الخيار الديمقراطي في مناقشة الخطاب الملكي بالمغرب
إسماعيل طاهري
كانت مناقشة الخطاب الملكي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني ممنوعة عمليا، ويتم توسيع تأويل مضمون فصل دستوري يمنع البرلمان من مناقشة الخطاب الملكي الموجه للأمة والبرلمان، ويتعلق الأمر بالفصل 28 من دستور 1962 الذي ينص على أن:
“للملك أن يخاطب البرلمان والأمة، ولا يمكن أن يكون مضمون ما يخاطبهما به موضع نقاش من طرف البرلمان”.
وتم تعديل هذا الفصل واشترط أن يتلى الخطاب داخل مجلسي البرلمان حسب ما جاء في الفصل 28 من دساتير 1970 و 1972 و1992و 1996 الذي يقول:
“للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش”.
وبذلك تم حضر مناقشة الخطاب الملكي (بالعموم) سواء داخل مجلسي البرلمان أو خارجهما.
ومع ذلك كانت النخبة/ الإنتليجينسيا تكتب بشجاعة مقالات ودراسات، وتدلي بتصريحات تناقش خطاب الملك وتفكك ميكانيزمات اشتغاله.، طبعا بطريقة غير صريحة ومباشرة. ولكن الفاهم يفهم.
الدولة لم تكن تكن تهتم إلا بمن يعارض مضامين الخطاب الملكي الذي يحدد سياسات عمومية وعامة. وكانت تشجع المناقشات الموالية لمضامين ولتوجهات الخطاب ذاته، وكانت السلطة تحرص على استدعاء أساتذة القانون في الجامعة أو سياسيين مواليين أو منشقين عن المعارضة، لتحليل الخطاب الملكي في الجرائد الموالية ومختلف القنوات الإعلامية الرسمية. (علاوة على محللين أجانب)، ومعظم المحللين يحرصون على استظهار الخطاب الملكي حرفيا، وإعادة التذكير بفقرات منه والاجتهاد في التدليل على تبصر الخطاب وبعد نظره، ويستدلون بحجج ودلائل يستنبطونها من فقرات الخطاب ذاته أو خطب ملكية أخرى.
اليوم تم تعديل النص الدستوري وحصر منع مناقشة الخطاب داخل غرفتي البرلمان حسب ما جاء في الفصـل 52 من دستور 2011 الذي يقول:
“للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان، ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش داخلهما”.
أضيفت كلمة “داخلهما” للتدقيق انطلاقا من وعي لجنة إعداد الدستور أن التقاليد المرعية منذ دستور 1962 تقضي بمنع مناقشة الخطب الملكية داخل البرلمان، سواء ألقاها الملك داخل البرلمان أو خارجه.
يقول الفصل 28 من دستور 1962:
“للملك أن يخاطب البرلمان والأمة، ولا يمكن أن يكون مضمون ما يخاطبهما به موضع نقاش من طرف البرلمان”.
ويبدو هذا الفصل في دستور 1962 متقدما عن تعديلات الفصل ذاته في دساتير 70 و72 و 92 و96، لأنه فتح إمكانية مناقشة الخطاب من طرف آخر غير البرلمان.
وربما قد لا يفيد هنا الاستناد على هذا الفصل المتعلق بصلاحية الملك في مخاطبة الامة والبرلمان:
– أولا: لوجود نصوص أخرى من الدستور يمكن الاستناد عليها لمنع مناقشة الخطاب الملكي، كالفصل المتعلق بقدسية الملك والفصول المتعلقة بإمارة المؤمنين، التي تمثل لوحدها دستورا داخل الدستور.
– وثانيا: لوجود “ظهير كل ما من شأنه”. وتقييدات أخرى في القوانين التنظيمية خصوصا القانون الجنائي، وظهير الحريات العامة لسنة 1958 وما تلاها من تعديلات.
