إشكالات إدارية كادت تعصف بحلم!

إشكالات إدارية كادت تعصف بحلم!

الـمصطفى اجْماهْـري

 

حول التحاقي بالسلك الثالث للمعهد العالي للصحافة

     ظهرت أول مؤسسة للتكوين في المجال الصحفي بالمغرب عام 1969 تحت اسم “مركز تكوين الصحفيين”، في إطار اتفاقية مغربية ألمانية، بتعاون مع مؤسسة فردريش ناومان. وكان الصديق محمد راغي، الذي حصل قبلي على شهادة الباكلوريا بثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء قد التحق به في السنة الأولى على إنشائه. لم أكن أعرف الصديق محمد راغي وقتذاك، إلا أنني سمعت بالخبر سنة 1971 حينما سألت أستاذتنا المشتركة في اللغة الفرنسية، الآنسة مونيك هويير، عن إمكانية دراسة الصحافة في المغرب، فأرشدتني للاتصال باثنين من قدماء ثانوية الإمام مالك التحقا بهذا المركز، وهما محمد راغي (من الفقيه بنصالح)، ومحد حفيضي (من بولنوار).

    كان  محمد راغي ضمن الفوج الأول مركز تكوين الصحفيين، الذي ضمّ حوالي عشرين طالبا، والذي فتح مقره بفيلا في ملكية الدكتور محمد عزيز الحبابي بالعاصمة، الرباط. وهذا الأخير هو من ألقى به الدرس الافتتاحي عند انطلاقة السنة 1970-1971. إلا أن محمد راغي، لأسباب مختلفة، لن يكمل به دراسته.

    أما بالنسبة لي فقد حصلت على الباكلوريا سنة 1972، ولم أفكر في حينه الالتحاق بذات المركز ، بعدما حصلت على منحة لمتابعة الدراسة بشعبة العلوم السياسية في ملحقة كلية الحقوق بساحة ميرابو في الدار البيضاء.

   وفي 30 شتنبر 1977 صدر المرسوم المؤسس للمعهد العالي للصحافة، الذي استقر مقره بمدينة العرفان بالعاصمة، ليحلّ محل مركز تكوين الصحفيين. واشترط للالتحاق به التوفر على شهادة الباكلوريا واجتياز مباراة الدخول بنجاح. لكن بعد اثني عشر عاما سيصدر مرسوم في ثالث غشت 1989 تمّ بموجبه إحداث السلك العالي وإلغاء السلك العادي، وبذلك أصبحت شروط القبول هي الإجازة والنجاح في مباراة الولوج.

      فتح هذا المرسوم المجال لنسبة محدّدة من الموظفين للالتحاق به، بعد الخضوع لنفس الشروط وموافقة الإدارة التي ينتمي إليها الموظف. كنت وقتها حاصلا على دبلوم الشعبة الاجتماعية من المدرسة الوطنية للإدارة، وأشتغل بالمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بالجديدة، بعد تجربة دامت بضع سنوات في الإذاعة والتلفزة المغربية كمحرر أخبار. أبلغني الزميل الصحفي عبد السلام المفتاحي بموعد إجراء مباراة الدخول للمعهد، إلا أن عائقا وقف أمامي، وهو شرط السن الذي حُدد في 35 سنة. كنت قد تعدّيت هذه السن بقليل، ومع ذلك قدمت طلبي، لكنه لم يقبل كما سيخبرني ذ. علي الزياني[1] الذي كان يشرف على مصلحة شؤون الطلبة.

      نفس الرفض، بسبب عامل السن، حدث للصديق إبراهيم ياسين (الملحق الصحفي السابق بوزارة الصحة)، وهو ما دفعه، حينها، لكتابة مقال في الموضوع بصفحة “إعلام” بجريدة “العلم”، عبر فيه عن استنكاره لهذا الشرط المجحف بالنسبة لفئة كبيرة من الموظفين.  وقد أخبرني الأخ ياسين، في وقت لاحق، بأنه على إثر ذلك المقال توصل برسالة (أو مكالمة هاتفية) من الدكتور محمد العموري، مدير المعهد آنذاك، يخبره فيها بأن شرط السن سوف يعاد فيه النظر في الموسم الدراسي الموالي.

      وكان تمديد السن هو ما سمح لي وللأخ ياسين، وربما لآخرين، باجتياز مباراة المعهد. ارتكزت المباراة على امتحان كتابي (موضوع عام في مجال الإعلام، أسئلة في الثقافة العامة، ترجمة وتلخيص)، وآخر شفوي عبارة عن حوار مع اللجنة. أتذكر أن المباراة شارك فيها عدد كبير من موظفي وزارة الإعلام. أما بالنسبة للمقابلة الشفوية التي أجريتها فكان من بين أعضائها الدكتور زكي الجابر، والدكتور أحمد تفاسكا، والمخرج السينمائي محمد التازي. وكان يُطلب من المترشح أن يُعرف بنفسه مع إبراز علاقته بمجال الإعلام والصحافة أو عموما بالكتابة، ولما أتيحت لي فرصة التعريف بنفسي ككاتب في بعض الصحف، طرح علي الدكتور الجابر أسئلة بشأن هذه الممارسة، وأسئلة مسّت الحقل الأدبي والنشر وكذا الصحافة المكتوبة وتغطيتها لبعض القضايا الرائجة.

        كان المرشح الذي تلاني للوقوف أمام اللجنة هو الصديق خ. خ. هذا الأخير حينما خرج بدوره من الامتحان الشفوي التحق بي في بهو المعهد وأخبرني بأنه حين دخل على أعضاء اللجنة سمعهم يتكلمون عني بشكل إيجابي، كما أحس من خلال كلامهم بأنهم كانوا مرتاحين لأجوبتي. وتأكدت حينها بأنني سأكون إن شاء الله من بين المتفوقين.

        درس الفوج الذي أنتمي إليه بالقسم العربي السنتين الجامعيتين الممتدتين من نهاية 1989 إلى صيف 1992. وطبعا كان هناك قسم فرنسي من بين أساتذته: ذة. لطيفة أخرباش، وذ. أحمد اخشيشن، وذ. جمال الدين الناجي. وفي السنة الموالية كان عدد طلاب المعهد في السنتين الأولى والثانية، في القسمين العربي والفرنسي، ما مجموعه 108 طالبا من بينهم 42 موظفا أي أقل من نصف عدد المنتمين للمعهد. أكبر نسبة من الطلبة الموظفين كانت تنتمي لوزارة الإعلام. وضم المعهد إلى جانب الطلبة المغاربة طلابا من الدول العربية (السودان ولبنان وفلسطين والأردن وليبيا وموريطانيا [2]..). وكان هناك إحساس لدى كثير من الطلبة بأن بعض الأساتذة بدوا غير مرتاحين لاقتصار المعهد على السلك العالي فقط دون العادي. وفعلا فقد وجدت مبرراتهم طريقها إلى تقرير اللجنة التحضيرية للمناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال، المنعقدة بالرباط في مارس 1993، وهي أن “السلك العالي أصبح يتميز باستقبال طلبة يبحثون في مجملهم عن تحسين وضعيتهم الإدارية، وأن المعهد يعرف عنه أن به أكبر فرص للنجاح مقارنة مع مؤسسات جامعية أخرى، وأن المعهد تنعدم فيه أعراف التعليم العالي، وغياب العلاقة بين المعهد والمؤسسات التي ينتمي إليها الطلبة، وأن معدل التأطير بالمعهد بالنظر لعدد الطلبة المسجلين هو 3 طلاب لكل أستاذ مقابل 32 طالبا لكل أستاذ في المؤسسات الجامعية وحوالي 7 طلاب لكل أستاذ في المتوسط كمعدل تأطير في المعاهد العليا”. وهذا كان حسب رأيهم يجعل تكلفة التكوين في المعهد العالي للصحافة مرتفعة جدا.

    وفي رأيي تبقى الانتقادات الموجهة لنظام السلك الثالث غير صائبة على الإطلاق. فبالرجوع إلى أرقام السنة الجامعية المذكورة كمثال نلاحظ: أولا أن عدد الموظفين لم يتعدّ 42 طالبا بينما 66 كانوا طلبة غير موظفين. ثانيا إن جميع المدارس والمعاهد العليا تُخصص نسبة من المقبولين للموظفين المتوفرين على الشروط المطلوبة. ثالثا القول إن غاية الموظفين تحسين وضعيتهم الإدارية هو تحصيل حاصل بالنسبة للجميع، فحتى الطالب العادي يرغب في تحسين وضعيته الاجتماعية بإيجاد وظيف بعد التخرج. ثالثا إن البحوث التي أنجزها بعض الطلبة الموظفين يمكن اعتبارها إضافات علمية نوعية في الحقل الإعلامي والتواصلي، بحكم استفادتهم من خبرتهم المهنية التي تعززت بما اكتسبوه من تكوين أكاديمي. رابعا إن القول بانحسار الدور التربوي للمعهد لا يد للطلبة فيه بل يتعلق مباشرة بالأساتذة أنفسهم. خامسا نحن كطلبة باحثين، وقتها، لمسنا عن قرب كيف أن بعض الأساتذة لم يكونوا يؤدون عملهم بالفعالية المطلوبة.

    سأعاين عن كثب هذا الموقف الانتقادي بعد أن غادرت المعهد وعملت ملحقا صحفيا بالمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بالجديدة. فبهذه الصفة شاركتُ في المناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال المنعقدة بالرباط في نهاية مارس 1993. كان هناك حضور كثيف من الحاضرين، من بينهم مجموعة كبيرة من أساتذة المعهد، وخاصة منهم الدكتور محمد طلال، منسق المجموعة الخامسة الخاصة بالإعلام المؤسساتي، والدكتور أحمد تفاسكا، منسق المجموعة الثامنة الخاصة بالتكوين الأساسي والتكوين المستمر. تمّ تزويد المشاركين بالتقارير التمهيدية لمجموعات العمل، وضمنه تقرير المجموعة الثامنة الذي اشتمل على 12 صفحة، خُصصت منها 7 صفحات للمعهد العالي للصحافة، تضمنتْ انتقادات بخصوص الجانب التربوي ودور الأساتذة فيه، والعلاقة مع مؤسسات الإعلام، وكذا الملاحظات حول السلك العالي التي أتيت على ذكرها.

    غالبية مجموعات العمل أوصت، من بين ما أوصت به، بإعادة العمل بالسلك العادي مع الاحتفاظ بالسلك العالي[3].

وأعتقد أن الانتقادات الموجهّة للسلك العالي كان يطغى عليها الجانب الشخصي، وينبغي التنويه بأن السلك الثالث خرج فئة متميزة من الباحثين في حقل الإعلام المرئي والمكتوب والمؤسساتي، ومهنيين في التواصل اجتهدوا على مستوى الإدارات التي عملوا بها على نشر الثقافة الإعلامية بمؤسساتهم رغم الصعوبات التي اعترضتهم. ومنهم كوكبة التحقت بالجامعة المغربية أو بمؤسسات بحثية أخرى[4]. وقد تعزّز هذا الدور أيضا بعد خلق “الجمعية المغربية للملحقين الصحفيين وصحفيي المؤسسات” سنة 1994[5]، والتي نظمت (بالتعاون مع مؤسسات أخرى) مجموعة من اللقاءات التكوينية بمقر معهد الصحافة وبالمدرسة الوطنية للإدارة العمومية[6]، كما ساندت بعض المنتمين للمهنة ممن تعرضوا، أثناء ممارستهم لوظيفتهم، لحيف أو تجاوزات[7].

***

     من المشاكل الخارجية التي واجهتني أيضا في بداية دراستي بالمعهد، أنني، ذات يوم، توصلت برسالة من المؤسسة العمومية التي كنت أشتغل بها تطلب مني فيها القيام “بتسوية وضعيتي الإدارية” لأن مديرية التعليم بوزارة الفلاحة، وهي الوزارة الوصية، رفضت الموافقة على متابعة دراستي في تخصص الصحافة على اعتبار أنه، في رأيها، تخصص بعيد عن مجال اشتغال المؤسسة التي أنتمي إليها إداريا. وطبعا كان هذا الموقف غير صائب على الإطلاق لأنني التحقت بالدراسة بناء على موافقة قبلية لمدير المؤسسة، وأيضا بحكم أن الهيكل التنظيمي لمؤسستي كان يضم مكتبا للإعلام الإذاعي، فضلا على أن مذكرة الوزير الأول حثتْ على خلق وظيفة “ملحق صحفي” في مختلف الوزارات والجماعات والمؤسسات العمومية. هذا علما بأنني لم أكن موظفا عموميا وبالتالي لم أكن أتقاضى راتبي من الوزارة الوصية. وهنا خُضتُ معركة أخذت حيزا طويلا من جهدي ووقتي كنت أتردد خلالها بين الوزارة والمؤسسة المشغلة. واهتديتُ إلى حل : فقد طرحت الأمر على الأستاذ محمد العموري، مدير المعهد العالي للصحافة، الذي اتصل هاتفيا بالمدير المسؤول عن التعليم بوزارة الفلاحة وأشار له، في إطار تواصلهما، بأن العملية الإعلامية والإرشاد الفلاحي هما في صلب العمل التنموي الذي تقوم به وزارة الفلاحة والمؤسسات التابعة لها. كما أن العمل الإعلامي يتقاطع مع باقي القطاعات المجتمعية. وفي نهاية حوارهما اتفقا على أن يوجه مشغلي مراسلة وفق هذا التصور لمدير التعليم كي يبني عليها موافقته. وهذا ما حصل.

   ومع ذلك ظل مشكل وضعيتي الإدارية عالقا بعد أن برز موقف آخر معارض من المصلحة المختصة بوزارة المالية والتي رفضت بدورها التأشير على قرار متابعة دراستي بالمعهد العالي للصحافة بدعوى أنه “تخصص بعيد عن القطاع” الذي أنتمي إليه. ومرة أخرى تصدى الأستاذ العموري لسوء الفهم الإداري. وباتفاق مع مدير المؤسسة التي كنت أشتغل بها تم توجيه مراسلة إلى وزارة المالية توضح بأن الهيكل التنظيمي لمؤسستي، والذي سبق أن صادقت عليه وزارة المالية نفسها قبل صدوره، يتضمن مكتبا للإعلام الإذاعي يحتاج إلى صحفي يدبر شؤونه. وقد استغرب ذ. العموري كيف أن مصلحة المصادقة بوزارة المالية لم ترجع لتتأكد من هذه الوثيقة قبل رفض التأشير على قرار متابعتي الدراسة.

    استغرق حل هذه المشاكل البيروقراطية نصف السنة الجامعية 1989-90، مع ما رافق ذلك من قلق وإهدار للوقت. لكن كان عندي إحساس أكيد بأن المشكل لم يقتصر أبدا على الإدارة المركزية، بل كان هناك أيضا نوع من التراخي في معالجته بالفعالية اللازمة من طرف المصلحة الإدارية بالمكتب الجهوي لدكالة الذي كنت أشتغل به وقتها. ذلك أن بعض المسؤولين المحليين كانوا يعتبرون أن إيفاد موظف لمتابعة دراسته العليا على نفقة الإدارة كما لو كان “عطلة مؤداة” تتم على حساب مردودية العمل. وطبعا لم يكن موقف بعضهم يخلو من بعض الحسد. والحال أن هذه التكوينات الجامعية من شأنها أن تكون مفيدة للعمل وليس العكس. وللتذكير فالراحل بول باسكون، مثلا، حين كان مديرا للمكتب الجهوي للحوز في الستينيات، بعث ثلاثة من العاملين معه للتكوين في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس (أحدهم ذ. بن الصحراوي).

   ويتبيّن من موقف الوزارتين معا، على الأقل في تلك الفترة، أن النظرة إلى “الصحافة” ظلت مطبوعة بطابع الريبة وقصر النظر.. ولربما ظل سوء الفهم هذا قائما بين الطرفين مدة طويلة.

_____________________________________

[1]  بعد تخرجه من المعهد العالي للصحافة اشتغل علي الزياني بمصلحة شؤون الطلبة قبل أن يغادر المغرب إلى أمريكا لمتابعة دراسته، ثم عمل هناك أستاذا جامعيا.

[2]  من موريطانيا، مثلا بيبه ولد امهادي، الذي سيصبح صحفيا بقناة الجزيرة القطرية.

[3]   تقرير المجموعة الأولى “الصحافة المكتوبة ووكالة الأنباء”، وتقرير المجموعة الثانية “الإذاعة”، 

[4]  يمكن الإشارة إلى بعض أسماء هؤلاء الخريجين: الروائي محمد الهجابي، الدكتور أحمد العاقد (عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي)، فؤاد صويبة (كاتب ومخرج)، عبد العزيز الرماني (خبير في الاقتصاد الاجتماعي)، عبد السلام المفتاحي (منتج سينمائي)، محمد بهضوض (كاتب وباحث)، يونس برادة (أستاذ جامعي)، وغيرهم.

[5]  ترأس الجمعية الصحفي الراحل بوشعيب زين الدين، الذي كان يعمل بوزارة الطاقة والمعادن.

[6] مثال ندوة “كيف تتواصل مع الصحافة” المنظمة بالرباط من 28 نونبر إلى 3 دجنبر 1994 من تأطير جان بول فرانك ولطيفة أخرباش، و”اليوم الدراسي حول الملحق الصحفي” المنظم بالمدرسة الوطنية للإدارة يوم 3 نونبر 1994 من تأطير ذ. أمين مزوري وذ. علي يعتة.

[7] يمكن الإشارة هنا إلى حالة الملحق الصحفي “ف” بفاس. كما كانت هناك حالة خريجين اثنين التحقا بأحد المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي لكن سرعان ما غادراه بسبب ما تعرضا له من إهمال.

Visited 13 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي