جميلة بوحيرد: أيقونة الثورة .. زمن الخيبات 2/2
جورج الراسي
ستون عاما .. ستون عاما .. بقيت جميلة صامتة بعد الإستقلال، مرات نادرة سمع صوتها عندما كان في الأمر ضرورة، كما حصل في عام 1984، حين الحت عليها رفيقات نضالها لتوقيع رسالة موجهة إلى الرئيس الشاذلي بن جديد يطالبن فيها بعدم إقرار قانون للعائلة الذي كان موضع نقاش في المجلس الوطني الشعبي، والذي تجعل مواده من المرأة قاصرا ابديا ملحقا بالرجل، ويعيدها لا إلى ما قبل الثورة، لا بل إلى ما قبل التاريخ.
ستون عاما من الصمت مضت، حتى كان ذلك اليوم، الأول من آذار/مارس2019، الذي صادف كونه ثاني يوم جمعة من الحراك الشعبي الذي انطلق ضد العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة الذي كان شبه مقعد منذ العام 2013، حين اصابته جلطة دماغية بعد أن أمضى نحو عقدين في سدة السلطة.
سارت جميلة مع جموع الشباب التي لم تكن تعرف حتى وجهها، واضعة نظارات دخانية، وهي تقول لمن حولها “اريد أن أمشي مع شعبي من أجل كرامته”، ثم أضافت إلى مراسلي إحدى الصحف: “إنه استقلال ثان ذلك الذي يتقدم”.
وبعد اسبوعين في 13 آذار/ مارس نشرت بيانا في إحدى الصحف المحلية موجها “إلى أولادها واحفادها الإعزاء تشكرهم فيه على “السماح لها بالمشاركةفي إحياء الجزائر المكافحة الذي سارع البعض بدفنها”.
الزواج من “المنصور ” جاك فيرجيس
بعد خروجها من السجن تقدم للزواج منها محاميها جاك فيرجيس، الذي أصبح في تلك المناسبة “المنصور” والذي استقر في العاصمة حيث كلفه وزير الخارجية الشاب محمد خميستي بمتابعة العلاقات مع دول إفريقيا، لكن هذا الأخير ما لبث أن ذهب ضحية سقوط طائرته، فتحول صهر الجزائر الجديد إلى تأسيس مجلة “الثورة الإفريقية “ “Rêvolution africaine المعادية للإستعمار. وشاركت كل من جميلة وصديقتها زهرة ظريف في تحرير المجلة.
لكن الصراعات التي نشأت داخل اروقة السلطة أدت في ربيع العام 1963 إلى إقصاء الثنائي محمد خيضر ورابح بيطاط الذي كان يحمي المجلة والعاملين فيها، وقام الرئيس أحمد بن بله بإبعاد فيرجيس عن المجلة وسلمها إلى محمد حربي، فما كان من جميلة إلا أن إنتقلت مع زوجها إلى العيش في باريس، حيث تابعت علاجا لمداواة آثار التعذيب الذي تعرضت له وبخاصة جلسات الصعق بالتيار الكهربائي، لكن ثقل الماضي وذكرياته الأليمة جعل حياتها صعبة في العاصمة الفرنسية.
العودة إلى ارض الوطن
بعد انقلاب العام 1965 وإزاحة بن بلة عن السلطة، عادت جميلة وزوجها للعيش في الجزائر العاصمة في شبه عزلة ، مع الإبتعاد عن كل ما له علاقة بالحياة العامة والسياسة، بعكس صديقتها زهرة التي تزوجت رابح بيطاط واتخذت مسلكا آخر.
قدمت لها الدولة منحة متواضعة، وسعت إلى إقامة شركة لإستيراد مستحضرات التجميل مع بوعلام اوصديق احد قدامى ضباط جيش التحرير الوطني .
اما ياسف سعدي الذي كان اول من ادخلها معمعة العمل النضالي ضد الإستعمار، فقد انصرف هو الآخر إلى بعض الأعمال بخاصة في المجال العقاري حيث ابلى بلاء حسنا، وفي مجال الإنتاج السينمائي حيث ساهم في انتاج الفيلم الذي لاقى نجاحا كبيرا معركة الجزائرLa Bataille d’ Alger تلك المعركة التي كان احد ابطالها (وقد صدف ان إلتقيته مرات عديدة في الجزائر مع أصدقاء آخرين).
حتى وردة التي غنت جميلة فقد اضطرت إلى الإنطواء بعد زواجها الأول من أحد مجاهدي حرب التحرير. وكان بن بله قد نصح المجاهدات بالعودة للاهتمام بشؤون المنزل بعد كل ما عانوه من ويلات الحرب. اما زهرة ظريف فقد فتح لها زواجها من رابح بيطاط ابوابا أخرى إذ أصبحت “سيناتورا” خلال عهد الرئيس بوتفليقة.
ذهب كل في طريق وبقيت جميلة معتصمة في شقتها الصغيرة في أعالي حي “البيار El Biarوهي كلمة مشتقة من كلمة “بير” في حياة شبه سرية.
أم إلياس والزوج المختفي
لم تكد جميلة ترخي رأسها من وجع السنوات الملتهبة حتى وجدت نفسها أمام محنة أخرى بعد زواجها، لقد انجبت من “المنصور” إبنة “مريم”، وولد “الياس”، بهذا المعنى يمكن أن نطلق عليها لقب “أم الياس” وفق المعايير المعتمدة في المشرق العربي!
وكما سعى بن بله إلى إزاحة فيرجيس من وسط الطريق ، كذلك سعى بومدين إلى الهائه ببعض الاهتمامات الخارجية بخاصة وأن تأثيرات صينية بدأت تظهر عليه وكان المنصور سعيدا بأدواره الجديدة لأنه بدأ يشعر بالضجر من حياته الرتييبة، فبدأت رحلاته تكثر إلى المشرق العربي وإلى باريس وجنيف حيث ربطته صداقة مع المصرفي François Genoud الذي كان يعتبر سابقا مصرفي جبهة التحرير الوطني. حتى جاء ذلك اليوم من ربيع العام 1970 حين “تبخر” المنصور “ابو الياس” دون أن يترك أثرا غاب نهائيا لم يعد احد يسمع عنه شيئاطيلة سبع سنوات، حتى العام 1978. ترك جميلة تربي الولدين وحيدة، جرحها وادماها.. وخذلها تلك كانت الأوصاف التي ترددها لما حل بها
الجسور قطعت نهائيا بين الزوجين وعندما توفي “المنصور” لم تذهب إلى حضور جنازته في باريس في شهر آب/أغسطس من عام 2013، ولا حتى حضرت حفل التأبين الذي أقيم له في الجزائر في شهر تشرين الأول/أكتوبر من تلك السنة.
الوفاء لماضيها
ظلت جميلة وفية لماضيها وللمبادئ التي دافعت عنها كل حياتها. وقفتها عام 2019 مع الشباب ضد العهدة الخامسة ، لم يسبقها اي حضور يذكر لا عند وفاة بومدين عام 1978، ولا عند بعض الأحداث التي جرت عامي 1980 و2001، ولا خلال صدامات تشرين الأول/ أكتوبر 1988، ولا عشية انتخابات كانون الثاني/ يناير 1992، التي فتحت ابواب جهنم، ولا عند اغتيال الرئيس بوضياف في شهر حزيران/ يونيو من السنة ذاتها.
اقتصر حراكها الشخصي على بعض النشاطات البسيطة، فمنذ العام 2009 اعربت عن معارضتها للعهدة الثالثة للرئيس بوتفليقة، وفي العام 2011 شاركت في مظاهرات الأطباء، وفي العام 2013 وافقت على ترؤس جمعية تحمل اسم “اصدقاء القصبة” الحي الشعبي الذي نشأت فيه، في عام 2014 كررت موقفها ضد العهدة ، الرابعة هذه المرة للرئيس بوتفليقة. حتى كان ذلك الموقف المدوي في الاول من آذار/ مارس 2019 بعد صمت دام ستين عاما.
اليوم تقترب جميلة من عامها الثامن والثمانين ولو قدر لها لرفضت ان ترتاح.