رواية “تفصيل ثانوي” لعدنية شبلي: جدلية الاقتلاع والولادة من جديد

رواية “تفصيل ثانوي” لعدنية شبلي: جدلية الاقتلاع والولادة من جديد

لحسن أوزين

     يجد القارئ نفسه أمام رواية قصيرة، لكنها تتطلب الكثير من التركيز، والتأمل العميق، المؤسس على ذخيرة ثقافية تلم بالمعطيات المعرفية التاريخية والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لفلسطين. سواء في ظل الحكم العثماني، أو في سياق الاستعمار البريطاني. لأن سيرورات وتحولات وسياقات داخلية وخارجية، وفي الارتباط أيضا بالعلاقة الكولونيالية، من خلال تأثيراتها البنيوية الرأسمالية والامبريالية، ساهمت في ولادة وتكون وتطور الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. المختلف خطابيا وقانونيا وميدانيا عن الاستعمار التقليدي. الشيء الذي منح صيرورات مرعبة لمنطق الفكر الاستعماري، ولآلياته وأدواته المفاهيمية: الاستعمار، الأرض الفارغة، الاستيطان الزراعي والاقتصادي والقومي الاثني…

   هذه الأرضية المعرفية حاضرة بقوة كرؤية فكرية في الشكل الأدبي والفني للرواية. وذلك من خلال التملك المعرفي والاقتدار الفني للكاتبة، على التعبير عن هذا كله، بواسطة لغة أدبية، كتوسط فني لرؤية الذات، والآخرين والعالم، والواقع الحي المعاش، في صياغته، تقطيعه، وإعادة تركيبه. فالرواية تمارس نوعا من الحفر الجنيالوجي للمشروع الصهيوني المتعالق موضوعيا مع العلاقة الكولونيالية ثقافيا وسياسيا واقتصاديا. والهادف ليس الى السيطرة والهيمنة والاستغلال، كأي تجربة استعمارية تقبل في النهاية تحت وطأة المقاومة بالانسحاب، أو  بشكل من الديمقراطية يقبل ويعترف بالتعدد الثقافي.

   قوة الرواية في اشتغالها الواعي على اللغة في جميع مستوياتها. فلا شيء عفوي وتلقائي أمام رواية تسكن أعماق الكاتبة. تسكنها بالمعنى الفني العميق لصنعة الكتابة في القدرة على إخراج هذه الرواية المتجذرة في الأعماق النفسية، بشكل فني أقرب الى جواب النحات عندما سئل عن سر سحر تحفته الفنية، وصنعته الجمالية، قائلا: أنا فقط أخرجته من الصخر. هكذا فعلت الكاتبة في صبرها الطويل طيلة سنوات، ومعاناتها الشاقة في تحمل شقاء وعبء ومسؤولية إخراج روايتها الساحرة والجميلة الأخاذة، التي تجمع بين التملك الفكري للتجربة التاريخية، والاقتدار الفني المتمكن من منطق الكتابة الأدبية وآليات اشتغالها. في تعرية سيرورات السردية الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية في صراعها مع مختلف أشكال المقاومة الفلسطينية.

أولا: الترابط البنيوي بين الأرض الفارغة واختفاء الآخر

   مع سيرورة القراءة يتبين للقارئ أن الرواية جعلت من مقالة صحفي إسرائيلي، الواردة في إحدى الصحف الإسرائيلية، أرضية لإسراتيجية الكتابة الروائية. في تناولها التفكيكي للمسألة الفلسطينية في علاقتها الصراعية الوجودية والسياسية، بالسردية والمشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني. لذلك يمكن اعتبار الجزء الأول من الرواية تمثيلا فنيا وفكريا  للسردية الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية، التي استثمرت السياسات والاهداف والغايات التي حملتها خطابا وتفعيلا القوى الاستعمارية الاوربية في علاقتها مع الشعوب الأصلانية، التي تعرضت لأشكال استعمارية مختلفة، متفاوتة حدة وشدة ومدة على مستوى البشاعة والهمجية والدموية، والقهر والاستعباد والتطهير.

   حيث يؤسس الاستعمار الإسرائيلي سيادته على الأرض انطلاقا من المفهوم الاستعماري “الأرض الفارغة”. فقد عبرت الدلالات العميقة اللغوية لاشتغال الوصف والايحاء منذ بداية الرواية على أن الاستعمار يستوطن أرضا فارغة خالية غير مسكونة. “لم يكن هناك ما يتحرك عدا السراب. مساحات شاسعة جرداء تعاقبت حتى السماء مرتجفة تحت وقعه بسكون، فيما كاد ضوء شمس العصر الحاد أن يمحو الخطوط التي رسمت مرتفعاتها الرملية الباهتة الصفرة. كان كل ما يمكن تمييزه من تفاصيل هذه المرتفعات حدودا واهنة التوت على غير هدى في انحناءات وانعطافات متباينة، تخللتها ظلال رفيعة لنبات البلان الجاف وللحجارة التي رقطت التلال. عدا ذلك، لا شيء على الاطلاق، فقط امتداد هائل لصحراء النقب  القاحلة، التي جثم فوقها قيظ شهر آب”. 5

   هكذا تجعلنا السردية الصهيونية الاستعمارية أمام فكرة مشوهة ومزيفة، بكون الأرض التي يقف عليها جنود الاحتلال، هي مجرد أرض قاحلة صحراوية، عارية مهمشة و منسية. وتوجد خارج دائرة الحياة البشرية. لكن هذا الفضاء الصحراوي العاري من أي وجود بشري، يخفي في الحقيقة وجود الاخر الذي تم تطهيره وتهجيره، ومنعه من أي شكل من الارتباط التاريخي والجسدي والثقافي والنفسي بأرضه. بدعوى أنها أرض فارغة، وصحراء مهملة متروكة لسطوة قسوة الطبيعة. فتبعا للدلالات التي تنتجها سيرورة القراءة في علاقتها بالخطاب الروائي، يدرك القارئ المعاني القابعة في عمق التركيب اللغوي والدلالي، على أن السردية الاسرائيلية تبني شرعيتها على أساس تطهير بشري عرقي، مما يسمح لها بإبادة المكان وإخفاء كل ما يمت بصلة لحضور الآخر/الفلسطيني، والتخلص من تاريخية المكان الاجتماعية البشرية. وبالتالي جعل المكان أرضا مفارقة للتاريخ الإنساني، كأرض منزلة موعودة لشعب مختار بلا أرض  “الإشارة الوحيدة على وجود حياة ما في المحيط كانت أصوات عواء متباعدة وجلبة الجنود المنهمكين في تجهيز المعسكر”. 5

   وهذا ما يجعل مهمة الجنود مراقبة أي عودة لأهالي القرى التي تم تدميرها، وطردهم خارج أرضهم. واعتبارهم مجرد متسللين من البدو العرب. هذا يعني إبادة المكان وتطهيره من هؤلاء الأعداء للمشروع الاستعماري الذي يسعى الى بث وبعث الحياة في هذه الأرض التي أهملت. “افتتح هو الحديث شارحا بأن مهمتهم الرئيسية أثناء تواجدهم هنا، ستكون، بالإضافة الى ترسيم الحدود الجنوبية مع مصر ومنع المتسللين من اختراقها، تمشيط القسم الجنوب غرب من النقب وتنظيفه من بقايا العرب”. 6

   بهذه القناعات المتجذرة في التنظيف/التطهير يتم فك الارتباط الوجودي والتاريخي بين الفلسطيني وأرضه. حيث يتحول في الخطاب والفعل الصهيوني الاستيطاني إلى مجرد بقايا خارج الدائرة الإنسانية، يلزم التخلص منها، دون عقدة ذنب، أو تأنيب ضمير. فالأمر لا يتعلق فقط بالمعنى التقليدي للأرض الفارغة في الخطاب القانوني الاستعماري، بل بنوع من الحس الوجداني واللاواعي المكون لهابتوس الرغبة الهمجية في محو وإزالة الآخر، و إلغائه وجوديا، استجابة لجنون الرغبة في المحو والإبادة. لأن الأمر يتعلق بخلاص الأرض، وتطهيرها مما يدنسها.

