ومِنَ الصَّخْر يتفجَّر المَاءُ لِيَرْوي عِراقا آخر
خالد بريش ـــ باريس
ليْسَ مِنَ السَّهْلِ اخْتصارُ مَأساةِ الناسِ البُسَطاءِ في أَوْطانِنا، الذين تَسْكُنُ المُعاناةُ في كُلِّ تفاصِيلِ وَمَفاصِل حَياتِهم، ويَعُضُّونَ على جِراحِهم. وليسَ سَهْلٌ أيضًا نَقلُ صورَةٍ عنْ مَدَى آلامِ المُواطِنينَ الشُّرفاء، الذينَ شاهَدوا بِأمِّ أعْيُنهم الدِّيدان وهِيَ تنْخرُ في جِسْم الوَطن. وتُعْلنُ وَلاءَها لأَعْدائِه. إلا أنَّ الأديبَ، والشَّاعرَ طلال سليم آل جَعْفَر الحَديثي يَتَصَدّى لِذلك في رِوايَتِه الأخيرة “على رصيفِ الجُوعِ تنْمُو الشَّقائِقُ”، الصادرة عن دار ماشكي، في الموصل. ويَنْقلُ لنا كثيرًا منْ تِلكَ المُعاناة وفُصولهَا. حتَّى إنَّه أخذَ بِأيْدينا. وجَعَلنا نَسِيرُ مَعَهُ وَسَط الرُّكام، وأزيزِ الرَّصاص، وَحُقولِ الألغام، وَالجُثثِ المُتفحِّمَةِ، وتأوُهَاتِ الأمَّهاتِ على أبْنائِهِنَّ، وتَضَوُّر أمْعاءِ الأطفالِ الجَوْعى، والمُشرَّدينَ في المُخيَّمات، أو الذينَ بِلا مَأوَى، وكل ذنْبهِم أنَّهُم بَشَرٌ ضُعفاءٌ، في مُواجَهَةِ سَاسَةٍ مِنْ نوْعِيَّة الذئاب. وسَطَ رِجالِ دِينٍ، لا يَعْرِفونَ مِنَ الفضِيلةِ إلا اسْمَها. ولا يَتورَّعُونَ عنْ فِعْلِ كلِّ أنْواعِ المُحَرَّماتِ… وهَلْ هُناكَ مُحَرَّماتٌ أفْظعُ، وأشْنعُ، من خِيانَةِ الوَطنِ، والخُنوع لأعْدائِه…؟!
أقلِّبُ صَفحَات هذا العَمَلِ الأدَبيِّ، الذي يُهْديهِ كاتِبُهُ “إلى جيلٍ لمْ يَظهَرْ بَعْد”… فأحِسُّ بنَهَم إِلى القِراءَة لا يَتوقّف. وبِظمَأ، مع أنّني أقِفُ على شاطِئ العَرَبِ، دونَ أنْ أنادي يا خليجُ لِكَيّ يَسْقُط المَطر…!. شاطِئ طالما رَوَتْ حَضاراتُه عَطشَ العالم لِلعِلم والمَعْرِفة. وَرَوَتْ مِياهَهُ العِطاشَ عَبْرَ التاريخ. أقِفُ في حَضْرةِ رِوايةٍ عِراقِية، حَبيسًا بيْنَ زَمَنيْن، وعَالمَيْن. أحَدُهُما أعْرِفُه، ويَعْرِفُهُ كلُّ العِراقِيينَ والعَرَبُ. ألا وهُوَ، عِراقُ العِزَّةِ، والكرامَةِ، وَالمَجْدِ، وَالحَضارَةِ، والإبِاءِ. وَعِراقٌ آخر صَنيعَة الحَتاحِيتِ، وَمَنْ لا أَصْلَ لهُم. وسُؤالٌ على شِفاهِ كلِّ شبابِ العِراقِ اليوْمَ: “تُرَى هَلْ نحْنُ أقلُّ هِمَّة مِنْ آبائِنا لِندَعَ أرْضَنا مَرْتعًا لِعُلوجِهِم…؟”. بلْ أقِفُ ما بين دِجْلة والفُراتَ. أعْني قصِيدَتيْن، تسيرانِ جنْبًا إِلى جَنْبٍ مَعَ هَذا العَمَلِ الإبْداعِي، نحْوَ نفْسِ الهَدَفِ بتناغُمٍ وَتكامُلٍ. وَهَلْ الأعْمَالُ الأدَبيَّة إلا كأسْنانِ المِشْطِ، تتناسَقُ مع بَعْضِها شكْلا، ومَوْضوعًا، وَطبيعَة، وَدَوْرًا…؟ وَهُما للشاعِرِ العِراقيِّ عبْد الوَهَّاب البَيَّاتي. وقدْ نَظمَهُما في القرْنِ المَاضِي. وَلكنَّ رُوحَهُ، وَمَعاني شِعْره، مَا زالتْ تُرَفْرِفُ على العِراقِ وَأهْلِهِ. فتُبلسِمُ كلِماتُهُ جِراحَ شعْبِه. وَأكادُ أرَى ابْتِساماته المُتعانِقةِ مع دَمَعَاتِه، وَهُوَ يَرَى حَالَ العِراقِ مِنْ عَليائِهِ، فيُكرِّرُ دَرْسَهُ لِلمُتقاعِسِين.
وَحَقِّ أسْمَاءِ الكِلاب
لا مَجْدَ تحْتَ الشّمْس
إلا مَجْدَ أبْناءِ الحَيَاة
والخُبْزِ والحُرِّيَّة الحَمْراء والغَدِ والمَصير…
لِيرْتفِعَ صَوْتُه في القصِيدَةِ الثانيةِ صَارِخًا في أبْناءِ الوَطنِ، الأحْياء والأمْوات على السواء، وَفي الذّرارِي التي مَا زَالتْ في عِلمِ الغَيْبِ تَسْتريحُ في الأصْلابِ مُخْبِرًا صغيرَهُ:
راياتُ شَعْبِكَ، يا صَغيري بِالدِّماء
وأنْتَ لاهٍ لا تُجيب
لاهٍ بِلعْبَتِكَ الجَديدَةِ، لا تُجيب
وعُيونُ أمِّكَ في انْتِظاري
والسَّمَاءُ
والليْلُ في بَغْدادَ يَنْتظِرُ الصَّباح
وبَائِعُ الخُبْزِ الحَزينِ
يَطوفُ في الأسْواقِ، والعُمْيانُ والمُتَسَوِّلونَ
يَسْتأنِفونَ على الرَّصيفِ
تِلاوَةَ الذِّكْرِ الحَكيمِ
وَوَراءَ أسْوارِ السُّجون
يسْتَيْقِظُ الشَّعْبُ العَظيم…
تغوصُ الرِّوايةُ في مُعاناةِ عِراق العُروبة، الذي أصْبحَ مُحْتلا من مِيليشياتٍ، وَلاؤُها لِلخارجِ، ولِعَدوِّ الأمْس…! عِراقٌ ضربَهُ طاعونُ الإِرْهابِ، فَغَدا حَمَلةُ السِّلاحِ فيه مُسَيَّرونَ منْ أجْهِزة دُول، ومُخابرات لا عَدَّ ولا حَصْرَ لها… عِراقٌ نَشأ في رَحِمِ المَأساةِ، وَوَسَطِ الأوْحالِ، بِكلِّ أنْواعِها. عِراقٌ أصْبَحَ لا يَعْرفهُ أهْلهُ، ولا نحْنُ نعْرفُ أبْناءَه. ولا المَآلَ الذي سَيكونونَ عليهِ غدا…؟ ولا كيْفَ ستكونُ نظرتُهم إليْنا، وكيفَ سَيتعَاملونَ مَعَنا…؟
عِراقٌ تَمَخَّضَ عنِ الاحْتِلالِ الأمْريكيّ. وكلِّ الذين دَخَلوا على حِمَارِهِ ودبَّاباتِه، وتَحْتَ رايتِه. وذلك من قبْلِ أنْ تبْرأ جِراحُ أبْطالهِ، الذينَ دافعوا عنْ تُرابِه بِشراسَةٍ وبُطولةٍ؛ في بَنْجَوين، ومَنْدَلي، والشّلامْجَة، ونَهْر جَاسِم… وتمَخَّضَ أيضًا، عن احْتلال غُزاةٍ قادِمينَ مِنَ الشَّرْق. يقولُ عنْهمُ الكاتب: « رِياحٌ صَفْراءَ مُحَمَّلة بكلِّ أحْقادِ أبي لؤْلؤَة وأحْفادِهِ التي هَبَّتْ عليهم وهُمْ مُتشبِّثونَ بِمُرْتفعاتِ (مَيْمَك ومَاوْت وكانَ الشيخ وسِواها) ». (ص. 85).
عِراقٌ نَشَأتْ فيهِ طبقةٌ انْتِهازيَّة، فاسِدَةٌ إلى أبْعدِ الحُدود. نَبتتْ كالفِطرِيَّات على شَرايينِ قلبه، فامْتصَّتْ دَمَهُ، وخيْراتِه، ودَمَ المُواطِنين. طبقةٌ غابَتْ الأخْلاقُ والإِنْسانِيَّة منْ قوامِيسِها، فلا تعْرفُ إلا ألوانَ الأوْراقِ النقْدِيَّة…! عِراقٌ لا يَعْلو فيهِ صَوْتُ فوْقَ صوْتِ الدُّولار والدَّجَل الطائِفيِّ المَذْهبي.
يَتناوَلُ الأَدِيبُ طلال سَليم الحَديثي في عَمِلهِ هَذا أيضًا، مُعاناةَ النازِحينَ الذين أضاعُوا بُيوتهُم وأرْزاقهُم. وأصْبحوا اليوْمَ عَالةُ على اللئام، والحَاقِدينَ منْ أبناءِ وطنِهِم. وأحْوَجَتْهُمُ الأيامُ إلى الحُثالاتِ منْ بني البَشَر فيَتقبلونَ صَّدقاتِهم ومَعوناتِهم. مُوَضِحًا مَا أحْدَثهُ النُّزوحُ في دواخِلِهمُ منْ تمزُّقٍ، وتَصَدُّعٍ، وآلامٍ بعْدَما غدوْا مُشَرَدينَ ضائِعينَ في شوارِعَ المُدُنِ، والمُخَيَّمات. فامْتلأتْ دَوَاخِلهُم بالحِقْدِ على مَنْ كانوا السَّببَ. مِمَّا دَفعَ عَددًا كبيرًا مِنْ شبابِهِ إلى الهِجْرَةِ، وَالهَرَبِ مِنَ الجَحِيم. أوْ سُلوكِ طريقٍ لا عَوْدَةَ مِنْهُ، إلا شُهَداءَ، أوْ أحْرارًا، لا مُشرَّدينَ، ولا نازِحين…
شــــــالو سلاح الولد داســوا على الكلفات
والمات لاجل الوطن حي وأبد مـــــا مات
يَأتي هَذا العَملُ مُبَسطا مِنْ حَيْث تراكِيبِ شخْصِيَاتِهِ، حيْثُ لمْ يَحْشِهِ الكاتِبُ بِكَمٍّ كبيرٍ مِنَ الشَّخْصيَّاتِ المُركّبة، التي قدْ تُبْعِد القارئَ عنْ القضايا الأسَاس وهِيَ الوَطنُ والإنْسانُ والمَصِيرُ… وأتى أسْلوبَهُ في الكِتابَةِ سَلِسًا مُبَسَّطًا، لا يُشْغِلُ القارئَ أيْضًا بِمعانِي المُفْرداتِ، وَمَضْمُونَها، وَمُؤَدَّاها. هَادِئًا بَعيدًا عَنِ الانْفِعالِ، يُحْدِثُ في النفوسِ تَفاعُلاتٍ لا تَنْتهي. لِتَأتِي عِباراتُهُ بِالعَامِيَّةِ العِراقِيَّة أحْيَانًا، كالبَهَارِ على أطْباقِ الطعَام. فتَجْعَلَ مِنَ السَّرْدِ أكْثَرَ شَهِيَّة. وأكْثَرَ وَاقِعِيَّة، وحَيَوِيَّة. طبْعًا دُونَ أنْ يَنْسَى الكاتِبُ شاعِرِيَّتَهُ. فيُضيفَ لبُنْيَةِ السَّرْدِ شَبابِيكَ. أيْ أبْياتًا مِنَ الشِّعْرِ العَامِيِّ « الهَوْساتْ ». يُطِلُّ مِنْهَا القارِئُ على أحْداثِ الرِّوَايَةِ، والواقِعِ في آنٍ مَعًا. فتُخَصِّبُ مُتَخَيَّلهُ. وتتفاعَلُ مَعَهَا رُوحُهُ. وتَهَبُ النصَّ قُوَّةً. وتُجَذِّرُهُ في المُجْتَمَعِ الذي نَبَتَتْ فِيه.