ولكن الواقع أقوى من النص القانوني. والواقع (الذي لا يرتفع) يقول بوجود حظر عملي عن مناقشة الخطاب الملكي منذ الاستقلال إلى اليوم، رغم التعديلات الدستورية وإلغاء الفصل الدستوري الذي يقدس الملك من دستور 2011، وقبله إلغاء ظهير “كل ما من شأنه” نهاية التسعينيات من القرن الماضي.
تمثيلا للآية الكريمة: “إن الله يزع بالسلطان ما لايزعه بالقرآن”.
والمثير للانتباه خلال العهد الجديد، وحتى بعد دستور 2011، هو استمرار لجوء الإعلام العمومي ومختلف القنوات التي تسيطر عليها السلطة لإعداد برامج لمناقشة مضامين الخطاب الملكي، وتستضيف محللين على طريقة عهد الحسن الثاني، مع تغيير معظمهم في كل خطاب، والإبقاء على بعضهم لسنوات، نظير تاج الدين الحسيني، محمد بنحمو، منار السليمي، طارق أتلاتي، محمد الأمين بوخبزة… وغيرهم ممن يتقنون اللعبة ويفون بالغرض. وأصبحت عباراتهم مسكوكة ومكرورة وخالية من أي جديد أو إبداع.
وفي هذا السياق يكاد يغيب وجود محللين موضوعيين يتمثلون بأمانة مواقف أحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة. ويدلون بآرائهم الذاتية بصدق وأمانة.
وفي ظل الصعوبات التي تواجه الصحافة الحرة/المستقلة /غير الرسمية فالنقاش الموضوعي للخطب الملكية يكاد يغيب في المغرب.
ومعظم النخب تتفادى الاقتراب من مناقشة الخطاب الملكي، انطلاقا من قناعاتها الشخصية أو وفقا للأطر المرجعية الأكاديمية ذات الصلة بنظريات تحليل وتفكيك الخطاب. (الخطاب السياسي، الأدبي، …) وأصبحت المداراة سيدة الموقف.
وفي النهاية نخلص إلى القول بشكل نسبي أن تعديل فصل منع مناقشة الخطاب الملكي في دستور 2011 لم نر مفعولا له على أرض الواقع. مما يعني أن هذا المنع لازال مفعلا في الدستور غير المكتوب، الذي تحدث عنه زعيم حزب الاستقلال الراحل امحمد بوستة ليبرر التصويت بنعم على دستور 1996.
لهذا يجب مراجعة أسلوب مناقشة الخطب الملكية في الإعلام العمومي وفتح المجال لمختلف الآراء، لأن في ذلك إغناء وتعزيز للخيار الديمقراطي الذي بوءه دستور 2011 ثابثا من ثوابت الأمة الأربعة: الإسلام/ الوحدة الترابية/ الملكية/ الخيار الديمقراطي. طبعا مع حفظ ألقاب التوقير والاحترام المحفوظة دستوريا للملك وحصر النقاش في تقييم وتحليل السياسات العمومية والعامة للدولة.
وبما أن المناسبة شرط، كما يقول الفقهاء، نتساءل، هنا والآن، حول خطاب العرش 2023 الذي جاء مختلفا عن معظم خطب العرش السابقة (والتي كرست كتقليد منذ عهد الحسن الثاني وصارت تدرس هندستها في كليات الحقوق). لماذا ليس هناك نقاش عمومي أو أبحاث أكاديمية، تمكننا مثلا من فهم هذا المستجد وسياقاته؟
ثم لا أحد يعرف دواعي إلغاء خطاب 20 غشت، الذي يصادف ذكرى “ثورة الملك والشعب” لسنة 1953، الذي أعلن عنه بلاغ للديوان الملكي.
فهل يمكن للمحللين السياسيين المعتمدين لدى الإعلام العمومي تنوير الرأي العام حول مثل هذه المواضيع وغيرها؟