السؤال النقدي في “أسئلة يجب علينا طرحها كنسويات”
لحسن أوزين
انطلاقا من هم معرفي سياسي، حاولت منال حميد غانم في كتابها الصادر مؤخرا، “أسئلة يجب علينا طرحها كنسويات”، اكتشاف السؤال النقدي الجذري القادر على إنتاج معرفة فكرية وسياسية، تسمح ببلورة أفكار ورؤى، يمكنها أن تدعم الحراك النسوي العراقي، في سيرورته التاريخية والقانونية والسياسية والاجتماعية…
وذلك في أفق أن يصير، هذا الحراك، حركة نسوية أصيلة متجذرة في الواقع السياسي الاجتماعي. بوصفها جزءا عضويا من الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، التي تخوض صراعا متعدد المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية…
لهذا مارست التفكير النقدي التاريخي، في سيرورة نشأة، وتكون وتطور الحراك النسوي في تاريخ العراق الحديث والمعاصر. وذلك قصد الإسهام في تطور هوية نسوية واضحة و مستقلة، تمتلك منطلقاتها الفكرية والسياسية، كما تؤسس معرفتها وأدوات وآليات اشتغالها النقدي، لتحقيق تميز وتمايز الذات، فكرا ووعيا وممارسة. وفي الوقت نفسه العمل على إنجاز الاقتدار الفكري السياسي، والتمكين الاجتماعي الاقتصادي في خوض الصراع، وتحديد الخصم المتعدد الخلفيات التسلطية، قهرا وإقصاء، كنظام سياسي اجتماعي ثقافي ديني بطريركي، متمركز ذكوريا.
وتحقيقا لهذه الأهداف في الرقي والنهوض بالحراك النسوي العراقي، حتى يكتسب عن جدارة واستحقاق هوية واضحة، بوصها حركة نسوية، تُجذر تاريخها الخاص، الفكري والاجتماعي والسياسي. باعتبارها حركة مناهضة لمختلف أشكال التسلط والقهر السياسي الأبوي الذكوري في العلاقات الاجتماعية، والمؤسسات القانونية والحقوقية والسياسية، والاقتصادية والثقافية، والدينية والمجتمعية، وفي كل هياكل الدولة والمجتمع. وداخل الأحزاب والجمعيات والنقابات والمنظمات. قامت الكاتبة النسوية منال حميد بقراءة تاريخية نقدية للمسارات التي قطعتها تجربة حضور النساء في المجال والشأن العام المجتمعي والسياسي والثقافي العراقي. مبينة الظروف والشروط والاكراهات الاجتماعية التاريخية التي تحكمت في ولادة وتكون وتطور مختلف أشكال حضور النساء. وذلك تبعا للمساحات القهرية والاقصائية التي سمح بها النظام الاستبدادي البطريركي بنزعته الذكورية، في تفاوت ضعيف وهش، بين العامة أغلبية الفئات المجتمعية الرافضة لحرية وتحرر النساء من مختلف القيود التمييزية المجتمعية والثقافية والدينية الجندرية، والخاصة أقلية الشرائح المثقفة، بمختلف خلفياتها الفكرية والأيديولوجية، العاجزة عن الاعتراف شكلا ومضمونا، بحرية وكرامة وعدالة قضايا وحقوق الحراك النسوي.
وهذا ما جعل المرأة العراقية تعيش معاناة النفي والاقصاء والوصاية القهرية، عبر تاريخها الحديث والمعاصر، من العهد الملكي، مرورا بالقهر الطغياني البعثي، ووصولا الى اليوم بخصائصه الهووية الطائفية السياسية والدينية الرجعية المحافظة. الشيء الذي كبح وعرقل الفعل النسائي في مختلف المجالات التي سجلت فيها حضور المرأة العراقية. حدث هذا على الضد من رغبة المرأة في الحضور والمشاركة الواعية الى جانب الرجل، في مختلف مواقع العمل المجتمعية والثقافية والسياسية والكفاحية.
هكذا تناولت منال حميد تاريخيا طبيعة المجتمع العراقي، من خلال أنساقه الثقافية والدينية والسياسية والرمزية التسلطية الذكورية، التي حالت دون تبلور وتطور الحراك النسوي العراقي. كما وضحت سياقات الفترة الراهنة، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراقي. وما تولد عن ذلك من فرص هشة وضعيفة، فرضتها ضغوطات المؤسسات الأجنبية على النظام الأبوي الطائفي المانع لسيرورة ضرورة التحول الديمقراطي، بما يناسب التغيرات السوسيولوجية والتحولات الثقافية السياسية التي فرضتها سياقات العولمة، وما يرافقها من متطلبات وتحديات علاقات الهيمنة التي يرزح تحت عبئها النظام السياسي العراقي.
في ظل هذه المعطيات الموضوعية التي حالت دون انتقال الحراك النسوي الى مستوى حركة نسوية مستقلة. تنبه الكاتبة الى أهمية استغلال الفرض رغم ضعفها وضآلتها، خاصة الإمكانات التي تتيحها المنظمات الحقوقية والسياسية، على مستوى نشر الوعي بقضايا النساء العادلة. والعمل على توسيع الهوامش المتاحة في انتزاع المكاسب والحقوق. والدفع بالتغيير للقوانين الشخصية والمجتمعية والقانونية التي تعيق إرادة النساء في التقدم والتحول من حراك نسوي عفوي تلقائي مناسباتي، تبعا لمصلحة النظام الأبوي الذكوري، إلى حركة نسوية متحررة من مختلف الموجهات الارشادية التي فرضها عبر التاريخ الاجتماعي التسلط القهري الذكوري. والتفكير جديا، من خلال، براديغم نقيض وبديل، لما هو سائد ومسيطر، قهرا وتخلفا وتمييزا واضطهادا للنساء، وأغلبية المجتمع. وهذا يعني تجذير السؤال النقدي حول المسارات والسياقات، والترابطات الشديدة التركيب والتعقيد التي سمحت باستمرار التخلف، وقهر النساء، ولجم حركة صيرورتهن في بناء ذواتهن فكرا ووعيا وممارسة. وفي الانخراط في الصراعات الاجتماعية والسياسية، والثقافية والدينية. وأيضا في الاحتجاج والثورة والتغيير للأطر الاجتماعية والثقافية التقليدية الذكورية.
لذلك استطاع الفعل النضالي النسوي، من داخل المنظمات، انتزاع مجوعة من الحقوق والمكاسب القانونية والاقتصادية والرعائية في حماية وتحصين النساء من بعض أشكال العنف الديني والمجتمعي والقانوني. مما سمح بخلق ثقافة قانونية وسياسية جديدة بين النساء. وتوسيع مجالات الحضور والفعل الخلاق. خاصة على المستوى الحقوقي والديمقراطي، رغبة في هدم الأنساق الثقافية والاجتماعية القديمة المهينة للإنسان، والمذلة لقيمته وكرامته.
إلا أن منال حميد ترى أن هذا الحراك النسوي في ظل هذه المنظمات، يفتقر الى البعد الاستراتيجي في البناء الواعي الناضج والمسؤول للحركة النسوية. حيث سيطرت عليه النفعية المثقلة بالجري اللاهث وراء مختلف أشكال الدعم المالي الممنوحة من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. لهذا استُغل الحراك النسوي في قضايا واهتمامات تستجيب للتوقعات الأجنبية، أو للمصالح الحزبية الضيقة التي تكرس تعثر وضعف التحول النوعي للحراك، حتى يأخذ مساره النسوي الواضح الصحيح، بوصفه حركة نسوية ذات هوية واضحة ومستقلة. لهذا توجه الكاتبة الكثير من النقد البناء لكل هذه المنظمات في ممارساتها الضيقة والانتهازية. حيث لم تغتنم الفرص التي تتيحها الأجواء الإيجابية، نسبيا، للمشهد السياسي الاجتماعي، رغم سطوة الإسلام السياسي كطرف صراع.
فمنال حميد تفتح دفتر الحساب العسير في حق الحراك النسوي، الذي لم تستطع عشرات المنظمات النسائية تحويلة الى حركة نسوية فاعلة ملتزمة ومنظمة ومسؤولة. حتى تكتسب أرضية فكرية سياسية، وتمتلك تصورات ورؤى للتفكير والعمل والنضال، تبعا لأهداف تميزها كحركة نسوية، وليس كأفراد تتنازعها النجومية العابرة، والأقرب الى التسليع الرأسمالي، في السقوط في فخ الهرولة وراء المنح المالية. مما أدى الى الابتعاد عن التأسيس الحقيقي للشروط والعوامل الذاتية والموضوعية، نظريا وسياسيا، بما يسمح ببروز وتطور حركة نسوية، تمتلك ملفات بحوث علمية للواقع الحي للنساء. وتلتحم بهموم ومعاناة النساء، فكرا وممارسة في الميدان الاجتماعي السياسي، الى جانب الحركات الاجتماعية التي تهدف وتعمل من أجل التغيير. وليس الى إعادة إنتاج الواقع الاجتماعي السياسي الموبوء.
وأمام هذا التخبط الى حد التشظي، تتدفق حرقة الأسئلة النقدية بين سطور صفحات الكتاب، من أول صفحة الى نهاية الكتاب. باحثة عن سر المفارقات الصارخة بين واقع فاض بالمنظمات والجمعيات التي تلبست القناع النسوي، دون أية قيمة مضافة في التعبير الفكري والسياسي عن جدارة وأهلية التمثيل الملموس للحركة النسوية.” فمن يمثل الحركة النسوية في العراق؟
لا يوجد هناك شخص بعينه، أو تنظيم محدد يعتبر ممثل للحركة النسوية، وبالتالي لا تعرف مطالبها أو رؤيتها، أو خصومها بشكل محدد. ولم تنجح المنظمات بأن تكون ذلك الممثل وتكتسب شرعية حمل تلك المفردة: “ممثل”.”36
لهذا لا يمكن للحركة النسوية أن تتكون وتطور إلا انطلاقا، من خلال الجهد الفكري والثقافي والسياسي، الذي يعتمد على الفاعلين النسويين، والفاعلات النسويات. وذلك بخلخلة الأطر الثقافية والدينية والاجتماعية، نقدا وتفكيكا وتأويلا. قصد إزاحة وتعرية الوثوقية التي تلبست قناعة القداسة في تأويل الاجتماعي في الدين والعلاقات والدلالات والمناهج والمقررات التربوية والتعليمية. لذلك ترى منال حميد بأن هذا ما يضمن التغيير الحقيقي، المؤسس على النقد الجذري، عوض المساومة والترضيات، (للدين والعشائر والمليشيات…) أو الاعتماد الواهي على سلطة الدولة والضغوطات الدولية التي تحكمها مصالحها الظرفية، اتي تتغير باستمرار فتنهار بسرعة كل المكاسب الزائفة، لأنها لا تجد أرضيتها الصلبة في طبيعة الأسرة، غير الواعية والمقتنعة بحقوق النساء، التي هي الوجه الجدلي لمتانة وقوة الأسرة ككل في تقدمها وانطلاقها الإيجابي في دروب الحياة. وأيضا في مجتمع منفتح متحرر من تسلط سطوة الذكورة الأبوية. وفي ثقافة تؤمن بالمساواة والحرية والكرامة، وعلاقات اجتماعية ندية وعادلة، وفي النظرة الدينية المتقدمة تجاه الإنسان، وليس فقط مع النساء. وعموما في الرؤية للذات والأخر والعالم، تبعا للقيم الإنسانية التي تنص عليها منظومة حقوق الإنسان، والمواثيق والاتفاقيات الدولية.
فالنسوية في نظر منال أكبر من الانتماءات الضيقة التي تنغلق على نفسها، وفق معايير وتصنيفات أيديولوجية دوغمائية، أو نخبوية لأهل الفكر والثقافة. بل عليها أن تسع جميع من يسعون للنضال ضد كل أشكال التمييز والظلم والقهر الذي يستهدف الإنسان في قيمته وحريته وكرامته. من هنا ضرورة القبول بمختلف الفاعلين والفاعلات مهما كانت خلفياتهم الفكرية، و تصوراتهم ومعتقداتهم الدينية والجنسية والجندرية. هذا يعني توسيع المنظور، لأن “ما هو مهم أن نركز عليه هو مجموع القيم والمعايير التي نجتمع حولها، لا من هي الجماعة التي بها، فمن يستطيع أن يقول رجل كان أو امرأة: نعم هنالك مشكلة تمييز جنسي حتى اليوم، وعلينا إصلاح ذلك. ويجب علينا أن نقوم بعمل أفضل جميعنا، فهو نسوي، وهي نسوية، وعلى النساء والرجال على حد سواء أن يقوموا بعمل أفضل.”49
ولبناء الكينونة والهوية النسوية لا ينبغي الاعتماد على آليات الترضيات والالتماس. أو الاتكال على ما يتصدق به النظام السياسي لتلميع صورته، وتبرير سيطرته و هيمنته. فحقوق النساء ليست منحة أو هدية، خاضعة لمزاج النظام السياسي بين تلبسه القناع العلماني أو الديني. لأن هذا النوع من التفكير والممارسات السياسية هي التي جعلت واقع النساء يعاني من الموات الأبدي. ولعل تجربة داعش والحشد الشعبي، وحركة الطالبان والتجربة الإيرانية في ولاية الفقيه، شهادة على هشاشة وضعف الاعتماد على آلية الالتماس، والحقوق الممنوحة. من هنا ضرورة بناء الوعي وامتلاك المعرفة والآليات التحليلية النقدية، التي تسمح بالتفكير عالميا والتصرف وفق ما يتطلبه الواقع المحلي من تغيير جذري في وضع القوانين والاستجابة للحقوق، كممارسات ثقافية سياسية، من إنتاج المجتمع البديل الذي تبنى صيرورته في القبول والاعتراف بالتحولات، التي تسمح بولادة حركة نسوية متجذرة في المجتمع والثقافة والدولة.
“ما نريد أن نكونه يتطلب منا نبذ آلية الالتماس والتركيز على النقد الجذري للنظام، وأن نتمكن فكريا وعمليا من بناء حركة تكون على درجة من القوة الطبقية والوعي الجماعي لتؤثر في الرأي العام فتحصل على حقوقها ومطالبها.” 55
وفق هذه الرؤية يتعرف الحراك النسوي هويته المستقلة، التي تمنحه، انطلاقا من امتلاك فكري سياسي لأدوات التحليل والتفكيك النقدي، إمكانية الضرورة التاريخية، للتأسيس لحركة نسوية تتعرف ذاتها ومهماتها وأهدافها وغاياتها. وفي الوقت نفسه تحدد بوضوح فكري وسياسي خصومها المتمثلين في مثلث القهر والتسلط والاقصاء، (النظام السياسي الاستبدادي، والنظام الأبوي بنزعته الذكورية المركزية، والإرهاب الديني المرن والمتوحش). وفي ظل هذا المثلث المرعب الرازح تحت عبء وطأة التخلف والتبعية الناتجة عن اقتصاد الريع، المكرس للاستبداد والقهر السياسي الاجتماعي، والقيم الثقافية المجتمعية الذكورية، تعيش النساء وضعيات تتراوح بين أمة في المنزل، أو جارية مستحدثة، أو سلعة تباع في السوق بالمعنى الرأسمالي في الاستغلال، وسلخ القيمة الإنسانية، في مهن هامشية، دون قيمة اعتبارية تحفظ كرامتها، ولا مكانة مادية اقتصادية تحقق استقلالها الشخصي، والتحكم في زمام مصيرها. وبالتالي ينحصر دورهن في عملية إعادة الإنتاج للعلاقات الإنتاجية والاجتماعية، التي تضطهدهن وتقهرهن بشكل رهيب ومضاعف. مع وصمهن بمختلف النعوت والأسماء القدحية في نوع من العنف الرمزي والنفسي والاجتماعي والجسدي…
وهذا ما يفرض عليهن شروط وظروف وضعيات السمع والطاعة والعبودية الصريحة أو المقنعة. فينتج عن هذا أمراضا نفسية وجسدية، وحالات مختلفة من التوترات والاضطرابات المتفاوتة الحدة والشدة والمدة، التي قد تغتصب العمر كله في تفاهة اليومي العطن، مع كم هائل من الآلام العميقة. ويتعاطى مثلث الموت مع محنة ومحرقة النساء هذه باللامبالاة والتبخيس والاحتقار والتفاهة والسخرية…
“المشكلات التي يتعرضن لها قد يصفها الرجال بأنها تافهة ولا تستحق الحديث عنها لا في المضيف، أو في المحكمة، ولا عند اجتماع الأهل، ولا عند استشارة رجل الدين، ولا في الثرثرة مع الأصدقاء، ولا حتى في غرفة النوم، فهي مصدر إزعاج ومبعث للكوابيس. ويجب على المرأة حلها بنفسها دون الاستعانة بشخص آخر، فهي “تافهة” ومدعاة للسخرية. وعبر وسائل الإعلام هي مصدر للضحك أكثر منها مشكلة يتألم منها طرفين.” 67
في هذا الكتاب تعري منال حميد الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المؤلم لكل الشعب، وبصورة رهيبة في حق النساء. حيث تختفي أبسط أشكال الحصانة والحماية للقيمة الإنسانية للنساء، من العنف، والاستغلال والتهميش، ومختلف أشكال الظلم، داخل البيت وفي العمل، ومن داخل التقاليد والعادات التي تتحكم في روحها وجسدها ختانا وزواجا وأغتصابا وقتلا باسم الشرف…
وهذا ما يجعلنا نفهم لماذا النساء العراقيات يحترقن انتحارا (سنة 2019 وحدها تم تسجيل 346 حالة انتحار قامت بها سيدات أغلبها تمت حرقا). بثروة نفطية لم تحفظ كرامتهن، ولم تصن قيمتهن الإنسانية في العيش الكريم، حرية وعدالة ومساواة، وتقديرا واعترافا بوجودهن، الفاعل والمستقل، السياسي الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي…
هذه هي الأرضية الموضوعية والذاتية التي يعتمدها مثلث الموت الاستبدادي السياسي، والأبوي الذكوري، والديني العنصري الطائفي التمييزي في حق النساء. وهي أرضية يمكن للحراك النسوي أن يؤسس، من خلال فعله الاحتجاجي، منطلقاته الفكرية والسياسية، ويطور أدوات وآليات اشتغاله، بما يسمح باختراق وتفكيك ونخر أعمدة السيطرة والهيمنة السياسية والذكورية والدينية، لهؤلاء الخصوم. وبالتالي التحرك نحو حركة نسوية حقيقية، يكون لها حضور وازن ومؤثر مجتمعيا وقيميا وثقافيا، وسياسيا وإعلاميا، خاصة في الصراع ضد الإسلام السياسي الذي تقنع بالدين، وسيج نفسه بالقداسة الإلهية. مانعا وقامعا التفكير والنقد، والتساؤل والإبداع الخلاق، والاحتجاج…
والجميل في الكتاب أيضا هو السؤال النقدي حول مدى تأثير الحراك النسوي في النساء. والتعرف على واقعهن المؤلم الذي يفتقرن فيه الى طرائق وأساليب الاشتغال على الذات وعيا وفكرا ومعرفة، في فهم وتحليل ونقد مختلف الوضعيات المشكلات النفسية والعاطفية والعلائقية الاجتماعية، الموسومة بالعنف والتهديد الديني والمجتمعي. مما يتطلب الاقتراب من واقعهن والتعرف على المسكوت عنه والمكبوت خوفا وقهرا في حياتهن اليومية، والمتداول أيضا في وسائل التواصل الاجتماعي. وأخذ هذه المشاكل بجدية من أجل البحث عن أشكال التدخل والمساعدة، وبالتالي التأثير الإيجابي الهادف لخلق ثقافة نسوية أختية تضامنية. وهذه الأشكال من الفعل النسوي تكشف ما يتستر عليه النظام السياسي الذكوري في اعتماده التأويل الديني العبودي الانهزامي القابل للخنوع والطاعة والظلم كقدر إلهي، وقناعا إيديولوجيا للسيطرة والهيمنة والقهر والتسلط، والتحكم في الأرواح والعقول والأجساد.
تطرح منال حميد هذه المعطيات، بوصفها حقائق اجتماعية سياسية، وثقافية ودينية خطيرة ومسمومة في تشويه الوعي، واستيلاب وتغريب المواطن العراقي. وتقديم الواقع من قبل مثلث القهر والموت كحقائق طبيعية تخضع للقدر المحتوم، حيث لا حيلة للمواطن، خاصة النساء، في رفضه والسعي الى تغييره، خوفا من الكفر والتمرد على حكمة الله في خلقه. لهذا تشير الكاتبة إلى ضرورة ارتباط النسويات بالجماهير النسوية، والعمل معهن لمدهن بالمعرفة والوعي والفكر النقدي في امتلاك جرأة الرفض.
“هذه الـ (لا) إذا نطقت من فرادى قد يكون ثمنها التصفية الجسدية بأسوإ الأحوال والنبذ المجتمعي بأحسنها. لكن ماذا سيكون رد فعل المجتمع لو نطقت من مجموعات؟ ماذا سيكون رد الفعل لمجتمع يدعي بمثالية زائفة أنه محافظ؟” 92.
وإزاء هذا الواقع المعقد ظلما وقهر واستغلالا، تتأكد جسامة المهام والممارسات المعرفية والسياسية والتواصلية…، إذا ما أراد الحراك النسوي تجاوز إخفاقاته السياسية والاجتماعية والمعرفية في إنتاج حركة اجتماعية نسوية، قادرة على التقاطع مع مختلف القوى التي تسعى إلى التغيير الاجتماعي، وفق رؤية فكرية سياسية تعتبر أوضاع وقضايا النساء محورا جوهريا لتحقيق التغيير على كل المستويات الاقتصادية والإيديولوجية والسياسية. وأنه لم يعد يكفي الحضور الشكلي في المعارك الجانبية، التي تتوخى حب الظهور العددي، أو التميز الفردي العاجز عن خلخلة وتفكيك القهر السياسي والتسلط الديني في تأويله وتبرير للسيطرة الأبوية الذكورية باسم المقدس البشري في الفهم والتفسير والتمرير والشحن القيمي والثقافي لقيم الطاعة والاسترقاق الاجتماعي والسياسي لا غير. مع الحرص على الانفتاح على النساء من مختلف الفئات الاجتماعية الشعبية كالعاملات والفلاحات والمزارعات…، وبناء التنظيم النسوي، واعتماد التمويل الذاتي المتحرر من الوصاية، ومن التدخل الأجنبي في رسم أشكال العمل والفعل والتحالف والشراكة…