يَسْتخْدِمُ الكاتبُ العِبارات، والمُفْردات، والأحْداثَ التي تتوالى دُونَ تَوَقف. ليقومَ مِنْ خِلالِها بإسْقاطاتِه. وأيْضًا مِنْ خِلالِ الشخْصِيَّات، ورَغيفِ الخُبْزِ “الصَّمُّون”. الذي يَتنقّل بيْنَ أيْدِي مُخْتَلفِ شرائِحِ المُجْتمَعِ، والكُل بحاجَةٍ إليهِ. إنَّه لقْمَة العَيْشِ، وعَمُودُ حَياةِ الفُقَراءِ. الذينَ أفْقَرَهُمُ السَّاسَةُ، مُدَّعُو الوَطنيَّة، والالتِزام بالدِّين. أصْحَابُ اللِّحَى، والمَسابِح ذاتِ الحَبَّاتِ اللامِعَة. الذين سَرَقوا كلَّ خيْراتِ الوَطنِ، وأَوْدَعُوها في حِساباتٍ مصْرِفَيَّةٍ في دُوَلٍ يَدَّعُونَ مُحارَبَتِها. فيُحِسُّ القارِئُ أنَّهُ دخَلَ في المَوْضوعِ مُباشَرَةً مِنَ الأسْطُرِ الأولى. فأدِيبُنا لا يُحِبُّ الإِنْشائِيَّاتِ، ولا المُقَدِّماتِ الشَّاعِريَّةِ. ورُبَمَا تَرَكَ ذلكَ إِلى الشِّعْرِ، عِنْدَمَا يَمْتَطي صَهْوَتَه.
يُشَكلُّ رغِيف “الصَّمُّون”، مِحْوَرًا أسَاسًا. كَعَمُودٍ يُعَلقُ عليهِ الكاتِبُ تفاصِيلَ الأَحْداثِ. وكمُنْطلقٍ إلى كُلِّ التفَرُّعاتِ، والأَحْداثِ الصَّغِيرَةِ الأُخْرَى، التي تَعُجُّ بِها السُّطورُ. وهُوَ مَا يُعْطيها أَبْعادًا مُخْتلِفةً. فَمَنْ مِنَّا لمْ تُعَشِّشْ رائِحَةُ “الصَّمُّون” في قلبِهِ، مُتَماهِية مع رائِحَةِ صَدْرِ أمِّه. أيْ تُرابَ وَطَنِهِ…؟ ويَتخِذُ مِنْ بَطلةِ رِوايتِهِ “الحَاجَّةُ مَيْمُونَة”، رمْزًا لِلمُواطِنِ الشَّريفِ، والإِنْسانِ العِراقِيِّ. ولِلْطِيبةِ في كُلِّ تصَرُفَاتِها، مِنْ عَطْفٍ على المُحْتاجِين، وكلِّ مَنْ حَوْلها، بَعيدًا عَنْ الأنانِيَّة. وأيْضًا رَمْزًا لِلأَصَالةِ في زِينتِهَا وَمَلبَسِهَا. وَحَتَّى في الكلِمَاتِ التي تَتَدَحْرَجُ على لِسَانِها، كضَحِكاتِ طِفْلٍ بَرِئ. فيَبُثُّ الكاتِبُ مِنْ خِلالِها صُوَرًا يَعْشَقُهَا كُلُّ مُواطِنٍ. وَتُذكرُنَا بِتِلْك الأمِّ الصَّابِرَةِ التي حَدَّثنا عَنْها الشَّاعِرُ العَاشِقُ لِلعِراقِ بَدْرُ شاكِر السَّيَّاب:
جَيْكور يَا جَيْكورْ هَلْ تَسْمَعينَ…؟
فلِنَفْتحَ الأَبْوابَ لِلْفاتِحين
وَلِتَجْمَعِي أَطْفَالكِ اللاعِبين
في سَاحَةِ القَرْيَةِ هَذا العَشَاءُ
هَذا حَصَادُ السِّنين
المَاءُ خَمْرٌ وَالخَوابي غِذاءٌ
هَذا رَبِيعُ الوَبَاء…
يتناول الكاتب فِي هَذا العَمَل السَّرْدي مَسْؤُوليَّة الكلِمَةِ، وَمُعَاناةِ الكُتَّاب، والمُثقفين، وَأزْمَتهم في بِلادِنا. وَكيْفَ أَصْبَحَ مَنْ مَعَهُ مَالٌ يَبْرُزُ على السَّطْح، كحَبَّةِ فولٍ خَاوِيَةٍ نَخَرَها السُّوسُ. ويَنْشُرُ. بَيْنمَا يَبْقى كثيرٌ مِنَ الأَعْمَالِ الجَادَّةِ في طيَّاتِ الأوْرَاقِ، والكَرَارِيس.
