بين روح الدين والإيمان الحر (حلقة 3)
لحسن أوزين
-2) روح الدّين أو التّفكيك الذّاتي للدّولة، وتطييف المجتمع
بعد هجومه على السّياسة بكونها من النّفس الأمّارة بالتّسيّد الذّاتيّ الدّاخليّ المستقلّ عن التّسيّد الدّينيّ الخارجيّ، ورفضه للسّيادة البشريّة السّياسيّة في وضع القوانين وتدبير حياتهم الاجتماعيّة والسّياسيّة، بما يعبّر عن خروجهم من مرحلة القصور العقلي واستقلالهم كمواطنين يسهمون في بناء الحداثة السّياسيّة وهم يتحرّرون من تسيّد المؤسّسات الدّينيّة، ولا رجال دين يتسيدون عليهم، فإنّه لا يرى في تطور حياة الإنسان في فكره وطموحاته وانطلاق طاقاته الابداعيّة الخلاّقة في الاختيار والحريّة والتّدبير…، وما وصل إليه الوجود الانساني الحضاري من تطوّر إلاّ تعبّدا للطّاغوت، ومشوّها للسّياسة والعلمانيّة والحداثة السّياسيّة، وكلّ المؤسّسات المرتبطة بها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وقانونيا وثقافيا. فهو في حرب جهنميّة ضدّ الحداثة السّياسيّة والتّطور الانسانيّ الحضاريّ مورّطا قارئه في الاختيار بين الانحياز إلى الله، أو إلى الطّاغوت. مشوها الرّغبة العارمة لجدارة الانسان في عيش فعله التّاريخيّ في أن يكون سعيدا حرّا طليقا من الصّمائم النّفسيّة الأوليّة لثقافة النّكوص، متخطّيا حدوده الموروثة في الدّين والإيمان والثّقافة والسّياسة والانتماء والهويّة…، ما أمكنه ذلك في صيرورة لا تهدأ، وفي حياة تتغيّر باستمرار.” ويتمثّل غلوّ العلمانيين في تصوّرهم لقدرات الإنسان في كونهم يظنّون أنّ في طاقات الانسان أن يملك نفسه، نفعا وضرّا، إذ لا يخفى عليه شيء من أمره، مراقبا نفسه، بل إنّه يملك مراقبة الآخرين في أفقه ومراقبة العالم من حوله، مستغنيا بحوله وطوله عن تدخّل أيّ إله في شأنه، وجعل بعضهم مهمّته قائمة في أن يزحزح الحدود الّتي تحصر وجوده، بل أن يتجاوزها، وتطلّع آخرون إلى أن يكون العقل بلا حدود، أو تكون الحقوق بلا حدود، أو تكون السّياسة بلا حدود، أو يكون الاقتصاد بلا حدود…والحقّ أنّه لا يضاهي مزعوم معرفتهم بمقدرة الإنسان إلّا ثبوت فاحش جهلهم بحقيقة الإله، فلولا أنّهم بلغوا النّهاية في الجهل بالألوهيّة، لما زعموا ما زعموا للإنسانيّة من سلطان مبين.”.15
هكذا يقدّم التّطور الحضاري الانساني كمعركة بين الإنسان والإله، وهو يتستّر إيديولوجيا على أنّ ما يطرحه من أفكار ليست أكثر من تأويل لورشة بشريّة لها ما لها وعليها ما عليها، حسب سياقها التّاريخ الاجتماعيّ خاضعة للتّعديل والحذف والنّسخ والإضافة في سيرورة تكوّنها وتطوّرها التّاريخي كمدوّنات دينيّة بشريّة تلبّست رداء القداسة، وهذا ما يقوم به حين يقول بعظمة لسانه”ولما كانت نظريتنا تنبني، أساسا، على تصوّر موسّع للوجود الانسانيّ، لزم أن ينطلق تقويمنا للعلمانيّة من هذا التّصور نفسه”16 وهو في هذا الكلام يعصم نفسه من شرّ التّنسيب الّذي تنجزه النّفس/الأنا على حدّ تعبيره لأنّه ربّما قد حصّل بالعمل التّزكوي في مراتب الكمال ما يمكّنه من تخطي الحدود الّتي يضعها للآخرين.” فقد تقدّم أنّ الأصل في التّسييد هو وجود النّسبة الذّاتيّة، فبقدر ما تنسب النّفس إلى الذّات من الاشياء، يكون لها من التّسيد عليها، فلا تسيد بغير نسبة نفسيّة، وحتّى يلزم تسيّد الذّات من وضعها لقانونها، يجب على كلّ من وضع قانونا أن ينسبه لنفسه، ولا يصحّ هذا إلاّ في حالة التّسليم بأنّ الإنسان خالق لأفعاله…ولا شكّ أنّ العلمانيين لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا بخلق الإنسان لأفعاله.”17 . ويتفادى هذا المأزق الّذي يضع فيه نفسه حين يقوم بتسييج إلهيا نظريّته في روح الدّين كما لو أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة في تصنيف النّاس ووصمهم بالكفر وعبادة الطّاغوت كلّما اختاروا أنفسهم خارج الحدود الّتي وضعها الفكر البشري المتستّر بحدود الدّين والإرادة والسّلطة الإلهيّة.
بناء على هذا الرّفض المطلق للعصر وما وصل إليه التّطور البشري على مستوى الحداثة السّياسيّة ينتقل للهجوم على الدّولة الحديثة من زاوية المعتقد، ” للدّولة معتقدها وقناعتها الخاصّين، بدءا بالمعتقد العلمانيّ، وانتهاء بالقناعة السّياسيّة.”18وبالتّالي حسب ما أشرنا إليه سابقا فإنّ من طبيعة هذه الدّولة الحديثة في نظره أن تكون مجرّد كفر يتعبّد للطّاغوت. فيقدّم للقارئ صورة مشوهة حول الدّولة الحديثة والعلمانيّة، مضيّقا الوجود في زاوية منطق: إمّا مؤمن أو كافر، التّعبد لله أو التّعبد للطّاغوت.” المعتقد العلماني معتقد تدبيري يتعبّد به لذات غير ذات الله، ولما كان لا يعبد من دون الله إلاّ الطّاغوت، وجب أن يكون صاحب هذا المعتقد، وقد طغى واستغنى، متعبّدا للطّاغوت.”19 وهو في هذا لا يرى أنّه يضيق فسحة الوجود على المواطن، الّذي لا يريد أن يبقى عبدا تحت عباءة عبء وطأة حراس الحدود الدّينيّة للسّلطة الإلهيّة، السّياسيّة في حقيقتها البشريّة، وهي لا تكفّ عن التهام حياة النّاس بنوع من التّعالي الأقرب إلى مذبح القربان في الإجهاز على إمكانيّة امتلاك قيمة وجدارة الإنسان في أن يكون ويصير إنسانا لا أقلّ أو أكثر.
وفي سياقه سطوه على التّاريخ الدّينيّ يلجأ إلى الانتقاد حين لا يقوى على النّقد مبيّنا ما يعتبره تدخّل الدّولة العلمانيّة في معتقدات المواطنين، وهو يكرّر التّفاهة الإعلاميّة المرتبطة “بالقوانين الفرنسيّة المتعلّقة بمنع ارتداء الحجاب في المؤسّسات التّعليميّة والأمكنة العموميّة”20 والغريب في الأمر أنّه يدافع عمّا يعتبره حقوق المواطنين في حريّة المعتقد بلغة وفكر ومفاهيم ومبادئ لا يؤمن بها، ولا يمكن لخلفيته الدّينيّة الإيديولوجيّة أن تتّسع لمفهوم الإنسان كما بلورته الثّقافة الحديثة، في أبعاده المتعدّدة: القانونيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاعتقاديّة…، حيث فكّر طه عبد الرّحمن ولغته ومصطلحاته لا تتّسع إلّا للأوامر والنّواهي، للرّاعي والرّعيّة، للسّيد والعبد، للشّيخ والمريد، للقبور والأضرحة والأولياء الصّالحين، للمسلم والذّميّ…
هكذا يبحث عن مبرّرات واهية لتشويه مفهوم الدّولة الحديثة، انطلاقا من عدائه للعلمانيّة الّتي يعتبرها شرّا على الدّولة والأفراد لأنّها في نظره تؤدّي بالمسؤولين المتدينين إلى الانحراف عن دينهم. مع العلم أنّه يختار لمعجمه اللّغويّ كلمات بعينها كاتّهام ذكي للعلمانيّة بالكفر والشّرك. ” فمن أشرك بتديّنه علمنة، لا محالة أخذته العلمنة عن نفسه“21 ففعل أشرك هنا حامل لشحنة رمزيّة إيحائيّة ودلاليّة وتداوليّة تستهدف السّياق النّفسي الثّقافي الدّيني للقارئ حتّى يعتقد بأنّ العلمانيّة شرك بالمعنى الدّيني البسيط مسبّبا صاحب كتاب روح الدّين تضييقا على الوجود الانسانيّ، دون أن يقوى حتّى على مناقشة مفهوم الشّرك فلسفيا أو سياسيا أو اجتماعيا…
والأكثر من هذا أنّ طه عبد الرّحمن له موقف سلبي من القيم الاجتماعيّة والثّقافيّة والفلسفيّة الانسانيّة الّتي ظهرت مع بروز عصر الدّولة العلمانيّة الحديثة، الّتي يعتبرها شرّا على الفاعل الدّينيّ الّذي تعرّت أسطرة وقداسة ملّته، أو مرجعيّة جماعته الدّينيّة كفكر بشري تاريخي له شروطه التّاريخيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة، وله ظروفه وسياقاته السّياسيّة الاجتماعيّة، وشرطه الحضاري كسقف يحتوي الإطار المعرفي الّذي تكوّنت وتطوّرت فيه المدونات الدّينيّة، كورشات تأويليّة محكومة بالتّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ والبنى الصّراعيّة للتّناقضات المجتمعيّة. وفي هذه السّياقات المعقّدة والشّديدة التّرابط والتّركيب كان عليه أن يفهم الضّرورة التّاريخيّة لتخطّي الحدود الدّينيّة واحتجاب الأشكال الفكريّة والسّياسيّة والاعتقاديّة للمقدّس، بدل ركوب صهوة النّكوص المرضي، في محاولته تجاوز الواقع بالأوهام.” الحقبة الحديثة الّتي تشهد ازدهار الحداثة وانتشار العلمانيّة…هذه الفترة تميّزت، في بلدان الغرب، بالأفول التّدريجيّ للدّين، بدءا بمؤسّساته التّاريخيّة وانتهاء بمعتقداته الرّوحيّة، وقد عملت قوى العلمانيّة على تسريع وتيرة هذا الأفول، سواء بمحاربة هذه المؤسّسات والمعتقدات أو بإنهاض همّة المواطنين إلى التّمسك بقيم الحريّة والتّسامح والمساواة وطلب أسباب العلم والتّقدم.”22 هكذا يحمل الدّولة العلمانيّة مسؤوليّة هذه الصّيرورة والتّحولات العميقة الّتي مسّت حياة الإنسان والمجتمعات، دون أن يكلّف نفسه فهم حدود ومحدوديّة الاعتماد على الفكر الدّينيّ في استيعاب الصّدمات والرّضّات الّتي تعيشها المجتمعات في حركة تطوّرها التّاريخي. لهذا نجد صاحب روح الدّين يحنّ إلى عصور المتخيّل التّاريخيّ للعبوديّة الدّينيّة والاسترقاق السّياسيّ الاجتماعيّ، بغطاء شرعي للقداسة الدّينيّة. لذلك هو مصرفي تحليله الضّيق والسّطحي للسيرورة التّاريخيّة للمجتمعات، على الهجوم على الدّولة الحديثة الّتي يعتبرها دينا سياسيا ومدنيا أخذت مسحة القداسة وحلّت مكان المقدّس الدّينيّ. ويضيّق رؤية الوجود الانسانيّ حين يربط الفكر والأفكار والقيم الفلسفيّة والعلميّة والثّقافيّة والاجتماعيّة الّتي أنتجت الدّولة الحديثة بحفنة أو طبقة حاكمة. يفعل ذلك بتحايل إيديولوجي ليوهم قارئه بطاغوت الدّولة الحديثة ونظامها السّياسي حتّى ولو كان ديمقراطيا. بهذا التّغابي والخداع الفكري يواصل تضييق العقل والفكر والوجود الانسانيّ وهو يختزله في معادلة الدّولة والقيم الانسانيّة بالطّاغوت. ” إنّ الكيان السّياسي الّذي يقع عليه التّقديس في هذا الدّين الدّهري ليس الشّعب في كلّيته، ولا الإرادة العامّة الّتي تعبّر عنه، وإنّما هو فئة قليلة من أفراد الشّعب وجملة الأفكار المثلى الّتي تخدم أغراضها…تتكوّن الأفكار المثلى لهذه الفئة من قيم دنيويّة صريحة يراد لها، هي الأخرى، أن تضاهي المعاني الرّوحيّة الغيبيّة، شحذا للذّهن وإنهاضا للعمل، بل أن تحلّ محلّها في العقول والقلوب نحو الانسانيّة والتّاريخ والثّورة والمستقبل والوطن والشّعب والدّولة والطّبقة والعرق.”23
وصاحبنا له موقف الرّفض والعداء الصّريح للسّياسة والسّياسي وللعلمانيّة والدّولة الحديثة وكلّ القيم الانسانيّة الّتي أنتجتها البشريّة في سياق تطوّرها الحضاري، حيث لا شيء عنده يعلو على لغة وأوامر ونواهي الشّريعة والشّعائر والطّقوس…، الرّاعي والرّعيّة، السّيد والعبد، الشّريعة والتّوحد الصّوفي… هذا هو عالم سعة الائتمانيّة الّذي يعترض به على ما يسمّيه ضيق العلمانيّة وفق منطق العنف الرّمزي: (إمّا أو)، مؤمن/كافر، فاعل ديني/ فاعل سياسي…نوع من التّعادي والكراهيّة وزرع الضّغينة في جوف الانسان وتحويله إلى مجرّد مشروع موت يبتزّه الفاعل الدّيني باستمرار تحت وطأة عنف ألم رهيب مولّد لعذاب لا ينتهي في طلب الموت والخلاص.” لا خيار ثالث للإنسان، إمّا أن يتعبّد لله أو يتعبّد للطّاغوت، فإنّ التّعبد لأيّ نظام سياسي، أو قل لأيّ نظام تسيدي، إنّما هو تعبّد للطّاغوت، وتفاوت أنظمة الحكم فيما بينها من حيث مراتبها في الإحاطة أو الشّموليّة لا يؤثّر في هذا التّعبد الظّاهر، لأنّ من تعبّد للطّاغوت قليلا كمن تعبّد له كثيرا، فالطّاغوت الأدنى كالطّاغوت الأعلى، بل إنّ اجتهاد بعض هذه الأنظمة في أن تحدّ من نزوعها الإحاطي أو الشّمولي لا يخرج الخاضعين لها مطلقا من هذا التّعبد للطّاغوت، حتّى كأنّ التّسيد المعهود والتّعبد للطّاغوت صنوان لا يفترقان.”24
فربطه للتّسيد والطّاغوت بالسّياسة سهل عليه مهمّة الهجوم على القيم المرتبطة بالدّولة الحديثة معتبرا إيّاها أسسا ماديّة للتّعبد للطّاغوت: سيادة الدّولة، سيادة الشّعب، الفرد…، موضّحا موقفه الرّافض لأيّ تسيّد سواء من قبل الدّولة، الشّعب، الفرد. ” التّسيد من حيث هو كذلك، أي بصرف النّظر عن نسبته إلى الدّولة أو الفرد، لا يوجد إلّا مع وجود ميول إلى الاستعباد، ولا خلاف في أنّه لا ظلم للإنسان أعظم من الاستعباد.”25 يقول هذا دون أن يرى دوره النّكوصي الفكري والسّياسي وهو يسهم في تكريس ثقافة الخوف والحدود العبوديّة، للوصاية على العقل والحريّة والاختيار الإنساني في مواصلة سيرورة الاستيعاب والتّجاوز الّذي يعني تفعيل وإنجاز فرضيّة قتل الأب، عوض مشروع الفاعل الدّينيّ في تكريس التّاريخ الآسن لقتل الأبناء وابتزازهم في موتهم.
يطرح الكثير من الأفكار بنوع من التّحليل الخجول والمبتسر والمزوّر للفكر السّياسيّ الحديث عند الفلاسفة والمفكّرين من جان بودوان وكارل شميت وجان جاك روسو…، يضع كلّ هذا على سرير بروكست، تبعا للأهداف الّتي تتوخّاها استراتيجيّة الكتابة في طرح ما يسمّيه نظريته في رسم طرق الخروج من التّسيّد. فعداؤه للسّياسة والدّولة العلمانيّة الحديثة دفعه إلى ربط التّلازم بين التّسيد والتّسيس، حتّى يقنع قارئه بضرورة التّخلص من الفاعل السّياسيّ والدّولة العلمانيّة، ليفسح المجال الشّرعي الدّيني للفاعل الدّينيّ وحاكميّة الخلافة في السّطو على السّلطة واستعباد وقهر النّاس في موتهم، مقابل فوزهم بحياة النّعيم. “التّسيس والتّسيّد فعلان متلازمان، فلا تسيّد بغير تسّيس، ولا تسّيس بغير تسيّد، فيلزم أنّ الخروج من أحدهما هو الخروج من الآخر، وأنّ نهايته هي نهايته.”26 ولا فرق عنده في هذا بين النّظام الاستبداديّ أو الفاشيّ أو النّظام الدّيمقراطيّ، فكلّها أنظمة عاجزة عن ذلك. الشّيء الّذي يفرض ضرورة الخروج من السّياسة والدّولة العلمانيّة إلى الديانيّة، من خلال العمل التّزكويّ الّذي يعتمد القواعد والسّلوكات والأخلاق الصّوفيّة في الجهاد والمجاهدة لقهر النّفس وبعث الرّوح من مرقدها بواسطة آليّة العروج في مراتب الكمال، بعيدا عن شرّ النّفس والتّسيّد والسّياسة والدّولة العلمانيّة الحديثة وكلّ القيم الانسانيّة، والتّحصّن في كهوف الماضي للاستعباد الدّينيّ تحت ظلّ السّلطة الإلهيّة الّتي تحمينا من شرّ التّدبير البشريّ والانتظام الاجتماعيّ الانسانيّ. بمعنى هجر السّياسة وتفكيك الدّولة العلمانيّة الحديثة، والقيم المرتبطة بها كالسّيادة للشّعب والحريّة، وولادة الفرد…
” العمل التّزكوي أصله هو الخروج من النّفس، استرجاعا للرّوح الّتي في العالم الغيبيّ، وعلامة هذا الاسترجاع مشاهدة آثار هذه الكمالات والصّفات القدسيّة في العالم المرئيّ…وواضح أنّه لا أوسع ولا أحسن من تدبير يجمع بين الظّاهر والباطن، وخاصيّة التّثوير تجعله يستبدل بالتّسيّد ضدّه أي التّعبد، وبالتّدبير السّياسيّ ضدّه، أي التّدبير الدّيني.”27ومن ثمّة يعود إلى تبرير سطوة المتخيّل الدّينيّ في وجهه الصّوفيّ شاهرا لغة الحدود في وجه انفتاح واتّساع الوجود الانسانيّ باسم السّيادة الإلهيّة، بنوع من التّحايل الإيديولوجيّ المقرف في دعوته إلى التّستر على تمركز وانتشار بؤر وتيّارات الحاكميّة للفاعل الدّينيّ تحت رداء حدود الله الّتي في حقيقتها السّياسيّة والفكريّة ليست إلّا ورشة تأويليّة بشريّة في الهروب إلى الأمام بطريقة الانحدار في الزّمان كنكوص مرضي في الانكفاء على الذّات.” ومحال أن تكون حدود الله ومحارمه المبيّنة لعباده، وقد قدّرها وقضى بها بوصفه الواسع الموسّع، قيودا توثّق آفاق وجودهم ومغاليق توصد أبواب عالمهم، وإنّما، على العكس من ذلك، جعلها لهم أقوى الأسباب الّتي تبلغهم إلى تخليص أنفسهم من أشر أنفسهم، فضلا عن تخليصهم من أسر غيرهم.”28
مبيّنا أنّ العمل التّزكوي الّذي يفتح آفاقا متمايزة بسخريّة لاذعة في مراتب الإيمان هو الوسيلة الفضلى للخروج من السّياسة والدّولة العلمانيّة، ولا يجد حرجا في التّجرؤ على اعتقادات النّاس، ونعت إيمانهم بأقبح النّعوت، مميّزا بعنف رمزي ساخر بين الأتّباع الّذين يسمّيهم بالمؤمنين” ولا يزال المؤمن يتزكّى، حتّى تفصله عن أهل الاعتقاد السّاذج مراتب تكاد لا تطوى لهم، فلا يقدرون على توهّم إيمانه، فضلا عن تقبّله، فينكرون حاله ويزرون عليه عمله.”29بهذا الشّطح الفكري الأقرب إلى الهلوسة يطرح نظريته للفاعل الدّينيّ لقلب السّياسة والدّولة العلمانيّة، عن طريق ما يسمّيه الازعاج للدّولة وللآخرين لدفعهم لما فيه الخير، أي من التّعبد للطّاغوت والتّسيد إلى التّعبد لله، ممّا يؤدّي في نظره إلى خلق ما يسمّيه” الحيزات بلا دولة، وهي عبارة عن فجوات أو بالأحرى، فسحات تكسير التّدبير المحيط للدّولة، إذ ينتظم الأفراد في هذه المتّسعات المجتمعيّة.” 30.
فعداؤه للسّياسة وبالضّبط للدّولة العلمانيّة الدّيمقراطيّة الحديثة يدفع به إلى التّنظير لكيفيّة تفكيك الدّولة، ومعاودة إنتاج طائفيّة سياسيّة جديدة بغطاء ديني ينشر الإزعاج الأقرب إلى الإرهاب في التّحريم الدّينيّ والتّجريم السّياسيّ. وبهذا المعنى يكون روح الدّين أو جوهر الدّين أو صميم الدّين…، نوعا من التّحايل الإيديولوجي عند الفاعل الدّينيّ في التّعبير عن نكوصه المرضي إلى عوالم القهر والاستبداد والاستعباد، أو نوعا من التّهور المحتشم الّذي تنقصه الجرأة الفكريّة الفلسفيّة في ممارسة تقوى الفكر حيث النّقد الواضح روح السّؤال.
*****
الهوامش:
يتعلّق الأمر هنا:
بكتاب فتحي المسكيني: الإيمان الحرّ أو ما بعد الملّة، ط1، 2018، مؤمنون بلا حدود.
وكتاب طه عبد الرّحمن: روح الدّين، ط4 ،2017، المركزالثّقافي العربي.
15- ص 196.
16- ص 182.
17- ص 191.
18- ص 208.
19- ص 209.
20- ص 210.
21- ص 212.
22- ص 227.
23- ص 213و232.
24- ص 237.
25- ص 252.
26- ص 254.
27- ص 269.
28- ص 273.
29- ص 288.
30- ص 306.