    لهذا “نجد مقولات تستدعي مقولات أخرى مماثلة عن فكرة الأرض الخالية من سكانها الأصلانيين، وهي الفكرة التي أصبحت حجر الزاوية في الميثولوجيا الصهيونية، مثل: إزهار الصحراء ( بالعبرية:). وغزو الأرض(بالعبرية: ) وخلاص الأرض (بالعبرية: ). في الأسطورة الأولى، تحمل كلمة الصحراء معنى مزدوجا، فهي الأرض الجدباء التي تفتقر الى زراعة منهجية، وهي البرية الخالية من أي حضور ذي جذور عميقة”. 160

   بناء على هذا تحدثنا عن التملك المعرفي والاقتدار الفني المتضمن بين سطور الرواية، في صنعتها الأدبية واشتغالها العميق على اللغة الروائية، معجميا وتركيبيا ودلاليا وبلاغيا…، حيث كل مفردة لها شحناتها الدلالية والايحائية والاستعارية. كما لها ذاكرتها التاريخية، ومحسوبة بدقة متناهية. وهذا ما يؤكد مشروعية المدة الزمنية التي تطلبتها عملية الابداع من الكاتبة، لإخراج هذه الرواية من جوف معاناتها، وتحملها عبء الصبر الطويل، من النحت بإزميل صنعة اللغة الفنية، والرؤية الفكرية.

   فقد اشتغلت الكاتبة في الجزء الأول من روايتها على السردية الاسرائلية، وهي تعري الأبعاد الخطيرة في هذه السردية التي جعلت فلسطين مجرد صحراء، أرض عذراء، تركت للقحولة. وهذا ما يجعل من حق المستعمر الاستيطاني السيطرة عليها والاعتناء بها، بعد طرد تلك الكائنات الشبحية المتخلفة من العرب، والمندسة في أرض تطأها تكنولوجيا الإزهار والتحضر. “أعلمهم بأنهم سينطلقون في جولة أخرى قبل الظهر. ثم أخرى، فأخرى في اليوم التالي، فالتالي، غير أن كل ما كشف المكان عنه هو زوابع رملية وسحب غبار، بدا همها ملاحقتهم والعبث بهم. مع ذلك، لم تفلح هذه الزوابع في إيقاف عمليات بحثهم، ولا في أن يحبط سكون التلال الجرداء من عزيمته على العثور على ما تبقى في المنطقة من عرب، كما القبض على متسللين من بينهم، والذين كانوا يسارعون بالاختفاء داخل الكثبان الرملية، حالما يسمعون هدير المركبة”. 14

   وهذه السردية كما شخصتها الرواية وأفلحت في تمثيلها، من خلال الشكل الروائي، تجد جذورها  التاريخية العميقة في التصورات والأفكار  الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية، قبل ما اصطلح عليه المحرقة، والمسألة اليهودية. فقد برزت كتابات ساهمت بشكل فعال بالتضافر مع الحركة الاستعمارية الغربية والتوسع الرأسمالي الامبريالي، الى جانب المشكلة الأوربية المرتبطة بالمحرقة، في تحفيز ومساعدة وتحقيق المشروع الاستعماري الإسرائيلي، نتيجة تقاطع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأوربية الأمريكية في الاستعمار والاستيطان بواسطة قومية اثنية يهودية، كشكل سياسي استيطاني للامتداد الغربي في التحكم والهيمنة على مصائر شعوب المنطقة.

فالقائد اليهودي يسرائيل زانغويل (1864/1926) يقول: “ليس هناك شعب عربي يعيش بانسجام حميمي مع البلاد، يوظف مواردها ويطبعها بطابع مميز، بل في أفضل الأحوال هناك خيام عربية. أما في الأسطورتين الثانية والثالثة، فثمة بلاغة عدائية ترتبط بفكرة أن إعادة تأهيل الأرض، التي هي مقدسة ولكنها مدنسة بوجود الآخر، أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الغزو والتدمير”. 160

   هكذا لا يستطيع القارئ العارف بهذه المعطيات التي تشكل موسوعيته الثقافية، وهو يقرأ ويتفاعل مع صنعة الكتابة الروائية، لتوليد الدلالات وإنتاج المعاني، أن يخفي دهشته ومتعته وأسئلته في قدرة منطق الكتابة الروائية، في اشتغال آلياتها الداخلية، على الإحاطة بكل هذه الخلفيات الفكرية والسياسية التي أسهمت، بشكل أو بآخر، في إنتاج وشرعنة وتفعيل وتحقيق السردية الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية. هنا تكمن جمالية الشكل الروائي، والإبداع الأدبي عموما على الحفر عميقا وإنتاج الجمالية الأدبية والمعرفة الفكرية، التي لا تقل قيمة عما تنجزه الأبحاث والدراسات الفكرية العلمية، للعلوم الإنسانية والاجتماعية، بمناهجها المختلفة. خاصة عندما تتميز الكتابة الإبداعية بالاقتدار الفني في امتلاك أدوات الكتابة الأدبية والرؤية الفكرية، التي تفتح  آفاقا عميقة ، لتوسيع أمل النص الروائي. بما يجعله- النص- محفزا ومخصبا لولادة جمالية التلقي، ومنتجا للدلالات والمعاني، خلال تفاعل القارئ مع النص.

   من تلك الكتابات الصهيونية اللاأخلاقية واللاإنسانية تشكلت الشفرة النفسية الجماعية للاشعور الثقافي الجمعي للاستعمار الاسرائيلي، كتراث همجي متوحش، تقاطع مع التراث الأيديولوجي الكولونيالي الغربي، في استعمار وإبادة الشعوب، عبر العالم من أمريكا وكندا، مرورا بإفريقيا، ووصولا الى أستراليا…

   بمتخيل أسطوري ديني وفكري إيديولوجي، وبقناع حضاري استعمرت شعوب ونهبت خيراتها وثرواتها، بعد أن تم سلخ البعد الإنساني عنها، وتم وصمها بالدنس، الذي يتطلب التطهير. هكذا تم استبعادها من الدائرة الإنسانية، واعتبارها مخلوقات ما دون البشر، والأقرب الى الحيوانات التي يجب تصفيتها ومحوها وجوديا.

   هذا ما تبينه بوضوح كل مقاطع الرواية،  وهي تشتغل فنيا على كل هذا المتن الفكري المعرفي، والثقافي السياسي الواقعي، والقيمي الإنساني، بتوسط جمالي لصنعة الكتابة في مبناها، دون أن تسقط في الخطاب الأيديولوجي المباشر، البعيد عن الأدب والأدبية. تشتغل الكتابة في الرواية تبعا لمنطقها الداخلي في توليد الخصائص الفكرية والمعنوية والدلالية. واضعة في جدلها التفاعلي مع القارئ، الخلفيات والمنطلقات والقيم المتوحشة، المؤسسة للسردية الصهيونية في الاستعمار والاستيطان والاقتلاع للفلسطيني من أرضه خطابا ووجودا.

   “حطت قدماه عند نهاية المنحدر، غادر نحوها مخترقا أغصانها التي سرعان ما انحسرت، كاشفة عن نفر من العرب الواقفين حول النبع بجمود. وقد التقت عيناه بعيونهم التي انفتحت على آخرها، كما عيون الجمال التي نقزت من مكانها فارة بضع خطوات ما إن دوى  عواء الكلب عاليا. ثم خرج صوت إطلاق رصاص كثيف… كان يعلو فقط نحيب مكبوت لفتاة تكورت كخنفساء داخل ثيابها السوداء… لم يعثروا على أية أسلحة في المكان. مشط الرقيبان والجنود المنطقة عدة مرات دون جدوى. التفت أخيرا الى الكتلة المتكورة السوداء… هزها بقوة، فعاد نباح الكلب يعلو، بينما ازداد علو نحيبها هي ليختلط  بنباحه، فدفع برأسها نحو الأرض…. كما اجتاحت رائحتها أنفه، مجبرة إياه على أن يدير رأسه الى الناحية الأخرى”. 24و25

   هكذا تجعل الأيديولوجية الصهيونية اليهودي مجرد آلة، منخورة من بعدها الإنساني، ومشوهة جوفاء ممسوخة، ومعدومة الحس الأخلاقي. جنودها آلات بشعة مهيأة للسحق والقتل. مسكونة برعب محو الاخر المدنس، القذر في سحنته ورائحته العطنة، كالحيوانات والحشرات المقززة الباعثة على الغثيان. فالسردية الاسرائيلية في شفرتها النفسية والفكرية الثقافية اللاواعية، تشحن نظرة الجنود نحو العرب/الفلسطينيين بالكراهية والاحتقار، الممزوج بمتعة المحو والمحرقة. يظهر هذا في قتلهم ونظرتهم الحاقدة، المفعمة بالكراهية نحو الفتاة الموصومة بالمسخ، في صورة خنفساء يختلط نحيبها بنباح الكلب. في هذا التركيب اللغوي الجامع بين البنت والكلب ما يكفي لنفهم الصورة المنحطة التي ترسمها السردية الاستعمارية الصهيونية للعرب والفلسطينيين الى اليوم في اعتبارهم حيوانات بشرية تستحق القتل.

   وتتعرى هذه السردية الصهيونية الاستعمارية، الغارقة في العنصرية، والنظرة الاستشراقية الكولونيالية، تجاه الشعوب التي استعمرتها القوى الاستعمارية الأوربية، حين توصم بالمسخ الفتاة المختطفة، من قيل الجنود مع قائدهم،  وتنعت بالعفونة النتنة، والحيوانية القذرة. وانطلاقا من هذه النظرة تم الاعتداء على جسدها وكرامتها بوصفها قذارة نجسة يجب التخلص منها، وتنسى كأنها لم تكن.

   “هب الضابط نحو الفتاة ونزع بيده اليسرى الغطاء الأسود عن رأسها عن رأسها، ثم عاد ودفع بتلك اليد وبيده اليمنى الممسكة بقوة الخرطوم، الى زيج ثوبها وشدة بقوة في الاتجاهين المعاكسين، عندها شق السكون صوت حاد نجم عن تمزيق الثوب. ثم دار حول الفتاة جاذبا الثوب معه حتى خلعه عنها تماما، ورمى به الى أبعد ما يمكنه، بالإضافة الى شتى الخرق التي وضعتها الفتاة على جسمها وجمعت في نسيجها رائحة روث الماشية، ورائحة حريفة عادة ما يحدثها البول وإفرازات الأعضاء التناسلية… وقد أخذ الهواء يعبق تدريجيا بكل هذه الروائح النفاذة، التي بقي منها ما هو عالق بجسم الفتاة، ما اضطره الى أن يدير رأسه الى هذه الجهة أو تلك بين كل فينة وأخرى، متفاديا استنشاق الهواء في محيطها”. 29و30

    ومع كل صفحة من الجزء الأول من الرواية يتأكد للقارئ ما أشرنا إليه سابقا، من أن الكاتبة خصصت هذا الجزء لعرض و تعرية وتفكيك السردية الصهيونية التي أسست انطلاقا منها وجودها الاستعماري الاستيطاني. وذلك باعتبارها مستعمرة محو وإزاحة، وتطهير عرقي للفلسطيني. وإبادة المكان بسحق وإنهاء كل ما يمكن أن يشير الى الوجود البشري العمراني والزراعي والبيئي. وهذا يعني محو وإخفاء الاخر، كضرورة نفسية وجودية يحكمها تفكير عنصري انفصالي اقتلاعي. ينظرون الى العرب أهل الأرض الأصلانيين بوصفهم مجرد بدو برابرة غرباء. مع ماتعنيه دلالات البرابرة من التوحش الحيواني البعيد عن البشرية المتحضرة، والقريب من الحيوان في لغته ووجوده. هكذا تنتج مستويات اللغة، المعجمية والتركيبية والسميائية، في الرواية علاماتها، و معانيها، ودلالاتها العميقة “الفتاة  وهي تبكي وتبربر بكلمات متقطعة وغير مفهومة اختلط فيها نباح الكلب المستمر”. 36

   لذلك لم يكتف القائد و الجنود بوصم المسخ السيء للفتاة، وسلخ قيمتها الإنسانية البشرية، واغتصابها، بل ظلت شفرتهم النفسية ولاشعورهم الثقافي الاجتماعي الجمعي محكوما بالرغبة الجنونية لشهوة إبادة الفلسطيني. لذلك ظلت ذاكرة القائد عالقة في وحل الاقتلاع، وهو يتأمل قبضة العشب في فم الجمال التي قتلوها، ببرودة المجرم المتمرس على التصفية والاغتيال. ” وقد استقر بصره على ضمة عشب يابس استلقت قرب فم أحدها، وتم اقتلاعها من جذورها، التي مت زالت حبيبات الرمل عالقة بها.”24 صورة الاقتلاع هذه في بعدها الاستعاري هنا جاءت تعبيرا عما يشكل النفسية والذهنية والأيديولوجية الصهيونية الاستيطانية. كل المعاني والدلالات مكثفة في هذا التعبير/العلامات التي تتطلب مقاربة سوسيوسيمائية، للوقوف على ما يتجاوز البعد التقريري المعجمي في لغته المباشرة. وذلك للوقوف على الدلالات الايحائية الكاشفة عن خلفيات المفاهيم الاستعمارية للأرض الفارغة. والكاشفة أيضا عن الفرضيات المسبقة، التي تشتغل كموجهات إرشادية (براديغم)، أي، الهابتوس بلغة بيير بورديو، الذي شكل ذهنية وشخصية المستوطن الاستعماري الاسرائيلي. هكذا تمت تصفية الفتاة استجابة لرغبة الاقتلاع التي اشتغلت بعنف همجي في أعماق نفسية القائد تكريسا لقناعة” الأرض الفارغة”، كما صاغتها الرواية، من خلال مبنى جمالي، تميزت فيه صنعة الكتابة. “جلس فوق إحدى التلال القريبة، وراح يعاين المشهد الأصفر الأجرد الذي غلفه الصمت، خلا من أصوات متبددة للجنود وهم ينادون على بعضهم بعضا أو يتضاحكون. ثم قفزت أمام بصره صورة الجمل الملقى فوق الرمل، بقرب فمه ضمة أعشاب مقلوعة من جذورها، فالفتاة”. 34و35. هكذا هي الصمائم الأولية النفسية الثقافية للصهيوني المشبعة بالكراهية، وشهوة الاقتلاع والإبادة للآخر.

   وبعد كل الايحاءات المضمرة بين طيات اللغة الأدبية ،حول السردية الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية، في الصفحات السابقة تأتي الصفحة 37 لتطرح هذه السردية المتعلقة بالأرض الفارغة، وشرعية محو الفلسطيني وإلغاء أي حق وجودي وإنساني له على هذه أرضه.

   “لا يمكننا الوقوف ومشاهدة مساحات من الأراضي القادرة على استيعاب الألوف من أبناء شعبنا في المنفى، تحت وطأة الإهمال، أو ترانا غير قادرين على العودة الى وطننا. فهذا المكان الذي يبدو بورا الآن، لا شيء فيه عدا المتسللين وبعض البدو والبعير، قد مر به أجدادنا منذ آلاف السنين… لا حق لأحد فيها أكثر منا، بعد أن أهملوها وتركوها مهجورة قرونا طويلة… سنقوم بكل ما في وسعنا من أجل أن نمنح الفرصة لهذه المساحات الشاسعة أن تزهر وتصبح أهلا للعيش، عوضا عن تركها، على ما هي عليه الآن، مجدبة غير مأهولة بالسكان… نتمكن من تحول النقب الى منطقة مزدهرة ومتحضرة، ومركز للتعلم والتطور والثقافة… ستتراجع هذه المساحات الصحراوية تدريجيا مع غرس الأشجار وإنشاء المشاريع الزراعية والصناعية، حتى يتمكن أبناء شعبنا من العيش فيها…نحن لا نؤدي مهمة عسكرية فحسب، بل وقومية أيضا. يجب ألا نترك النقب صحراء جرداء فريسة للقحل ولعبث العرب وحيواناتهم به”.

ثانيا: مثلث التوحش الصهيوني: إبادة البشر، إبادة المكان، إبادة الذاكرة

   تبين الرواية هذا الترابط الجدلي بين إبادة البشر والمكان والذاكرة، تحقيقا لفكرة الأرض الفارغة. سواء من خلال التطهير العرقي والتهجير القسري، ودفع ما تبقى من السكان نحو الهروب. بدعوى أنهم لا يستحقون الانتماء الى هذه الأرض الخلاص، ولا يملكون جدارة الارتباط بهذه الأرض الفارغة الموعودة لشعب بلا أرض. لهذا تمت  أيضا عملية إبادة المكان بهدم القرى الفلسطينية، وتغيير كل المعالم البيئية والإجهاز على كل الآثار الموجودة. والمعالم التاريخية والاجتماعية والثقافية المرتبطة بالمكان. ووضع خرائط بديلة تنهي عملية إبادة المكان، مع إعلان أشكال الوجود الاستيطاني الزراعي والعمراني والسياسي. في تجاهل تام لحركة التاريخ البشري على أن هذه الأرض مأهولة فلسطينية. يمعن الصهيوني في التصفية والاقتلاع للإنسان والنبات والمكان الى حد الإنكار الوجودي للآخر، في نوع من الحياة الانفصالية التمييزية العنصرية، والكارهة لأي اتصال بالآخر الفلسطيني باعتباره ذاكرة مؤلمة للصهيوني في التطهير والترحيل والتهجير والاقتلاع واللجوء في داخل وطنه المستعمر. حيث يتعرض للتشظي والتهميش والاخفاء والمراقبة وللتسييج الوجودي والجغرافي والنفسي والهووي.

   هكذا تعيش وتتحرك الراوية في الجزء الثاني من الرواية كل هذه التمظهرات الممثلة لمثلث الإبادة الصهيونية. حيث الفلسطيني ذاكرة مرعبة ومؤلمة للمستعمر الإسرائيلي، الشيء الذي جعله يفكك واقع الفلسطيني والدفع به الى التمزق والتشظي والامحاء في صورة اللامرئي المهمش والمقصي من دائرة الوجود الصهيوني. يتم تحت ضغط آلية إبادة كل صور الذاكرة في تنكر لتاريخية الموجعة المؤلمة التي يرمز إليها الفلسطيني في الداخل في المخيمات المعزولة وراء البوابات والجدران. مع تكريس آلية التمييز والانفصال والحقد والكراهية خوفا من آلام الذاكرة التي يمثلها هؤلاء الفلسطينيون في النفي الداخلي، أو على التخوم الحدودية، في مخيمات الهجرة واللجوء.

   هكذا نفهم الترابط الجدلي بين كل الإبادات التي يمارسها الاستعمار الاسرائيلي، بدءا بإبادة البشر والمكان، وصولا الى إبادة الذاكرة، والتنكر كليا لحق الوجود الفلسطيني على أرضه، وبالتالي تجب التفكير في بشاعاته المتوحشة في تأسيس وجوده على أنقاض شعب تعرض للتطهير العرقي، ولمكان شوهت كل معالمه الايكولوجية استجابة لشهوة الاستعمار والاخفاء للفلسطيني.

   لذلك بدا مقال الصحفي مشوها، مختلا ومخاتلا، وأيضا بشكل أساسي متنكرا لذاكرته في التوثيق والتأريخ. لأنه معني بإبادة ذاكرة المستعمر الإسرائيلي، وبعيد عن عمل المؤرخ العلمي. وهذا ما جعل الراوية تضع سرديته على سرير الكشف والتشريح، والتحليل والنقد، من خلال أدوات الكتابة الأدبية الروائية.

ثالثا: رمزية ودلالات المرأة العجوز

   اكتشفت الراوية في بحثها عن الحقيقة، حقيقة اغتصاب وتصفية فتاة قاصرة، أن الأرشيف الاستعماري الإسرائيلي، مسكون برغبة إنكار ذاكرته، مع الحرص على إبادة كل المظاهر والتجليات المادية والرمزية التي تدل عن حقيقة توحشه في التطهير والإبادة للبشر والأرض والحياة الاجتماعية والمعيشية و للإنسان الفلسطيني. لهذا لم تكن لتشفي غليلها، المعلومات التي حصلتها في بحثها المحفوف بالخوف في اغتراب حقيقي عن الذات والوطن. كما لو أنها موصومة بالشيهة لكونها عربية فلسطينية. مجبرة في حركتها وسفرها داخل بلدها على  تقمص هويات فلسطينية ممزقة شعبا وأرضا وتاريخا وعمرانا…

   واقتنعت أن من يقف وراء هذا التمزق والتفكك والتشظي للبشر والمكان، لغاية المحو والإبادة، لا يمكن أن يكون أرضية للمعرفة والمعلومة الحقيقية. لذلك تنبه الى ضرورة حماية الذاكرة الفلسطينية في شخص الآباء والأمهات و الجدات، وتحصينها من الضياع والاندثار. وعدم تضييع فرص اللقاء النادرة، كما حدث مع الراوية، فرص لا تتكرر، مع هذه الذاكرة التي تؤرخ بأشكال وتعبيرات شعبية مختلفة في السرد والحكي والفن والغناء والإنتاج…

   كما لو أن الراوية تشير الى أهمية بناء المعلومة، والتأريخ للذاكرة، وللإبادات التي تعرضت لها فلسطين أرض وشعبا وتراثا ثقافي وإنساني، انطلاقا من رؤية نقدية للأرشيف والسردية الإسرائيلية، و ممارسة البحث الميداني في العلاقة مع مختلف التعبيرات الثقافية الفلسطينية بما ذلك الذاكرة الشفوية كما فعلت روز ماري الصايغ.

رابعا: جدلية الاقتلاع والحياة

   قدر الفلسطيني في صراعه مع الاقتلاع الاستعماري  الاستيطاني أن يولد من جديد. أن يعيش ولادته باستمرار. ليس لأنه يحب الحياة، و يواجه حالة التدمير والاحتلال المفروضة عليه. بل أن يكذب باستمرار العنف الوحشي للاقتلاع، في نقض صريح لتصورات الإبادة والاقتلاع، المضمرة في الشفرة النفسية الفكرية للاشعور الثقافي الاجتماعي الجمعي للصهيوني الاستعماري الاستيطاني، حيث كلهم مسلحون بدون استثناء للرغبة الحنونية لشهوة الصهيونية. إن صورة الاقتلاع لضمة العشب المقتلعة التي أيقظت في نفسية القائد المستوطن الإسرائيلي، جنون رغبة شهوة التصفية للفتاة التي اختطفها مع جنوده، هي ضمة العشب نفسها التي تولد من جديد، وفق جدلية ينتصر فيها الإنسان الفلسطيني على مدفع الإسرائيلي. لذلك نلاحظ في الرواية ذلك الارتباط الجدلي بين الموت والولادة، بين الاقتلاع والحياة. وهذا التفصيل الذي يبدو للاسرائيلي المستعمر الاستيطاني، مجرد تفصيل ثانوي، هو الرحم الذي يتم فيه تمرير السائل المخصب بين الاقتلاع والحياة للولادة من جديد.

   “الجلوس في بيتي الى طاولتي أمام النافذة الكبيرة، حيث سيتسنى لي قراءة تلك المقالة التي أكثر ما شد انتباهي إليها بالتحديد، هو التفصيل المتعلق بتاريخ وقوع الحادثة التي تأتي على ذكرها. لقد جرت في صباح ما، سيصادف بعد ربع قرن بالضبط، صباح ميلادي… إنه ميل ربما تلقائي نحو الاعتقاد بخصوصية الذات وعلو شأن الحياة التي تقودها، لدرجة لا يمكن للمرء إلا أن يحبها وكل ما يتعلق بها. بما أني لا أحب حياتي بشكل خاص، ولا الحياة عامة، وحاليا أي جهد من طرفي في هذا الشأن ينصب على البقاء على قيد الحياة… لايمكن استبعاد احتمال توارد علاقة ما بين الحدثين، أو وجود رابط خفي بينهما، على غرار العلاقات التي قد يصادفها المرء بين النباتات مثلا، حين تقتلع ضمة عشب ما من جذورها، بحيث يعتقد البعض أنه تم الخلاص منها نهائيا، ليس إلا لتعود وتنبت عشبة من الفصيلة ذاتها من جديد في المكان نفسه بعد ربع قرن من الزمن”. 62و64

   هكذا تعجز آلة الاقتلاع الجنونية في توحشها واعتقاداتها في إبادة البشر والمكان، والتنكر لذاكرتها في المحو والتهجير والدفع بالسكان الأصلانيين نحو عذابات اللجوء. وهكذا هي المسألة الفلسطينية معنية في كل مرحلة بجدلية الاقتلاع والولادة من جديد. لأن الحياة وإرادة الانسان أكبر من مدافع المستعمر المعبأة بالقذائف، ومن الأيديولوجية الاستعمارية الإسرائيلية المحشوة بالأساطير العدوانية في حق البشر والمكان والشجر….

   الراوية واعية بهذه الجدلية الرهيبة، وهي تعلن في النهاية استمرار الاقتلاع/الولادة، والنكبة/ المقاومة، في وجه المحتل المستوطن، وضد ذاكرته التي ترفض الاعتراف بكونه مستعمر استيطاني مشحون بالكراهية وبلعنة الاقتلاع والإبادة والتطهير العرقي للإنسان الفلسطيني…  

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي