عفوا غزة وألف معذرة…
خالد بريش
عفوا غزة وألف معذرة…
لقد بعدت بنا الشقة، بل باعدها إخوة الدم، والعدو القريب والبعيد، ومدعو صداقة الشعوب بحصارهم المحكم الذي بلا نهاية…! فغدا مرور الهواء إلى أجوائك يتم إيقافه وتفتيشه، حتى الأجنة التي في الأصلاب يتم استنطاقها فيما لو كانت تقر بسيادتهم على المنطقة وحكام العالم، أم لا…! نعم يفتشون كل شيء، قصائد الحب ورواية ألف ليلة وليلة، خوفا من أن ينطلق السندباد من بين سطورها ويُحَوِّل اتجاه مركبه نحو حيفا وأسدود… فأنت يا غزة في المكان الخطأ، لأنك في وسط مشاريع الصهاينة الاقتصادية، بترولا وغازا وأراض زراعية، ومشاريع عملاقة كـ « قناة بن غوريون »، التي سوف يستثمر فيها إخوة الدم ملياراتهم. وفي الزمن الخطأ، لأنه زمن الانبطاح، ونسيان هموم العروبة، وقضايا المصير، ومفاهيم النضال والفداء، والموت من أجل الحرية ورفع الرؤوس…
عفوا غزة وألف معذرة…
بدأت المعركة في 7 أكتوبر، وانتهت في نفس اليوم، وعلى أيدي أبطالك، والباقي حشرجات مهزوم ذاق مرارة الهزيمة ويعيش لحظاتها متجرعا كأسها. لقد أعاد أبناؤك ترتيب الأبجدية والأضلاع في الصدور، ووضعوا العدادات على الصفر، لتكون بداية البدايات من عند أقدامهم ساعة تجرأوا على فعل ما فعلوا، فأذلوا دولة نووية لها جيش جرار… بينما في المنطقة من هم أقدر منهم بكثير، ولكنهم لا يرفعون أمام جبروت الصهاينة إصبعا…! لقد تجرأ أبناؤك وطاروا كالنسور في السماء كجدهم عباس بن فرناس، بحثا عن حريتهم، وداسوا على كل الخطوط الحمر، فقرر شرطي العالم تأديبك لكي لا تخرجي عن الطاعة مرة أخرى… فأرسل حاملات طائراته الضخمة والفخمة، والمزودة بكل ما يلزم من ذكاء اصطناعي، بحيث تُفرِّق صواريخها بين الذكر والأنثى إلا في غزة، حيث الكل أمامها سواسية ومتهم، ابتداء من الأم لأنها أنجبت أبطالا، والأب لحمله في صلبه جينات خالفت كل توقعاتهم، والعجائز لأنهم ما برحوا يحكون لأحفادهم عن الوطن الجميل فلسطين، وكيف اغتصبه شذاذ الآفاق، وعن الأمهات اللواتي بقرت بطونهن باسم « أرض الميعاد »، سخرية بالله الذي جعلوه سمسار عقارات…!
عفوا غزة ومعذرة…
شددوا عليك حصارهم، فلا ماء صالح للشرب، ولا دواء، ولا طحين يكفي، ولا كهرباء، ولا… ولا… وكل ذلك على مرأى من العالم، في ظل صمت مريب من العاهرين المدعين لحقوق الإنسان… ولا أدري ماذا يبقى من حقوق الإنسان بعد حرمان بلد بأمه وأبيه من أسس الحياة، وما معنى حقوق الإنسان وطائراتهم تقتل الحياة في مهدها…! وأي قاموس هذا الذي فتحوه واستنبطوا منه تعريفات « حقوق الإنسان »، التي لا تجعل دماء الإنسانية متساوية، وتجعل منهم أوصياء يلاحقوننا على كلماتنا التي نكتبها، وتلك التي تجيش بها صدورنا… وماذا يتبقى من حقوق الإنسان، ونحن متهمون مسبقا بالإرهاب بسبب لون بشرتنا وكحل عيوننا…!
معذرة غزة وألف معذرة…
لقد دفع انتصار شبابك كبارهم إلى الهرولة للحجيج عند أقدام الصهاينة غاضبين، معلنين تأييدهم للظلم والفاشية، وفي أيديهم شيكات بالمليارات، وأكياس هدايا مليئة بالأسلحة من كل الأنواع. وذهبوا في الوقاحة إلى أقصاها بأن وصفوا أبناءك بـ « حيوانات »…! ثم أخذوا يجربون أسلحتهم، الذكي منها والغبي، فحولوك إلى حقل تجارب واختبارات… وها هم يتابعون جرائمهم والقتل المجاني، وعداد ضحاياهم لا يتوقف، وهم في طريقهم نحو الشبق…! يقتلون بلا رحمة، وكأنهم يصطادون أرانب في لعبة إلكترونية، فتماهت الأرقام ببعضها، وأصبح الواحد كالألف، لا فرق إلا في بضع أصفار على اليمين… وكل هذا لأن أبناءك « علموا عليهم »، ولوحوا بالرايات منتصرين، والغرب العاهر منذ سايكس ـ بيكو احتكر الانتصارات لنفسه فقط، ولا يحب أن ينتصر أحد غيره، ومن هنا خشيتي على أبنائك، وبالأخص من حقد بعض أبناء جلدتنا، لكونك تسجلين اسمك وانتصارك بأحرف من نور في دفاتر التاريخ دونهم…!
عفوا غزة ومعذرة…
بالله عليك، من أي كوكب أتى أبناؤك حاملين معهم شجاعة وبأسا وعنفوانا، فصنعوا نصرا ومعجزات في زمن نسيناها فيه، ومزقنا دفاترها، وغرق القادة في الانبطاح والتطبيع المجاني…؟ فوجدوا أنفسهم يحاربون كل العالم المتحضر جدا بأسلحته وأساطيله وجواسيسه… لقد أبدع أبناؤك حقا دفاعا وقتالا وتكتيكا وإعلاما وفي كل شيء… وقلبوا كل المعادلات، لتدخل خططهم الهجومية والدفاعية قريبا في مناهج الأكاديميات العسكرية العالمية العليا… وأكملوا طريق أجدادهم في الإبداع واخترعوا للصفر نقطة « من نقطة الصفر »… وتجرأوا على كسر حواجز الصمت، وأعطوا دروسا للنائمين في العسل وأراكيل المعسل، ومرمطوا أنف الغطرسة الصهيونية التي كانت تتباهى مستلذة بهزيمة الجيوش الكرتونية، المخصصة لقمع شعوبها فقط…!
عفوا غزة وألف معذرة…
فأبناؤك اليوم، ومنذ أربعين يوما، يواجهون لوحدهم عدوا لم يحترم يوما إنسانية… ولم يعبأ بأي اتفاق دولي، أو حتى تلك التي وقع عليها وما أكثرها، بل تبول عليها كلها… ولم يكترث بأي نوع من أنواع القوانين، لأنه فوق كل القوانين والأعراف… ولا طبق قرارا واحدا من قرارات الأمم المتحدة، لأنها بالنسبة له مجرد ورق تواليت، ولأن قرارات الأمم المتحدة إنما تصاغ تحت الفصل السابع ضدنا، ولأبناء أمتنا فقط…! والأهم من كل ذلك أنه يعتبر نفسه سيد شعوب الأرض و « شعب الله المختار »، وأيضا محمي من قبل شرطي العالم الإمبريالي، الذي لا يختلف عنه عنصرية وإرهابا وحقدا على أبناء أمتنا… ولهذا، فمن حقه ارتكاب كل أنواع جرائم الحرب، وتلك التي ضد الإنسانية…
عفوا غزة وألف معذرة…
لا تهتمي كثيرا بالعالم المتحضر المنافق، ولا تطالبي بتحقيقات دولية، فالتحقيقات والمحاكم الدولية ليست على مقاسك ومقاس أبنائك… فهم وضعوا لها أسسا وشروطا معقدة لا تنطبق علينا جميعا… ولا يغرنك بكاءهم وحزنهم، فهم يتباكون أكثر حتى على القرود والكلاب والقطط وغيرها من الحيوانات… بينما شهيتهم مفتوحة دائما لرؤية أنهار دماء أبنائك، ودمائنا جميعا والسباحة فيها… ولا تنتظري منهم عدلا أو إنسانية، فتاريخ بعضهم الاستعماري مشين، ويندى له الجبين… ولتتذكري في الأمس القريب كذبهم المفضوح حول أسلحة العراق البيولوجية، وما فعلوه في سجن أبو غريب والفلوجة وأفغانستان وغيرها من بلدان العالم… ولا تصدقيهم إذا ما تبجحوا بأنهم مهتمون بأبنائك وبمستقبلهم، وبأنهم سيجدون لهم ملجأ في منافي العالم… بكل تأكيد سيفعلون، ولكن ليس في وطنهم فلسطين ومدنهم وقراهم التي هجروهم منها عام 1948…!
عفوا غزة وألف معذرة…
لا تسألي عنا، يا سيدة الرجولة والعزة… فنحن تركناك وحيدة كعادتنا، وتركنا أبناءك في الميدان لوحدهم، يقومون بالواجب نيابة عنا جميعا، واكتفى أغلبنا بمشاهدة ما يحدث على الفضائيات، التي تنقل بِحِرَفيَّة صور جُثث الأبرياء الشهداء المشوهة، وصور الدمار المريع في البيوت والمدارس والمشافي والمساجد والكنائس… وتأكدي من أننا لا نشكو ضعفا، بل من طعن في الظهور متواصل، تحت مسميات ومعاهدات وعهود ممن لا يملك، إلى من لا يستحق… وأيضا لأنه لا مسيح بيننا اليوم، يحمل همومك وصليبه ويسير بنا على طريق الجلجلة… اللهم إلا شبابك، الذين حملوا عن أمتنا أوزارها، ويتحملون نتائج الخيانات المتواصلة، والبيع والشراء بالجملة والمفرق. ونحن لم نكتف بالفرجة، بل انقسمنا على أنفسنا كعادتنا ما بين معارض من منطلقات أيديولوجية، وتفاهات غير مفهومة، وبين مؤيد فرح، وقد تحقق بعض من أحلامه على يد أبنائك الذين يقومون بمعجزات عجزت عنها جيوش ضخمة وتنظيمات كثيرة منذ 1948…
عفوا غزة وألف معذرة…
فمثلك من يَعْذُر ويغفر، أيتها المتربعة على عرش الانتصار رغما عن أنوف الجميع… وإني ككثير غيري أجد نفسي فرحا عاجزا أمام بطولات أبنائك، ولا أملك إلا كلماتي هذه، أكتبها لتنحني عند أقدام أصغر طفل من أطفالك، معتذرة، خاشعة أمام رهبة الدماء الطاهرة، المعمدة بالشهادة، فتقدم الاعتذار بالنيابة عني، وعن كل أبناء جيلي، الذي طالما حلم بأن يكحل عينيه بالأقصى وتراب فلسطين… وسلامي إلى كل أفيائك وأحيائك: الشجعية وحارة التفين والزيتون والدرج وعمر المختار وباب الهوى والشيخ رضوان… ومخيم الشاطئ والبريج وخان يونس وجباليا ورفح و… و… سلام إلى رجالك وشبابك الأبطال، وإلى كل الأمهات الثكالى الصابرات بحق، وإلى دماء شهدائك الزكية التي روت ترابك بعد عطش فرضوه عليك… وتحية للرجولة التي ابتدعها شبابك، في زمن كثر فيه الأقزام والحتاحيت… سلام عليك إلى يوم السلام…