وفي الخِتامِ تَحْفرُ هَذِهِ الرِّوايةُ لهَا مُسْتقرًا، وَتُثبِّتُ جُذورَهَا، في عَالم الرِّوَايَةِ العِراقِيَّة الحَديثَةِ. وهِيَ تُشكلُ دَعْوَةً، بَلْ دَعَواتٍ لِلثوْرَةِ، ولِدُخُولِ عَوَالِمَ الحَقِيقةِ وَالوَاقِعِ. وَلِلخُروجِ مِنْ سَرادِيب الظلُمَاتِ المُتعَاقِبَةِ « السَّراديبُ والزَّوَايَا المُظْلِمَةُ لا تلِيقُ بِالأَحْياءِ بِقَدَرِ مَا هِيَ مَثْوًى لِلْأَمْواتِ ». (ص. 88). وَيَبْدُو أنَّ الكاتِبَ ترَكَ عَنْ قَصْدٍ بَابَ الرِّوَايَةِ مَفْتُوحًا. لأنَّ جِراحَ العِراقِ، وَكُلَّ أَوْطانِنَا مَقْتُوحَةٌ على مِصْراعَيْها. يُمْعِنُ الجُوعُ سَيْفَهُ في رِقَابِهَا. وَأَصْبَحَتْ لُقْمَةُ العَيْشِ فيها مُبَللة بِالذُّلِّ. وَأَصْبَحَ مِنْ أَجْلِهَا، يَمْتَطِي المُوَاطِنُ أَمْواجَ البَحْرِ، وَيَخُوضَ عُبَابَهُ. فَيَعْبُرَ إِلى شُطْئانٍ أَكْثرَ أَمَانًا. بَاحِثًا عَنْ رِزْقِهِ، وَلُقْمَةَ عَيْشِهِ. بَلْ مُفَتِّشًا عَنْ قَليلٍ مِنْ نَسَائِمِ الحُرِّيَّةِ، وَالعَيْشِ بَعِيدًا عَنْ المُخْبِرِينَ، وَالمُتَدَيِّنينَ الذين يُحْصُوَن أَنْفَاسَهُ، وَمَسَامَّ جِسْمِهِ، وَكُلَّ هَمَسَاِتهِ. وَمِنْ وَسَطِ هَذِهِ المُعَاناةِ وغَيْرها تُولدُ الحَيَاةُ. كَمَا يَنْمُو النَّخِيلُ في الصَّحْرَاءِ، فَيَهَبهَا مَعْنًى، وَبَعْضًا مِنْ صِفَاتِ الحَيَاةِ. كذَلِكَ تَنْمُو حُرُوفُ رِوَايَةِ الأَدِيبِ والشَّاعِرِ طلال سليم آل جَعْفر الحَدِيثي “عَلى رَصِيفِ الجُوعِ تَنْمُو الشَّقائِقُ”. فِي القلبِ، وَالفِكْرِ. وَتَهَبُ القَارِئَ أَمَلًا بِالغَدِ الذِي نَنْتَظِرُهُ عَلى مَفَارِقِ الطرُقِ، وَمَفَاصِلِ الأَحْداثِ المَصِيرِيَّةِ…