هكذا تكلم العبد (1)

هكذا تكلم العبد (1)

لخسن أوزين

     لم يكن هناك شيء باعث على الفرح والحب والطمأنينة، كان للكراهية والحقد والعداء والعنصرية دور كبير في كفري بكل شيء. منذ صغري تسميت بعشرات الألقاب والأسماء القذرة التي تحط من قيمتي الإنسانية. كنت أقرب الى ما دون خط البشر، في نظر كل هؤلاء الاوغاد الذين جعلوني أتعرف تاريخي البشع الغارق في مستنقع الاسترقاق والعبودية وأنا أتصفح أمهات الكتب الدينية والتاريخية التراثية بما في ذلك كتب الفقه والحديث الصحيحة والضعيفة. عندها عرفت محنة نبع تاريخ البشاعة النتنة التي تناسلت منها جذوري الوبائية في امتداد عدوى القهر والاحتقار والتبخيس والدونية التي تواطأت في خلقها السماء والأرض أبا عن جد دون أن تقوى سردية إيمان بلال على رد التهمة وافتراض البراءة في كوني إنسانا كسائر الخلق والعباد.

   ولدت في حارة المرابطين بالجنوب الشرقي من المغرب، في سبعينات القرن العشرين ولا زلت ضيفا ثقيلا على هذه الأرض حيا أرزق، وهي حارة تسكنها قبيلة السود في بيوت طينية واطئة بأزقتها الضيقة المملوءة بعشرات الأطفال متفاوتي العمر، وكنا  شبه عراة بدون سراويل، مما يسهل قضاء الحاجة، وتفادي الروائح العطنة التي تزكم الأنوف وهي تتلبس أسمالنا التي لا تغطي سوى نصفنا العلوي.  كانت منازلنا، الرخوة بحرارة هجير كل صيف قاتل بعنف صهده اللعين، تحاول الوقوف عارية من أية صلابة وسط حقول صغيرة تزينها عشرات من أشجار النخيل التي تمنحنا حلاوتها من عام لأخر بفرح كبير في تسكين هواجس الجوع والفاقة الشديدة الوطء والوجع. حقول لا  تتسع ولا تتمدد، في وقت تتناسل عشرات الأرواح بين أم وأب يتألمون بين مخالب الاضطهاد العرقي والاجتماعي والأخلاقي والتاريخي الغارق في القدم، من الأمة والعبد الى إسمخ، أقبلي، أونكال، أسوقي، الحرطاني، القلاوي،عزي، العزوة، لوين…، (كلها أسماء تحمل معنى العبد الأسود القذر)

    وحدنا الفقر المدقع، والنظرة العنصرية الاحتقارية لقبائل البيض التي تحيط بنا من كل جانب، حيث لم نكن نسمع منهم غير النعوت والاسماء القدحية، فمرة ينادي علي بعضهم بإسمخ، أو أونكال، بشكل عادي تلقائي كما لو أن الامر طبيعي جدا في التطاول والتجاوز لإنسانيتي، بل مع شعورهم  بالفخر و الشرف والوجاهة الاجتماعية، والمروءة والرجولة وهم يدوسون على كرامتي دون أن أقوى على أي رد فعل بسيط مهما كان شكله أو أسلوبه الخفي أما العلني فذلك من المستحيل تخمينه أو تخيل حدوثه. لكن السؤال كان يكبر معي وأنا أحاول مع العمر فك شفرة هذا الوجود الاجتماعي الباعث على التقزز والقهر والانفجار الداخلي المكبوت في أعماق مقهورة لا تملك فهما لسر لعنة قدر اللون الأسود  المنبوذ، والحقير الكريه، والمعذب لروح النفس والجسد بألوان من الألم المفجر للعذاب الرهيب.

   هكذا عرفت أسمائي التي لا تعد ولا تحصى، ففي كل منطقة أو مدينة من المغرب إلا وكانت تسبقني عشرات الأسماء القدحية الناجزة والجاهزة التي توارثها البيض في حق السود. فقد أسمى بالحرطاني، الأكحل، عزي، أقبلي…

    وقد تميزت الكتب الدينية القديمة في التفرد بوسمي ووصمي بعشرات الألفاظ القذرة التي لا يمكن أن تطال قيمة الانسان بصفته إنسانا، الشيء الذي أثار رعب السؤال في داخلي حول سر القوة الأخلاقية الاجتماعية والدينية التي جعلت أجدادي جزءا من متاع السيد المالك لرقابنا كالحيوانات أو ما دون ذلك بكثير، مجرد متاع قابل للبيع والشراء والاكراه والاغتصاب، أو للقتل ببرودة الدم.

   لم أنعم بطفولتي كأي إنسان حقيقي ولطالما كانت الوساوس والهواجس وأسئلة الاضطهاد تعذبني دون أن أتمكن من الوصول الى سر الرعب الذي تولد في جوفي حول حق وجودنا على هذه الأرض بين هؤلاء الناس ونحن نسعى بينهم بحثا عن لقمة العيش دون الحلم بذرة كرامة إنسانية. وكان للعذاب لحن الفجيعة وأنا أرى نفسي في منتهى الضعف والهشاشة لا أقوى على طرح أسئلتي على أصدقائي السود كلما تلقينا وابلا من العبارات العنصرية القدحية التي تحمل في داخلها ذاكرة تاريخية موغلة في الاسترقاق، معبرة عن حجم المأساة التي عاشها أجدادنا في التاريخ المنسي والمكبوت كمحرم لا أحد يقوى على خرقه أو انتهاكه اليوم ونحن نتعرض للسخرية والنفور والتعيير.

   كلما تذكرت تلك اللحظات الرهيبة والمؤلمة وأنا أتصفح كتبي المدرسية، كل عام دراسي جديد من مستوى لآخر، بفضول كبير يشوبه الألم والعذاب اللامرئي في كياني الصغير. كتب مرعبة ومفزعة وهي غير قادرة على الإحساس بوجودنا الحي على هذه الأرض. ربما كنا مجرد فيروسات غير مرئية وغير مرغوب فيها ولا في حضورها المباشر على صفحات الكتب المدرسية التي كانت تحفل بالأطفال البيض. هذا الصمت المقصود كان بالنسبة لي كطفل مؤلما أشبه بالقتل الصامت في العتمة. أسئلة كثيرة كانت تجوب دواخلي، تحاصرني في الزاوية الضيقة للعرق القذر الذي لا يستحق أن يعلن حضوره الإنساني. كان بالنسبة لي حلما كبيرا أن أصادف في إحدى صفحات كتبي طفلا أسود، لكن خيبتي كانت تكبر من سنة لأخرى، دون أن أتمكن من الإعلان عن هذا الحلم الذي قد يبدو للكثير منكم مجرد هلوسة ساذجة، أو هذيان صبياني لا أقل ولا أكثر، لكن بالنسبة لي كان حلما جميلا لم أتحمل أن يخدش من أي كان لذلك لزمت الصمت، ودفنت الحلم لعلي أفاجأ يوما بحضوره الباذخ. هل حقا كنت أحلم في تلك الأيام البعيدة من طفولتي أم أن القهر والاضطهاد العرقي فجر في نفسيتي أنواعا من الجنون؟ هذا هو السر الذي لم تعرف أسرتي كيف تصل اليه لكي تتعرف سبب كراهيتي لكتبي المدرسية. ولحسن حظي كانت طرق التدريس تعتمد التلقين فكنت أكتفي بدفتر الملخصات، وهذا ما سهل علي التفوق في دراستي الى درجة كنت أثأر لنفسي من زملائي البيض بالتفوق عليهم في نتائجي الدراسية، داحضا كل تلك النكت الساخرة بالسود في وصفهم بالغباء والبلادة، الى جانب القصص والنوادر التي تشربوها في طفولتهم حول السود كجنس حقير أقرب الى عقول الحمير. كان زملائي في المدرسة جد مقتنعين أننا لا نصلح سوى للحرث والاعمال الشاقة الوضيعة انسجاما كما يقولون مع طبيعة وجود تميزنا كجنس منحط أشبه بالبشر إن تساهلوا معنا أحيانا.

    ومع السنوات كنت أكثر ميلا الى الكتب غير المصورة لأنها تعفيني من الاستفزازات الرخيصة. إلا أنني كنت أتساءل عن هذا الفعل المقصود من واضعي الكتب المدرسية بهذا الشكل الغريب الذي يستثني فئة من الناس أقرب الى البشر في نظرهم.

   كانت أمي تعنفني لفظيا كثيرا كلما أكثرت من الأسئلة المحرقة حول سر عبوديتنا التي نحملها كوصمة عار.

  وكلما كبرت الأسئلة، إلا وتورطت في المزيد من الاهتمام والتفكير. وكانت الكتب ضالتي الوحيدة، لعلي أجد بعض الأجوبة التي يمكن أن تنير طريقي. هكذا مع سنوات العمر والنضج، وغليان الأسئلة الحارقة كنت أغرق في البحث والسؤال. فكان يرميني كتاب لكتاب آخر. لم أكن أقتنع بسهولة بما أقرأ. حكمت عقلي بصرامة الراغب في الوصول الى ما سطرته الأقلام حول تاريخي الحافر في الزمن البعيد. وغالبا ما كنت أقارن بين مضامين الكتب. فكانت النتيجة واحدة بكل وضوح، وبعيدا عن وهم الالتباسات التي كنت آمل أنها وقعت، فغطت على الحقيقة. أجدني دائما في هذه الكتب، التي تحكي سيرتي أبا عن جد، مجرد عبد، مملوك لا علاقة له بالناس العاديين.

   وكانت الفاجعة كبيرة حين رأيت جدتي المتطاولة في الزمن الأقدم العريق في هوامش هذه الكتب القديمة، المشبعة بالدين الحق ومكارم الأخلاق. كانت مجرد طفلة قاصرة شبه عارية تقف في سوق النخاسة على مرأى ومسمع الرجال، وتُفحص من كل الجوانب بالأيدي النجسة والطهورة التي لا تزال على وضوء صلاة الفجر، وهي الآن تمارس حقها الشرعي في شراء الأمة للخدمة والمتعة وما بين ذلك حلال مبين. كانت تقف شاردة الذهن في المزاد العلني للعبيد، في سوق تجارة اللحم البشري. ثم هاهي تساق كالبهيمة أو أدنى من ذلك بكثير. هكذا كانت تعبث بي صفحات الكتب. تدمرني بقسوة حارقة وجارحة. خاصة حين تنفتح بوابات رهيبة بين السطور. تمسك بيدي بقوة لا تخلو من عنف مروع، وتقذف بي في متاهات محرقة معاودة خلق الأحداث والوقائع من جديد.

   هكذا كنت أرى جدتي هناك في منزل السيد رهن إشارته كملك حلال يتصرف فيها كما يشاء. عذابات ألم قاتل تنفجر من أعماقي، وأنا أتعرف جذور ما قبل تاريخي. عندها تتدفق الدموع من عيني.. دموع آتية من جوفي العميق. يحاصرني البكاء الصامت والألم العنيف.

    ومع كل محنة حارقة في القراءة، أزداد ثقة ورغبة، في البحث عن المحن الرهيبة، التي توثق تاريخي السري الذي كنت أجهله. لذلك كنت مصرا وعنيدا في متابعة البحث والقراءة. يرميني كتاب الى كتاب آخر أشد وطأة منه على نفسي في الظلم والقهر، ويتملكني جنون بشع وأنا ألتقي جدتي وقد تزوجت بعبد غريب مثلها بعد أن شبع منها سيدها وأبناؤه. وبين صلاة وصلاة كانوا يغتسلون فرحة بلقاء الرب صاحب النعمة في الملك والملك وفضل سعة الرزق.

   كانت تدمع عيناها، وتتألم بصمت، مخنوق كأنها تشنق. وهي ترى بوضوح سيدها الجبار القهار الفعال لما يريد. يسوق أطفالها الصغار لسوق النخاسة كمورد رزق ساقه الله إليه، دون أن يرف له جفن الانسان على أنه يسلخ أطفالا من أمهم. يسوقهم مع الدواب كالحمير في الصباح الباكر بعد أن أدى الرجل الورع الوقور صلاة الفجر في مسجد القرية.

   أكاد أنفجر من البكاء المخنوق في الأعماق وعيناي معلقتان في السماء وشفتاي تتمتمان ” (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

  كما لو كنت أستفسر برهبة في النفس أقرب الى التوسل العبودي الى الله، خوفا من دسائس الشيطان من سم الكفر الممزوج برغبة السؤال الآثمة عن سر عدم تحريم الرق. كنت أكثر من قراءة القرآن خشية من السقوط في الجب العميق لوساوس الشيطان الرجيم، التي لا تفارقني. وتزداد قوة وغرابة وشدة السؤال، كلما تقدمت في عمري من طفل صغير الى شاب في مقتبل العمر. كانت أمي تخشى علي من الكتب وهي تراني مشغول البال. بينما كان أبي فقيها ذميم الخلقة، أو هكذا كنت أراه،  قابلا ومتقبلا لتاريخه المنسي المسكون بالألم و الفواجع، يضيق صدره من اهتماماتي التافهة في نظره حول وجودنا الغريب بين هؤلاء الناس ، لهم مساجد مثلنا، وتجمعنا بعض التقاليد والعادات، ونتشابه في الطقوس والشعائر الدينية، ونصوم جميعا رمضان بفرح كبير، ويقولون أحيانا أننا إخوة في الله. لكن لماذا هذه النظرة والمعاملة التحقيرية يتوارثونها في القلب أبا عن جد، دون أن يقوى الزمان على محو هذا الفعل الشنيع؟ ولماذا دماء العبودية والرق لا تزال طرية في التواصل العمودي اليومي، وفي النظرة القاسية المفعمة بالشرر الهائج تصوب نحوي تبخيسا لكرامتي وإمعانا في إذلالي وإهانتي كلما فكرت في عيش سلوك الحر في الملاحظة والاعتراض؟

   هل كنت أقرأ من كتب التاريخ والفقه، والفتاوي والنوازل، وغيرها من مظان القهر، أم أن ذاكرتي كانت تشطح بما تخشى من رهاب الرق والقهر واضطهاد الظلم؟ وأنا أرى نفسي مجرد لوثة عدوى يخشاها الناس في المناصب الجماعية والإدارية والإعلامية والحزبية…، احتراما لهيبة البيض في ألا يكون رجل أسود على رأس منصب مسؤول.

   كانت القراءة عذابا أليما كلما ولجت بابها الملعون إلا وازددت حقدا وغبنا ومهانة وذلا، كانت صفحات تاريخي المطمور تحرقني دون توقف، وتحرك سيلا جارفا من الحمم الحارقة في نفسي وهي تضعني أمام سر لعنة العنصرية والاحتقار التي تطالني اليوم في وضح النهار في النبذ والقهر والسخرية والاستهزاء والاقصاء من دائرة الانسان، في وقت يعلو صوت البيض بالمطالبة بالمزيد من الحق في الحرية والكرامة والعدل… دون أن يقوى الواحد منهم في الإشارة ولو بالغمز الى ما نتعرض له من العنف اللفظي والعزل الاجتماعي ونكران الاعتراف ببشاعة التاريخ المنسي، والحاضر المغيب في تلعثم اللسان بالحق في الإقرار بما لحقنا من حقارة الظلم والقهر  في الأمس واليوم.

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي