو في طريقه إلى معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول في الجامعة اللبنانية. وعلى إثر اغتياله أعلن يوم التاسع عشر من أيار – ماي من كل عام “يوم الانتصار لحرية الكلمة.. ويوم الانتصار لحرية البحث العلمي”.

Visited 15 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني