الوحدة التاريخية والمصير المشترك بين الروس والأوكرانيين (1-4)

الوحدة التاريخية والمصير المشترك بين الروس والأوكرانيين (1-4)

د. زياد منصور

نقرأ اليوم عشرات المطالعات حول احتمال قيام روسيا بابتلاع أوكرانيا، كما نقرأ أكثر أن روسيا الحالية وقعت في فخ يشبه المستنقع الأفغاني، فتظهر قيادتها غبية وشاذة فكريا، ما يجعلها تتمتع بجفاف فكري. وهذا بنظر كثر اليوم ليس سوى غياب البراغماتية، حتى أنّ بعض العرب جعل من الحرب الروسية المزعومة قصاصا إلهيا لها جراء ارتكباتها في أكثر من منطقة في العالم، بما في ذلك سوريا، وهذا يجب أن يكون موضع نقاش آخر، عليه أن يظهر أوجه الاختلاف بين الموقف من من الوضع السوري والآخر الذي يجري في أوكرانيا، وإن كنا هنا لا نبرر لروسيا مواقفها وما فعلته في سوريا وغيرها لاعتبارات تتعلق بطبيعة السياسة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. 

في كل الأحوال هذه النظريات الأسخريوطية والطوباوية تنطلق من حطب دماغي لا ينتج إلا شذوذا فكريا، منطلقا من عدمية ونيجيليزم، كما هي عادة الخيال العربي الهائج الذي يختار الموقف والموقع الخاطئ تاريخيا!!!

 لقد فعلها العرب الميامين، يوم اختارت أمزجتهم تأييد هتلر ومشاريعه، فخسر العُرب وطار هتلر كغراب غريب.

*** 

مما تقدم، فإن موقف الانحياز أو الحياد يتطلب دوما العودة إلى بطن التاريخ، خصوصا حول العلاقات الروسية الأوكرانية، وحول الروس والأوكران الذين هم شعب سلافي واحد، ومن عجينة واحدة. هذا ما سأحاول تبيانه كمؤرخ وكاتب درس التاريخ الروسي والسلافي بعمق، وغاص في الكثير من بواطنه وكوامنه…

 ما سأكتبه ليس من باب التماهي مع موجات الكتابة التي تكاد لا تنتهي، ومواءمة لبعض الظروف السياسية الحالية. لقد كتبت عن هذا أكثر من مرة، وهذه هي قناعتي. لذلك، أرى أنه من الضروري توضيح الواقع بالتفصيل، لأتبادل التقييمات مع الآخرين الوضع الحالي، إن أرادوا ذلك.

لعلنا نرى الجدار الذي نشأ في السنوات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، بين أجزاء من مساحة تاريخية وروحية وثقافية وحضارية واحدة ومشتركة، وهذا بلا شك محنة مشتركة كبيرة، بل مأساة.

 بادئ ذي بدء، ما يجري هو نتاج للكثير من الأخطاء التراكمية التي ارتكبت في فترات مختلفة، وهو أيضًا نتيجة العمل الهادف الحثيث لتلك القوى التي تسعى دائمًا إلى تقويض هذه الوحدة الحضارية والتاريخية والثقافية.

 الصيغة المطبقة معروفة منذ زمن بعيد: فرق تسد. وهذا أمر لا جديد فيه ولا لبس حوله. من هنا بذلت جهود حثيثة للتلاعب بالمسألتين القومية والدينية (أوكران – روس، أرثوذوكس – كاثوليك، شرق- غرب) لإثارة الفتنة بين الناس. والهدف تقسيم الجسم الواحد، ثم وضع الناس في مواجهة بعضها البعض.

 ***

لفهم الحاضر بشكل أفضل والنظر إلى المستقبل، لا بد من أن نستدل على بعض المحطات التاريخية. وإذ يستحيل في مقال واحد تغطية كل الأحداث التي وقعت على مدى أكثر من ألف عام. لكن لنعلم أن كل من الروس والأوكران والبيلاروس هم ورثة روسيا القديمة، التي كانت أكبر دولة في أوروبا، حيث تم توحيد القبائل السلافية وغيرها في منطقة شاسعة – ابتداءً من لادوجا ونوفغورود وبسكوف، وصولا إلى كييف وتشرنيغوف – حيث كانوا ينطقون ويتخاطبون بلغة واحدة، تسمى اليوم اللغة الروسية القديمة، كما وحدتهم العلاقات الاقتصادية والمصالح المشتركة في مواجهة غزوات بدو البشينغ، ثم المغول والتتار وسلطة أمراء سلالة روريك. وقبل وبعد ذلك معمودية روسيا – والعقيدة الأرثوذكسية الواحدة.

إن الاختيار الروحي المشترك للقديس فلاديمير، الذي كان أميرًا على نوفغورود وأمير كييف العظيم، يحدد اليوم إلى حد كبير عوامل القرابة بين هذه الشعوب.

 احتل عرش كييف الأميري موقعًا مهيمنًا في الدولة الروسية القديمة. هذا هو الحال منذ نهاية القرن التاسع.  ولا تزال كلمات القديس أوليغ عن كييف محفورة في ذاكرة هذه الشعوب: “أتمنى أن تكون هذه أم المدن الروسية وهي محفوظة للأجيال القادمة من خلال”حكاية السنوات الماضية”، وهو المرجع التاريخي الروسي القديم الأكثر أهمية.

 في وقت لاحق، مثل الدول الأوروبية الأخرى في ذلك الوقت، واجهت روسيا القديمة محاولة إضعاف الحكومة المركزية، وواجهت خطر التشرذم. في الوقت نفسه نظر كل من النبلاء والناس العاديين إلى روسيا باعتبارها مساحة مشتركة، معتبرين اياها وطنهم الأم.

بعد الغزو المدمر لباتو المغولي، عندما دمرت العديد من المدن، بما في ذلك كييف، فاشتد هذا التشرذم. سقط شمال شرق روسيا في أتون التبعية لما يسمى الحشد أو قبائل الأورطة الذهبية، لكنها احتفظت رغم ذلك ببعض السيادة المحدودة.

 أصبحت الأراضي الروسية الجنوبية والغربية أساسًا جزءًا من دوقية ليتوانيا الكبرى، والتي، أود أن ألفت الانتباه إلى ذلك، كانت تسمى دوقية ليتوانيا الكبرى وروسيا في الوثائق التاريخية.

انتقل ممثلو العائلات الأميرية والبويار إلى الخدمة فتنقلوا من أمير إلى آخر، وكانوا في حالة عداوة لا ترحم مع بعضهم البعض، لكنهم أيضًا قاموا بتكوين صداقات، وعقدوا تحالفات.

ففي معركة حقل كوليكوفو، إلى جانب دوق موسكو الأكبر ديمتري إيفانوفيتش، حارب الفويفود بوبروك من فولينيا، أبناء دوق ليتوانيا أولجيرد -أندريه بولوتسكي وديمتري بريانسكي. في الوقت نفسه، قاد دوق ليتوانيا الأكبر جاجيلو، ابن أميرة تفير، قواته للانضمام إلى ماماي المغولي.

 كل هذه صفحات من التاريخ المشترك، هو انعكاس لتعقيداته وتعدد أبعاده.

من المهم أن نلاحظ أنهم كانوا يتحدثون نفس اللغة في كل الأراضي الروسية الغربية والشرقية، وكان الإيمان أرثوذكسيًا. حتى منتصف القرن الخامس عشر، تم الحفاظ على إدارة الكنيسة الواحدة.

في جولة جديدة من التطور التاريخي، أصبحت كل من ليتوانيا- روس ومحاولة تعزيز مكانة موسكو – روس نقاط جذب، وعامل توحيد أراضي روسيا القديمة.

 قرر التاريخ أن أصبحت موسكو مركزًا لإعادة التوحيد، والتي استمرت في تقليد الدولة الروسية القديمة.  أمراء موسكو -أحفاد الأمير ألكسندر نيفسكي -تخلصوا من نيرهم الخارجي، وبدأوا في جمع وتوحيد الأراضي الروسية التاريخية.

 كانت هناك عمليات أخرى جارية في دوقية ليتوانيا الكبرى.  في القرن الرابع عشر، تحولت النخبة الحاكمة في ليتوانيا إلى الكاثوليكية.  في القرن السادس عشر، تم إبرام اتحاد لوبلين مع مملكة بولندا (-تم تشكيل ريتزبوسبوليتا “Rzeczpospolita من كلا الأمتين هما ” (في الواقع الأمتين البولندية والليتوانية).  حصل النبلاء الكاثوليك البولنديون على ممتلكات وامتيازات كبيرة من الأراضي في أراضي روسيا.  وفقًا لاتحاد بريست في عام 1596، خضع جزء من رجال الدين الأرثوذكس الغربيين لسلطة البابا.  تم تنفيذ مشروع لكثلكة الناس وتكريس اللاتينة، وتم طرد الأرثوذكسية.

 كرد فعل، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت حركة تحرير السكان الأرثوذكس في منطقة دنيبر تنمو.  أصبحت أحداث زمن هيتمان بوغدان خملنيتسكي نقطة تحول.  لقد حاول أنصاره تحقيق الاستقلال الذاتي عن الكومنولث الليتواني-البولندي.

في الالتماس الذي قدمه جيش زابوريزجيان إلى ملك الكومنولث في عام 1649، جرى الحديث عن ضرورة احترام حقوق السكان الأرثوذكس الروس، وأن “فويفود كييف يجب أن يكون للشعب الروسي ويخضع للقانون اليوناني، بحيث لن يخطو على كنائس الله…”.  لكن لم يسمع القوزاق ذلك.

 تبع ذلك نداءات ب. خميلنيتسكي إلى موسكو، والتي نظر فيها زيمسكي سوبور.

 في 1 أكتوبر – تشرين الأول 1653، قررت أعلى هيئة تمثيلية للدولة الروسية دعم إخوانهم المؤمنين ووضعهم تحت الحماية.  في كانون الثاني 1654، أكد بيرياسلاف رادا هذا القرار.

 ثم تنقل مبعوث ب. خميلنيتسكي وموسكو بين عشرات المدن، بما في ذلك كييف، التي أقسم سكانها الولاء للقيصر الروسي.  بالمناسبة، لم يكن هناك شيء من هذا القبيل في ختام اتحاد لوبلين.

في رسالة إلى موسكو في عام 1654، شكر ب. خميلينسكي، في مناشداته كل من الملك البولندي والقيصر الروسي، وأطلق القوزاق على أنفسهم اسم الشعب الأرثوذكسي الروسي. (يتبع)

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي