نجيب علي العطار
ممَّا لا ريبَ فيه أنَّ قضايا التَّحرُّر الوَطني لا يجوزُ، بأيِّ حالٍ منَ الأحوال، اختزالُها بشخصيَّةِ قائدٍ من قادتِها أو فصيلٍ من فصائلِها المُقاوِمة مهما عَظُمَتْ إنجازاتُ هذا القائد/الفصيل ومهما تَعمَّقَ إخلاصُه لها. وليستِ القضيَّةُ الفلسطينيَّةُ بِدْعًا من قضايا التَّحرُّرِ، في هذه المسألةِ بالذَّات، وإنْ كانتْ ذاتَ خصوصيَّةٍ تُبرِّرُ اعتبارَها قضيَّةً فريدةً لا تُشبهُ إلَّا ذاتَها. ولكن ثَمَّةَ حيِّزٌ كبيرٌ ومجالٌ واسعٌ لشخصيَّةِ القائد يسمحانِ له بتركِ بصمتِه على مسارِ القضيَّةِ ومصيرِها سلبًا أو إيجابًا. ولعلَّ ياسر عرفات هو القائدُ الفلسطينيُّ الوَحيد الذي تحوَّلَ إلى رمزٍ من رموز النِّضال الفلسطيني تمامًا كالبُندقيَّةِ والكوفيَّةِ وشجرةِ الزَّيتون بكُلِّ ما يحملُه التَّشبيه من معنًى، إذْ أنَّ التَّعاطي مع عرفات هو تعاطٍ مُباشر مع الوِجدان والعقل الفلسطينيَّيْن الذَيْنِ خَلقَا عرفات وأعادَ خلقَهُما تاركًا لاسمِه فيهما حيِّزًا يستحيلُ تجاوزُه بقدرِ ما يَصعُبُ التَّجرُّدُ منَ الوِجدانيَّات أثناءَ الكِتابةِ عنه.
بعدَ تسعَ عشرة سنةٍ على اغتيال «الختيار» تعودُ ذِكراه لتؤكِّدَ حاجَتَنا الضَّروريَّة إليه، وتدفعُنا إلى مُساءلةِ أنفُسِنا بصراحةٍ جارحةٍ لمُتلازمةِ الفَخر بالحاضر التي أصابتنا، نحنُ العربَ، فنسألُ؛ «هل عجزَ الفلسطينيُّون عن إنجابِ ياسر عرفات ثانٍ؟!». بعبارةٍ ثانية؛ «لماذا باتَتْ مُطالبةُ الشَّعبِ الفلسطينيِّ بعرفاتٍ جديدٍ بمثابةِ تحميلِه ما لا يُطيق؟!».
إنَّ حاجةَ الفلسطينيين، والعرب من ورائهم، لقائدٍ مثل عرفات تتبدَّى ممَّا حقَّقَه للقضيَّةِ الفلسطينيَّة عبرَ تسعٍ وثلاثين سنةٍ من الصِّراعِ الذي خاضَه عرفات على مُستويين لا يَقلُّ أحدُهما خطورةً عنِ الآخر؛ المستوى العربي والمستوى «الإسرائيلي». على المُستوى الأوَّل؛ نجحَ عرفات في سَحبِ القضيَّةِ الفلسطينيَّة من يَدِ الأنظمةِ العربيَّةِ الحاكمة، وبخاصَّةٍ النِّظام السُّوري، الذين جعلوا منَ القضيَّةِ ورقةً للتَّفاوضِ وتحقيقِ مصالحِ أنظمتِهم على حساب الشَّعب الفلسطيني وقضيَّتِه. ولا مُبالغة في اعتبار نظام حافظ الأسد أحدَ أخطر أعداء المقاومةِ الفلسطينيَّة، إذْ أنَّه عَمِدَ إلى شَقِّ أبرز تنظيمَيْن فلسطينَيْن مُقاومَيْن؛ حركة فتح والجبهة الشَّعبيَّة لتحرر فلسطين، ولم يَسلَمْ أيُّ فصيلٍ فلسطينيٍّ أو لُبنانيٍّ مُقاومٍ، طيلةَ الحرب الأهليَّة اللُّبنانيَّة، من ضرباتٍ عسكريًّةٍ سوريَّةٍ. فخطوة عرفات الأولى للـ «تحرير» كانت استقلال الفلسطينيين بقرارِهم عن أيِّ طرفٍ آخر، عربيًا كانَ أو غيرَ عربيٍّ.
أمَّا على مستوى الصِّراع مع «إسرائيل»، ومَنْ وراءَها، فقد كانَ أبو عمَّار عبقريًّا في صراعِه وجبَّارًا لا يُشبِهُ إلَّا شَعبَهُ. ولا مُبالغةَ إذا قُلنا أنَّه جعلَ مِنْ كُلِّ العالَمِ مُنطلقًا للمُقاومةِ الشَّاملة ومِنبرًا للنِّضالِ الفلسطينيِّ السِّلميِّ والمُسلَّحِ على حدٍّ سَواء. وتظهرُ عبقريَّتُه في قُدرتِه على استعمالِ «البُندقيَّةِ» و«غُصنِ الزَّيتون» في آنٍ واحدٍ لتنفيذ مشروعِه الرَّامي إلى إقامةِ الدَّولةِ الفلسطينيَّة المُستقلَّة وتحقيق أقصى ما يُمكنُ تحقيقُه في ظِلِّ الواقع الدُّولي آنذاك؛ فمع استمرار النِّظامَيْن العربي والسُّوري في أدائهم تجاه المقاومة الفلسطينيَّة سواءً بضربِها مُباشرةً كالنِّظام السُّوري، أو بسماحِهم لـ «إسرائيل» بضربِ مُنظَّمة التَّحرير في لبنان وتونس، جاءَ تطوُّرُ الأحداث الدَّراماتيكي بعدَ انهيار الاتِّحاد السُّوفيتِّي ليأخُذَ العالَم إلى مَنحًى جديدٍ من الاستفراد الأميركي بالعالَم. فبعدَ سقوط الاتِّحادَ السُّوفيتي واجتياح العراق للكويت والدُّخول الأميركي إلى المشرق العربي واصطفاف مُعظم الدُّول العربيَّة، وتحديدًا مصر ودول الخليج وسوريا، مع القُوَّاتِ الأميركيَّة، أمامِ كُلِّ هذا باتَ عرفات أمامَ خيارَيْن؛ إمَّا أن تكسب القليل أو تخسر كُلَّ شيء. فاتِّفاق أوسلو جاءَ نتيجةً شبه حتميَّة لمآلات الأوضاع العالميَّة، بيدَ أنَّه لا ينبغي أن نُسقطَ من حساباتِنا، إذا أردنا الحُكمَ على أوسلو، أنَّه لا قُوَّةَ في العالَم تستطيعُ أن تُلزِمَ ياسر عرفات باتِّفاقٍ هو لا يُريدُه حتَّى لو أنَّه وقَّع عليه. ولذلك، يُمكنُ القول أنَّ عرفات حقَّقَ عبرَ أوسلو مُكتسباتٍ لا يُمكنُ بدونِها استعادة حقِّ الشَّعب الفلسطيني بكامل أرضِه. ويُمكنُ جَمعُ كُلِّ هذه المُكتسبات تحت عُنوان «الدَّولة الفلسطينيَّة المُستقلَّة»، إذْ حقَّقَ عرفات كِيانًا سياسيًّا للفلسطينيين ذا شرعيَّةٍ وطنيَّةٍ ودوليَّةٍ يكون بمثابةِ قاعدةٍ جديدةٍ للنِّضال الفلسطيني. وليسَ غريبًا ألَّا يَشعُرَ البعضُ بمَعنى تحقيق دولة فلسطينيَّة مُستقلَّة لسببَيْن؛ الأوَّلُ أنَّ النَّموذجَ الذي يعرفُه العربي عن «الدَّولة» هو حالةٌ مُشوَّهةٌ وضبابيَّةٌ ومادَّةٌ للسُّخريةِ كحالِ مُعظمِ دولِنا العربيَّة، والثَّاني، وهو الأهمُّ، هو مآلاتُ السُّلطةِ في فلسطين بعدَ اغتيال عرفات والتي حوَّلتِ النِّظامَ الفلسطينيَّ إلى نظامٍ كحالٍ مُعظمِ أنظمتِنا العربيَّةِ البائسة الواجبِ إسقاطُها.
في حَضرةِ القَتلِ الذي ترتكبُه «العصابة العسكريَّة الحاكمة في تلِّ أبيب»، كما خاطبَها عرفات، وفي حضرةِ الأداءِ المُخزي لكُلِّ العصابات الحاكمة في كُلِّ العواصِم العربيَّة والإسلاميَّة، يَشعرُ الفَردُ بضرورةِ الحِفاظِ على ما تيسَّرَ من ماضٍ «مُشرِّف». ولعلَّ السِّنين المئةِ الماضية من تاريخ هذه المنطقةِ البائسة منَ الأرض لا تُسعفُنا بالكثير منَ الأسماء التي تُشبه ياسر عرفات؛ ذاكَ «الختيار» الجبَّارُ الشَّاهدُ على عجزِنا!
Visited 20 times, 1 visit(s) today